Top
Image Alt

آداب المريض وزيارته، ما يفعل بالميت عند الاحتضار، حكم غسله، ومَن يغسله

  /  آداب المريض وزيارته، ما يفعل بالميت عند الاحتضار، حكم غسله، ومَن يغسله

آداب المريض وزيارته، ما يفعل بالميت عند الاحتضار، حكم غسله، ومَن يغسله

. آداب المريض وزيارته:

أ. الصبر على الابتلاء، وكراهية الأنين وتمني الموت، وحسن الظن بالله:

إذا مرض الإنسان، استحِبّ له أن يَصبر على ما ابتلاه الله تعالى به، ويُكره له الأنين، لِما روي عن طاوس أنّه كرهه، ولا يَتمنّى مريض مِن المرضى لنفسه الموت، ولا لأيّ ضُرّ نَزل به؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم نهَى عن ذلك، وقال: ((ولا يَتمنّيَنّ أحدُكم الموت لضُرّ نزل به، ولْيقلْ: اللّهمّ أحْيِني ما كانت الحياة خيرًا لي، وتوفّني إذا كانت الوفاة خيرًا لي))، والحديث متّفق عليه، وقال الترمذي عنه: صحيح. قال جابر: ((سمعتُ رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول قبل موته بثلاث: لا يموتنّ أحدُكم إلّا وهو يُحسِن الظنّ بالله تعالى))، رواه مسلم وأبو داود.

وقال المعتمر عن أبيه، أنّه قال له عند موته: حدِّثني بالرُّخَص -أي: بالأيسر وبالأسهل.

ب. عيادة المريض:

كما تستحبّ أيضًا عيادة المريض، قال البراء: ((أمَرَنا رسول الله صلى الله عليه وسلم باتّباع الجنائز، وعيادة المريض))، رواه البخاري ومسلم.

وعن عليّ رضي الله عنه أنّ النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((ما مِن رَجل يعود مريضًا مُمسيًا إلا خَرج معه سبعون ألف ملَك يستغفرون له حتى يُصبح، وكان له خريف في الجنّة. ومن أتاه مُصبِحًا -أي: في الصباح- خرج معه سبعون ألف ملَك، يستغفرون له حتّى يُمسي، وكان له خريف في الجنّة))، قال الترمذي: هذا حديث حَسَن غريب.

وعند مسلم: ((ما مِن مسلم يعود مسلمًا غَدوةً إلّا صلّى عليه سبعون ألْف ملَك حتى يمسي. وإن عاده عَشيّة إلّا صلّى عليه سبعون ألْف ملَك حتى يصبح. وكان له خريف في الجنة)).

ج. الدعاء والرقية:

وإذا دخل على مريض -هذا من المستحبات- دعا له ورَقَاه، قال ثابت لأنس: يا أبا حمزة! اشتكيتُ. قال أنس: أفلا أرقيك برُقية رسول الله صلى الله عليه وسلم ؟ قال: بلى. قال: ((اللّهمّ ربّ الناس، مُذهِب الباس -أي: البأس، أي: المرض- اشفِ أنت الشافي، شفاءً لا يغادر سَقمًا)). وروى أبو سعيد قال: ((أتى جبريل النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا محمد! اشتكيتَ؟ قال: نعم. قال: “بسم الله أرقيك، مِن كلّ شيء يؤذيك، من شرّ كلّ نفس، وعَين حاسدة، الله يَشفيك))، وقال أبو زُرعة: كِلا هـذيْن الحديثيْن صحيح.

وروي، أنّ النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((إذا دخلتم على المريض فنفّسوا له في الأجَل -أي: أعطوه الأمل في الحياة- فإنّه لا يَردّ مِن قضاء الله شيئًا، وإنّه يطيّب نفس المريض))، رواه ابن ماجه.

د. ترغيب المريض في التوبة، وتذكيره بالوصية:

وعلى الحاضرين أيضًا أن يُرغبوا ذلك المريض في التوبة، وأن يُذكّروه بالوصيّة، لِما روى ابن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم أنّه قال: ((ما حقّ امرئ مسلم يَبيتُ ليلتَيْن وله شيء يوصي فيه، إلّا ووصيّتُه مكتوبة عنده)).

