Top
Image Alt

آدابه عند المحكمة

  /  آدابه عند المحكمة

آدابه عند المحكمة

يُستحب للقاضي أن يكون له مجلس فسيح بارز, مصون من أذى حرّ، أو شدة برد، وأن يكون هذا المكان -وهو مكان المحكمة، أو مجلس القضاء- لائقًا بالوقت والقضاء، لائقًا بالوقت من حيث الحر والبرد، ولائقًا بالزمان زمان القضاء، ولائقًا أيضًا بكونه محكمة؛ فيكون فسيحًا رحبًا مصونًا، ويكون أيضًا ليس فيه ما يؤذي ولا حتى بالروائح؛ فتكون الرائحة المنبعثة عنه طيبة عطرة ليس فيها دخان ولا غبار، كأن يكون المكان دار فسيحة واسعة وسط البلد إن أمكن ذلك؛ ليكون هذا أفضل وأوسع بالنسبة للخصوم، وأقرب إلى العدل والراحة, وينبغي أن يكون القاضي في مكان مريح حتى لا يُصاب بالملل أو الضجر، فهذا قد يؤثر عليه في استنباط الحكم، أو الوصول إلى إنهاء ما بين يديه من منازعات.

هل يجوز القضاء في المسجد؟

الواقع أن الفقهاء اختلفوا في ذلك؛ فذهب الحنفية والحنابلة إلى أن القاضي يجلس للحكم في المسجد, وعلَّلوا ذلك بأن الجلوس والقضاء في المسجد, خصوصًا المسجد الجامع الكبير الذي يصلّي فيه الناس الجمع والجماعات، فهو معروف لهم، وأيسر على الناس في الوصول إليه، وأسهل عليهم أيضًا في الدخول؛ لأنهم يدخلون المسجد في أوقات الصلوات، وفي غير أوقات الصلوات، فهذا أيسر وأفضل، وأجدر أيضًا ألا يُحجب عنه أحد؛ لأنه لا أحد يحجب في الأصل عن المسجد ما لم تكن هناك ريبة. واحتج الحنفية والحنابلة في ذلك بما رُوي عن عمر بن الخطاب، وعثمان بن عفان، وعلي بن أبي طالب؛ أنهم كانوا يقضون بين الناس في المسجد.

أما المالكية, فنجد أن موقفهم من هذه المسألة موقف ينبعث من طريقتين:

الطريقة الأولى: أن يكون القضاء في المسجد, أي: في صحن المسجد، وليس في المسجد نفسه؛ حيث يصلي الناس.

الطريقة الثانية: أن القضاء في المسجد من الحق, والقول قديم, أي: هو موجود حتى في الأمم السابقة؛ لقوله تعالى: {وَهَلْ أَتَاكَ نَبَأُ الْخَصْمِ إِذْ تَسَوَّرُوا الْمِحْرَاب إِذْ دَخَلُوا عَلَى دَاوُودَ فَفَزِعَ مِنْهُمْ} [ص: 21، 22] إلى آخر الآيات، فهذه الآية تدل على أن الخصمين دخلا على داود في محرابه، والمحراب هو محراب المسجد -أي: في مكان الصلاة- فدخلا عليه فاختصما إليه، فحكم بينهما؛ فهذا أمر قديم ولا بأس به, ومعنى هذا: أن المالكية لهم طريقان في هذا؛ طريق بالجواز، وطريق بالكراهة.

وأما الشافعية, فيرون أن القضاء في المسجد مكروه، ولا ينبغي أن يكون؛ لأن مجلس القضاء لا يخلو من اللغط، وارتفاع الأصوات، وقد يحتاج إلى إحضار المجانين والصبيان الصغار، والمسجد يُصان عن ذلك كله لما قد يفعله به هؤلاء؛ بل وردت أحاديث وآثار, منها أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: “جَنِّبوا مساجدكم صبيانكم ومجانينكم”، وورد النهي أيضًا عن ارتفاع الأصوات في المسجد؛ لأن ارتفاع الأصوات في المسجد والكلام فيه -الكلام الدنيوي- يأكل الحسنات.

هذه حجة الشافعية؛ بل إنه قد يؤدي ذلك إلى دخول الحائض، والجنب في المسجد بقصد الاحتكام إلى القاضي.

وأما ما رُوي عن سيدنا عمر، وسيدنا عثمان بن عفان، وسيدنا علي بن أبي طالب من أنهم كانوا يقضون في المسجد؛ فهذا يُحمل على أن الخصومة كانت مصادفة عند حضور القاضي للصلاة في المسجد، فتكون هناك خصومة فيقضي فيها؛ لكن الأصل هو أن يكون القضاء في مكان غير المسجد.