على هذه المستحبات اتّفق الفقهاء، أي: أجمَعوا على ذلك.

2. أحكام الميت:

الآن نتحدّث في حقوق الأموات على الأحياء، وهو ما عَنْوَن له ابن رشد -رحمه الله- بقوله: “كتاب: أحكام الميّت”، وتحت هذا العنوان الكبير، قسّم ابن رشد هذا الكتاب إلى ست جُمل، أو كما سنرى في تفصيل ذلك ستة أبواب:

وهي بخلاف جُمل الصلاة السابقة، فالجُملة هنا بمعنى الباب، فنحن أمام ستّ جُمل أو ستة أبواب.

الباب الأول: فيما يُستحبّ أن يُفعَل به عند الاحتضار وبعده، ماذا يفعل الحاضرون الأصحّاء؟ وما يُستحبّ لهم أن يفعلوه بأخيهم المحتضر الذي تَحضره الوفاة وقَبْض الروح، ماذا يُستحبّ؟ هذه جُملة. وماذا يُستحبّ بعد الاحتضار -أي: بعد قبض الروح؟

الباب الثاني: في غَسل الميِّت.

الباب الثالث: في تكفين الميِّت.

الباب الرابع: في حَمله واتّباعه، أو ما هو معروف بتشييع الجنازة.

الباب الخامس: في الصلاة عليه.

الباب السادس: في دَفنه.

الباب الأول: ما يُستحبّ أن يُفعَل عند الاحتضار وبعده:

أ. تلقين المحتضر الشهادة:

قد ذكر ابن رشد أنّ العلماء قد اتّفَقوا على استحباب تلقين المحتضر عند الموت “شهادة أن لا إله إلا الله، وأنّ محمدًا رسول الله”؛ حتّى يموت على ذلك إن مات، وأن يكون مع الذاكرين -أي: الذين يذكرون الله- كما أمَرَنا الله تعالى بذكْره في جميع الأوقات: {يَأَيّهَا الّذِينَ آمَنُواْ اذْكُرُواْ اللّهَ ذِكْراً كَثِيراً} [الأحزاب: 41]، {الّذِينَ آمَنُواْ وَتَطْمَئِنّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللّهِ أَلاَ بِذِكْرِ اللّهِ تَطْمَئِنّ الْقُلُوبُ} [الرعد: 28]. فذِكر الله لا ينبغي أن يخلو عنه مَجلس مِن المَجالس، ومن باب أولى في مجلس المريض أو المحتضر، يذكره بالتوحيد، وعقيدة التوحيد، وشهادة أن “لا إله إلا الله، وأنّ محمدًا رسول الله”، فهو أولى من غيره، ومَجلسه أولى مِن سائر المَجالس بذكْر الله تعالى وتوحيده.

وقد روي عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((لقّنوا موتاكم: لا إله إلّا الله))، رواه مسلم وأصحاب “السنن”. وأيضًا: روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: ((مَن كان آخرَ قوله: لا إله إلّا الله، دخل الجنة)). فنحن نُذكّر أنفسنا لعلّنا نُقبَض، ونُذّكر محتضرنا لعلّه يُقبَض، وكما قلنا، كلّ ذلك ذِكر لله تعالى، وتجديد لعقيدة التوحيد، وتثبيت لها.

ب. ذكْر الموت، والاستعداد له:

كما يُستحبّ للإنسان في مثل هذا الوقت ذكْر الموت، والاستعداد له، فإنّه روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنّه قال: ((أكثروا مِن ذِكر هاذم اللَّذات؛ فما ذُكر في كثير إلا قلّلَه، ولا في قليل إلا كثّره))، وقد روى البخاري أوّله.

ج. توجيه المحتضر للقبلة:

أمّا توجيه المريض أو المحتضر للقِبلة؛ فهو محلّ اختلاف بين الفقهاء:

فمِن الفقهاء من استحبّ توجيه المريض شديد المرض المحتضر إلى القِبلة؛ وعلى ذلك الأئمّة الأربعة، ولم يَر ذلك آخَرون.

بل روي عن مالك في بعض الروايات، أنّه قال في التوجيه إلى القِبلة: “ما هو مِن الأمر القديم”. أي: ليس مِن فِعل السّلف، أي: الرسول صلى الله عليه وسلم والصحابة رضي الله عنهم.

وروي عن سعيد بن المسيَّب، أنّه أنكر ذلك؛ لأنه لم يُرو ذلك عن أحد مِن الصحابة، ولا من التابعين، لكنّه على كل حال أوْلى مِن عَدم التوجيه إلى القِبلة، بحيث إذا صَحا الرّجل المحتضر أو أفاق في بعض وقته، يمكنه أن يصلّي أو أن يذكر الله تعالى على قَدر طاقته، فيكون متوجّهًا للقِبلة؛ فذلك -وإن لم يكن واردًا أو مرويًّا. إلّا أنّه مذهب الأئمّة الأربعة؛ فهو الأولى والأفضل.

فإذا قضى الميِّت -أي: قُبضَت روحه وانتهى أجَله- غَمّض الحاضرون أو أحدُهم عينيْه، ويُستحبّ حينئذٍ التعجيل بدفْنه؛ لورود الآثار بذلك، إلّا في بعض الحالات، كأن يكون الميّت غَريقًا؛ فإنّه يُستحبّ تأخير دفْن الغريق مَخافة أن يكون الماء قد غَمره فلم تتبيّن حياته، بمعنى: أنه قد يكون مُغمًى عليه، ولكنه لم يَمُت؛ فلننتظر به بعض الوقت، ولا نعجّل بدفنه.

وقال القاضي: وإذا كان هذا في الغريق -أي: إذا كان التأجيل مطلوبًا في الغريق- فهو أوْلى في كثير مِن المرضى، مثل الذين يصيبهم انطباق العروق، وغير ذلك ممّا هو معروف عند الأطباء، كغيبوبة السّكّر، أو ضغط الدّم، أو السكتة القلبية، أو نحو ذلك.لأنّ كثيرًا مِن هؤلاء المرضى أو بعضهم يَدخلون غرفة الإنعاش ويفيقون، فلا نعجّل بدفن هؤلاء، ولا ينبغي أن يُدفَنوا إلا بعد ثلاث، أو في ظلّ الظروف الطبيّة الحديثة: أن يَتّفق الأطباء على أنّه قد مات وانتهت حياته نهاية صحيحة.

الباب الثاني: غسل الميّت.

ويتعلق بهذا الباب فصول أربعة:

الفصل الأول: في حُكم الغسل.

الفصل الثاني: فيمن يجب غسلُه من الموتى.

الفصل الثالث: من يجوز أن يُغسل وما حُكم الغاسل.

الفصل الرابع: في صفة الغسل.

الفصل الأول: في حُكم الغسل.

حُكم الغَسل: واجب عند جميع العلماء.

يقول ابن رشد -رحمه الله: قيل: في حُكم الغَسل: إنه فرض كفاية -بمعنى: إذا فعَله البعضُ سقط عن الباقين- وقيل: سُنّة على الكفاية؛ والقولان كلاهما في المذهب -أي: في مذهب الإمام مالك.

واتّفق الأئمة الثلاثة -أي: مالك، والشافعي، وأحمد. على أنّ الآدمي لا ينجس بالموت.

أمّا أبو حنيفة فقال: يَنجس، فإذا غُسِّل طَهُر، معنى ذلك أن الجميع متّفقون على وجوب غَسل الميت.