على أي حال؛ في العصر الحديث أصبحت هناك بنايات مخصوصة، وأماكن للمحاكمة -والحمد لله- تتمتَّع بكثير من الصفات التي استشرف إليها فقهاؤنا، وعلماؤنا القدامى -رحمهم الله.

أيضًا من الآداب التي ينبغي أن يتأدَّب بها القاضي في المحكمة: ألّا يقضي في الطريق، أي: إذا كان المسجد مكروهًا القضاء فيه، فالطريق من باب أولى؛ لأن الطريق ليس موضع سكون ولا هدوء, إنما للذاهب والرائح والجائي، وما ينبغي أن يُقضى في الطريق، وإلا استهان الناس بالقضاء واستهانوا بالقاضي نفسه.

أيضًا على القاضي ألا يُفتي فيما كان موضع خصومة, أي: في الأمور التي تحتاج إلى بينات وخصومات, فقد يستدرج بعض الناس القاضي فيسألونه كأنهم يستفتونه في مثل هذه القضايا؛ ليعرفوا كيف يحكم أو بماذا سيحكم, ولذلك على القاضي أن يعتذر عن الفتوى؛ خصوصًا في مكان مجاله القضاء.

بالإضافة إلى هذا ينبغي أن نعلم أنه لا خلاف بين الفقهاء في أنه لا ينبغي للقاضي أن يقضي وهو غضبان؛ لأن الحديث الصحيح المتفق على صحته ورد بهذا, حيث قالصلى الله عليه وسلم : ((لا يحكم أحدكم بين اثنين، وهو غضبان)) وهذا حديث رواه البخاري ومسلم، من حديث عبد الرحمن بن أبي بكرة رضي الله عنه .

والعلماء بحثوا في العلة التي من أجلها نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن القضاء والقاضي غضبان، فتوصَّلوا إلى أن الغضب من شأنه أن يُشتّت فكر القاضي، وأن يشغله؛ فيحول ذلك بينه وبين الوصول إلى استنباط الحكم الذي ينهي به النزاع، ويفصل به بين الخصوم؛ لذلك فكل أمر فيه هذا المناط ينبغي ألا يُشغل القاضي به، وإذا نابه شيء منه توقَّف عن الحكم حتى يذهب ما به، فيقاس على الغضب ما يشبهه من العطش الشديد، ويقاس عليه أيضًا الجوع الشديد، ويُقاس عليه أيضًا الوجع المزعج؛ لأنه يشغله كما يشغله الجوع وربما أكثر، أو شعوره بِسِنَة -أي: الرغبة في النوم أو النعاس- أو يشعر بالحزن الشديد، أو السرور الشديد لأمر بلغه أو نابه؛ فهذه كلها تمنع حضور القلب، واستيفاء الفكر الذي يتوصَّل به القاضي، وغيره إلى إصابة الحق؛ لذلك فإذا حدث هذا للقاضي، فإن عليه أن يُوقف القضاء في الحكم.

وليس ما ذكرناه هو استقراء وشمول لكل الأسباب؛ إنما يقاس على ذلك أيُّ شيء آخر من شأنه في العادة وبالتجربة أن يشغل القاضي، فيجري مجرى الغضب الذي نبَّه النبي صلى الله عليه وسلم به على غيره، لكن إذا كان الغضب قد ناب القاضي بعد أن وصل إلى استنباط الحكم؛ فلا بأس أن يستمر في القضية، ولا يضرّه هذا الغضب؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم لما نهى أن يقضي القاضي وهو غضبان كان يقصد إبعاد أو احتراز القاضي عن كل شيء يشغله، أما وقد وصل إلى الحكم قبل الغضب؛ فلا بأس بالغضب بعد أن استنبط القاضي الحكم, فيستمر حتى ولو كان غاضبًا في إصدار الحكم الذي وصل إليه، وهو هادئ دون غضب.

ويرى الحنفية أن ما ذكرناه مما يشغل فكر القاضي أو قلبه إنما هو من الآداب؛ أي: لو فرضنا أن القاضي كان غضبان، أو كان جائعًا جوعًا شديدًا، أو ما إلى ذلك وقضى؛ يرى الحنفية أنه رغم هذا فالقضاء ينفذ؛ لأنهم فهموا حديث النبيصلى الله عليه وسلم على أن النهي فيه محمول على التنزيه، بينما يرى الشافعية -وهناك قول بذلك عند المالكية- أنه يُكره له القضاء في هذه الأحوال, وأما الحنابلة فيرون أنه إذا قضى في هذه الحالة؛ فقد ارتكب إثمًا كبيرًا وفعل أمرًا حرامًا.

error: النص محمي !!