يجب الغسل مرة واحدة، ويستحب ثلاثًا:

والواجب في غسل الميّت مرة واحدة؛ لأنه غسل واجب من غير نجاسة أصابتْه، فكان مرة واحدة، كغسل الجنابة والحيض. ولكن يُستحب أن يكون ثلاثًا، كلّ غسلة بالماء والسّدر. ويُجعل في الماء كافور في الغسلة الثالثة، ليشدّه ويبرّده ويطيّبه؛ لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم للنساء اللاتي غسّلن ابنتَه: ((اغسلْنَها بالسِّدر وِتْرًا: ثلاثًا، أو خمسًا، أو أكثر من ذلك إن رأيتنّ. واجعلْن في الغسلة الأخيرة كافورًا))، وهو نوع من الأشجار ذات الرائحة الطيِّبة. وفي حديث أم سليم: ((فإذا كان في آخر غسلة من الثالثة أو غيرها، فاجعلي ماء فيه شيء من كافور، وشيء من سدر)). الكافور لتطييب الرائحة، والسدر كالصابون للنظافة. ((ثم اجعلي ذلك في جرة جديدة، ثم أفرغيه عليها. وابدئي برأسها حتى يبلغ رجليْها)).

سبب اختلاف الفقهاء في غسل الميت: واجب أم سُنة؟

بين ابن رشد أنّ السبب في ذلك أنّ غَسْل الميت نُقل بالعمل، ولم يُنقل بالقول. يعني: ليس عندنا حديث في وجوب الغسل، وإنما عندنا أحاديث في الصفة. فنقل غَسل الميت بالعمل وليس بالقول. والعمل ليس له صيغة تُفهم الوجوب أو لا تُفهمه.

وقد احتج عبد الوهاب لوجوبه -أي: لوجوب الغسل- بقوله صلى الله عليه وسلم في ابنته: ((اغسِلْنَها ثلاثًا أو خمسًا))، فهذا أمر؛ والأمر يدلّ على الوجوب، والحديث رواه الجماعة، وبقوله في المُحرم: ((اغسلوه))، وهو متفق عليه. وعلى ذلك الأئمة الأربعة بأن غَسْل الميت واجب.

فمن رأى أن هذا القول خرج مخرج تعليم لصفة الغسل لا مخرج الأمر به، لم يقل بوجوبه. هناك من لم يقل بوجوب غَسْل الميّت. أمّا الصحيح فهو القول بوجوب ذلك، لتطهيره، ربما يكون قد مات وهو جُنب؛ ولذلك الأئمة الأربعة على وجوب غَسْل الميت. واستدلوا من هذه الأحاديث، أحاديث النبي صلى الله عليه وسلم في ابنته وفي المُحرم أنه يتضمّن الأمر والصفة معًا، ولذلك يجب غسل الميت.

الخلاصة:

انتهينا إلى أنّ هذا الغسل فرْض على الكفاية، كما قال الأئمة الأربعة. ومعنى أنه فرض على الكفاية يعني: إذا قام به بعض المسلمين سقط التكليف عن الآخَرين. أما إذا توقّف المسلمون جميعًا عن غَسل أحد موتاهم، وقع الإثم على الجميع. هذا معنى فرض الكفاية. ولا يُفهم منه: أن نغسل بعض الموتى ونترك البعض، وإذا غسلنا البعض كفى ذلك عن عدم غسْل الآخرين. كلا. إنما يفهم منه المسئولية التي تقع على الأحياء؛ لأننا -كما قال ابن رشد في صدر هذا الباب. نتحدّث عن حقوق الأموات على الأحياء. فمن حقّ الأموات على الأحياء أن يُغسِّلوهم، وبالتالي تبيّن لنا أنّ غَسل الميت فرض كفاية على سائر المسلمين، فإذا قام به بعضهم سقط التكليف عن الآخَرين، وإذا تركوه جميعًا بلا غسل، أثموا جميعًا.                                       

الفصل الثاني: مَن يجب غَسلُه من الموتى؟:

هل وجوب غَسل الميت لجميع الأموات، سواء كانوا صغارًا أو كبارًا، مسلمين أو كافرين، شهداء أو غير شهداء؟ أم أنّ هناك من الناس من لا يُغسَّلون، أو لا يجب الغسل في حقِّهم؟

أمّا الأموات الذين يجب غَسلُهم: فقد اتّفق الفقهاء على أنه يجب غَسل الميّت المسلم الذي لم يُقتل في معترك حرب الكفار؛ يعني: جميع المسلمين الموتى: في بيوتهم، في حقولهم، في مزارعهم، في متاجرهم، في الشوارع، في الطرقات، في المواصلات، مَن لم يمت في معركة حربيّة بين المسلمين وغير المسلمين، فالغسل واجب عليه، أي: على المسلمين الأحياء أن يغسِّلوا موتاهم، إلّا من مات في معركة حربية.

لكن حتى هذا الذي مات في المعركة الحربية، اختلف الفقهاء فيه، وفي الصلاة عليه. كما اختلفوا أيضًا في غَسل الإنسان غير المسلم.

فأما الشهيد الذي قتله المشركون أو الكافرون في المعترك، فجمهور العلماء على ترْك غَسله، لِما روي عند البخاري وأصحاب “السنن” ((أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أمر بقتلى أحُد فدُفنوا بثيابهم. ولم يُصلِّ عليهم)). وغزوة أحد -كما تعلمون- كانت في السّنة الثالثة من الهجرة، عند الجبل المعروف بجبل أحُد، وكان فيها من كبار الشهداء حمزة بن عبد المطلب عمّ النبي صلى الله عليه وسلم أسد الله، وسيّد الشهداء. ومدفنهم معروف عند هذا الجبل.

وكان الحسن البصري وسعيد بن المسيب يقولان: يُغسّل كل مسلم. فإنّ كل ميّت يجنب -أي: تصيبه الجنابة أو النجاسة. ولعلّهم كانوا يرَون أنّ ما فُعل بقتلى أحد كان لموضع الضرورة؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم كان مُصابًا كما هو معلوم، وكثير من الصحابة كانوا كذلك، ولم يكن هناك وقت للصلاة أو لتغسيل هؤلاء الشهداء، أو نحو ذلك.يعني: كان هناك مشقّة في غَسلهم، ولذلك أمَر بهم النبي صلى الله عليه وسلم فدُفنوا بثيابهم، ولم يصلّ عليهم؛ ولهذا قال الحسن، وسعيد بن المسيب بأنّ ذلك كان للضرورة. أمّا في غير الضرورة، فيُغسّل كلّ مسلم حتى وإن كان شهيدًا؛ لأن كل مسلم تصيبه الجنابة. وبقول الحسن وسعيد بن المسيب بوجوب غَسْل جميع الموتى بمَن فيهم الشهداء.

قال بقولهم من فقهاء الأمصار: عبيد الله الحسن الأنباري. وسئل أبو عمر بن عبد البر، فيما حكى ابن المنذر عن غسل الشهيد، فقال: قد غُسِّل عمر، وكُفِّن، وحُنّط، وصُلِّي عليه؛ وكان شهيدًا -رحمه الله.

إذًا، نحن بالنسبة لغَسل الميّت أمام نوعيْن من الناس:

النوع الأول: من مات ميتة طبيعية، أي: في غير معركة حربية، وهذا يُغسّل. ويجب غسله بإجماع العلماء واتفاقهم.

النوع الثاني: الشهيد، والمقصود به هنا: من قُتل في معركة مع الكافرين، في غسله قولان:

القول الأوّل: قول الجمهور على ترْك غَسْله كما فعل النبي صلى الله عليه وسلم بشهداء أحُد حيثُ أمَر بدفْنهم بثيابهم بلا غسْل ولا صلاة.

القول الثاني: قول الحسن، وسعيد بن المسيب، وبعض فقهاء الأمصار أنّ الشهيد شأنه شأن سائر الموتى، يُغسّل ويُصلّى عليه؛ لأنه ميِّت، والميّت يجنب. وأيّد ذلك أبو عمر بن عبد البر فيما حكى ابن المنذر عن غسل الشهيد، فقال: قد غُسِّل عمر بن الخطاب، وكُفِّن، وحُنِّط، وصُلِّي عليه؛ وكان شهيدًا -رحمه الله. 

ولكن نرى أنّ الأمر مختلف؛ فعمر بن الخطاب رضي الله عنه طُعن في المسجد وهو يصلِّي بالناس، ولم يكن قتْله في معركة من معارك المشركين؛ فالأمر يختلف، والاستشهاد لا يصحّ. وبالتالي فنحن مع جمهور العلماء القائلين بوجوب غَسل الجميع، ما عدا الشهيد في معركة المشركين. فالشهيد في معركة المشركين -كما يقول الجمهور- لا يُغسّل ولا يصلّى عليه.

حُكم تغسيل الشهداء في غير معركة المشركين:

هناك شهداء آخَرون غير الشهيد في معركة المشركين، كما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم: ((مَن قُتل دون مالِه فهو شهيد، ومن قُتل دون دمه فهو شهيد، ومن قُتل دون دِينه فهو شهيد))، وكما روي في حديث آخَر أنّ المبطون والغريق والحريق والمريض، كلّ هؤلاء شهداء؛ وهي أحاديث صحيحة. وكذلك مَن يستشهد في معركة مع اللصوص، أو في قطْع الطريق. ما حُكم هؤلاء؟ هل يأخذون حُكم الشهيد في معركة المشركين، فلا يُغسّلون ولا يصلّى عليهم؟ أم يأخذون حُكم الموتى العاديِّين فيُغسّلون ويصلّى عليهم؟

اختلف الفقهاء في الشهداء في غير معركة المشركين: ففريق من العلماء رأى أن هؤلاء لا يُغسّلون، مثلهم في ذلك مثل الشهيد في المعركة. قال الأوزاعي، وأحمد، وأبو حنيفة، وجماعة: حُكمهم حُكم مَن قَتَله أهل الشرك.

وقال مالك والشافعي: يُغسّل هؤلاء، ويصلّى عليهم.

ما السبب الذي أدّى إلى هذا الاختلاف على هذا النحو؟

سبب الاختلاف هو: هل الموجب لِرفع الغسل هي الشهادة مطلقًا، أو الشهادة على أيدي الكفار؟

فمَن رأى أن الشهادة مطلقًا هي السبب في ترْك الغسل، قال: كلّ شهيد لا يُغسّل. وكل مَن نصّ عليه النبي صلى الله عليه وسلم أنه شهيد، فلا يُغسّل، ولا يصلّى عليه، سواء قُتل في معركة المشركين، أو قُتل دون مالِه، أو قُتل دون دمِه، أو قُتل دون دِينه، أو كان غريقًا، أو حريقًا، أو في بيت متهدّم، أو في الزلازل، أو البراكين، أو الكوارث الطبيعية كالسيول والفيضانات والأعاصير ونحو ذلك. فكلّ هؤلاء يُعتبرون شهداء بنص أحاديث النبي صلى الله عليه وسلم .

فهل يُعامل هؤلاء الشهداء الكثيرون معاملة الشهيد في عدم الغسل، كما حدث في قتْلى أحُد؟ أو يُعامل هؤلاء معاملة الموتى العاديِّين، فيُغسّلون، ويصلّى عليهم، وإن كان لهم في الآخرة من الأجر مثل أجر الشهداء في معركة المشركين؟

الحقيقة أنّ ابن قدامة -رحمه الله- قد عرض هذه القضية بتفصيل أكثر وأوضح، فقال: إنّ مَن مات في المعترك، فإنه لا يُغسّل؛ وهذه رواية عن الإمام أحمد، وهو قول أكثر أهل العلْم.

كما قال ابن رشد: قول الجمهور، ولا نعلم فيه خلافًا إلّا عن الحسن، وسعيد بن المسيب؛ حيث قال: “يُغسّل الشهيد. ما مات ميّت إلّا جُنبًا”. يردّ عليهم بقوله: الاقتداء بالنبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه في ترْك غسْلهم أوْلى.

والصحيح أيضًا -وإن كانت هذه المسألة سابقة لأوانها؛ حيث لم نتعرض بعْدُ للصلاة- إلّا أنه يقول: أمّا الصلاة عليه، فالصحيح أنه لا يُصلّى عليه؛ وهو قول مالك، والشافعي، وإسحاق، وأحمد، وعنه رواية أخرى: أنه يصلّى عليه. ثم يستشهد بقوله: روى جابر: ((أنّ النبي صلى الله عليه وسلم أمر بدفن شهداء أحُد في دمائهم. ولم يُغسِّلهم ولم يُصَلِّ عليهم))، والحديث متفق عليه.

ولأنه لا يُغسّل مع إمكان غَسله، فلم يصلِّ عليه كسائر مَن لم يُغسّل.

أما حديث عقبة: ((أنّ النبي صلى الله عليه وسلم خرج يومًا، فصلّى على أهل أحُد صلاته على الميّت، ثم انصرف إلى المنبر))، وهو متفق عليه. وما روي عن ابن عباس: ((أن النبي صلى الله عليه وسلم صلّى على قتْلى أحُد))، فهذا مخصوص بشهداء أحُد؛ فإنه صلّى عليهم في القبور بعد ثماني سنين. وهم لا يصلّون على القبر أصلًا. إذا ثبت هذا، فيحتمل أنّ ترْك غسْل الشهيد لِما تضمّنه الغسل من إزالة أثر العبادة المستحسَنة شرعًا؛ فإنه جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: ((والذي نفسي بيده! لا يُكْلَم أحدٌ -أي: لا يُجرح- في سبيل الله -واللهُ أعلم بمَن يُكلَم في سبيله- إلّا جاء يوم القيامة اللّونُ لون دم، والريح ريحُ مسك)). ومعلوم: أن الغسل يُزيل ذلك.

وقال النبي صلى الله عليه وسلم: ((ليس شيء أحبَّ إلى الله من قطرتيْن وأثريْن. أمّا الأثران: فأثر في سبيل الله، وأثر في فريضة الله تعالى))، رواه الترمذي، وقال: هو حديث حسن. وقد جاء ذكر هذه العلّة في الحديث؛ فإن عبد الله بن ثعلبة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((زمِّلوهم بدمائهم؛ فإنه ليس كَلْم يُكلم في الله إلّا يأتي يوم القيامة يُدمي لونُه لون الدم، وريحه ريح المسك)) رواه النسائي.

وأمّا سقوط الصلاة عليهم، فيحتمل أن تكون علّته كونهم أحياء عند ربهم، والصلاة إنما شُرعت في حق الموتى.

ويحتمل أن ذلك؛ لأنهم مُستغنُون عن الشفاعة لهم، فالشهيد يشفع في سبعين من أهله فلا يحتاج إلى شفيع؛ والصلاة إنما شُرعت للشفاعة.

النقطة الأخيرة في هذه الجزئية، أي: في حُكم الغسل: حُكم غَسل المشرك، أو الكافر، أو غير المسلم.

أما غسْل المسلم الكافرَ، فكان مالك رحمه الله يقول: لا يغسِّل المسلمُ والدَه الكافرَ ولا يَقبره، إلّا أن يخاف ضياعَه، فيُواريه؛ هذا قول مالك أنّ المسلم إذا كان له أب كافر أو ابن، فلا يغسّله ولا يقبره، إلّا إذا خاف ضياعه، أو أكْل السباع له، فيواريه -أي: يدفنه- بلا غسل ولا كفن.

أما الشافعي فقال: لا بأس بغسل المسلم قرابَته من المشركين، ودفنهم أيضًا؛ وبهذا القول قال أبو ثور، وأبو حنيفة، وأصحابه، وأحمد؛ وهذا هو الأوْلى بالعمل والأوْلى بالاتّباع؛ لأن الإنسان مهما كان فهو إنسان له كرامة: {وَلَقَدْ كَرّمْنَا بَنِي آدَمَ} [الإسراء: 70]، سواء كان مسلمًا أو كافرًا، وهو نفس إنسانية والنفس الإنسانية يجب احترامها وتقديرها وحمايتها.

أيضًا، فترك الميت غير المسلم سبب انتشار الأمراض والروائح الكريهة وإيذاء الناس، وكذلك أكل السباع ونهش الحيوانات لهذه الجثة؛ لذا نحن مع جمهور العلماء بغسل المسلم للكافر ودفْنه أيضًا. وإن لم يكن قد وَرد في ذلك سُنّة تتّبع، إلا أنه نفس إنسانية يجب صيانتها ورعايتها.

الفصل الثالث: من يجوز أن يُغسِّل، وحُكم الغاسل:

أ. مَن يجوز له أن يُغسّل الميّت:

مَن الذي يجوز له أن يقوم بغَسْل الميِّت؟

هنا نجد اتّفاقًا بين الفقهاء في هذه القضيّة، كما نجِد اختلافًا بيِّنًا أيضًا.

المتفق عليه: أنّ الرجال يُغسّلون الرجال، وأنّ النساء يُغسِّلْن النساء. هذا محلّ اتّفاق.

المختلف فيه: إذا ماتت المرأة بين رجال -أي: لا يوجد نساء غيرها، هل تُغسّل أو لا تُغسّل؟ أو تُيمّم أو لا تيمّم؟ هل تُدفن بدون غَسل أو تيمّم؟

هذه قضية اختلف الفقهاء فيها، ومثلها أيضًا قضية الرجل الذي يموت بين النساء، بمعنى: أنّه لا يوجد رجال غير هذا الميت، ماذا يَفعل النساء فيه؟ هل يقُمْن بتغسيله؟ أو يَدفنّه بدون غَسل؟ أو يقُمن بعَمل التيمّم له؟ هذه المسألة، وتلك مَوضع اختلاف بين الفقهاء.

المقصود بالرجال والنساء هنا الأجانب عن بعضهم البعض، ليسوا محارم، وليسوا أزواجًا، أمّا الزوجان -الرجل يُغسّل زوجته، أو المرأة تُغسّل زوجها – فهذه قضية أخرى، سنتكلم عنها فيما بعد -إن شاء الله.

اختلف الفقهاء في ذلك على ثلاثة أقوال:

القول الأوّل: يُغسّل كلّ واحد منهما صاحبه مِن فوق الثياب، فيقوم الرجال بغَسل المرأة الأجنبية عنهم إذا لم يوجد نساء، ولكن يكون ذلك الغسل مِن فوق الثياب. وكذلك لو مات رجل بين النساء، فإنّ النساء يقُمْن بغَسله مِن فوق ثيابه. هذا هو القول الأوّل: يغسّل كلّ واحد منهما صاحِبه فوق الثياب.

القول الثاني: يُيمِّم كلّ واحد مِنهما صاحبه. والتيمّم قد عرَفناه فيما مَضى في أحكام الطهارة، هو عِبارة عن ضربتيْن على تراب طاهر، أو شيء به تراب طاهر ضربة يُمسَح بها الوجه، وضربة يُمسَح بها الكفّان. وقد علِمنا أنّ هنا مَن يقول بأنّها ضربة واحدة يُمسح بها الوجه والكفّان.

إذًا، إذا مات الرجل بين النساء، قام النساء بعَمل أو بإجراء التيمّم له. وإذا ماتت امرأة بين الرجال، قام الرجال بأداء هذا التيمّم لها، حتى لا تُدفن بدون طهارة. وكنّا قد علِمنا أنّ التيمم بديل عن الغُسل وعن الوضوء، بديل عن أيّ طهارة بالماء؛ فهو طهارة بديلة. وبهذا القول قال الشافعي، وأبو حنيفة، وجمهور الفقهاء، ومنهم أيضًا مالك، وأحمد في إحدى الروايتيْن عنه. إذًا القول الثاني يقول بالتيمّم.

القول الثالث: فهو قول الليث بن سعد، يقول: تُدفن المرأة الأجنبية بلا غُسل ولا تيمّم، ويُدفن الرجل الأجنبيّ بلا غسل ولا تيمّم. ولا يجوز لكلّ واحد منهما -أي: الأجانب رجالًا ونساءً- أن يغسّل صاحبه ولا يُيمّمه.

ما السبب الذي أدّى إلى هذا الاختلاف على هذا النحو؟

سبب اختلاف الفقهاء في هذه القضية على هذه الأقوال الثلاثة هو الترجيح بين تغليب النهي على الأمر، أو تغليب الأمر على النهي؛ بمعنى أنّ هناك نهْيًا عن لمْس الرجل للمرأة الأجنبية، ولمْس المرأة للرجل الأجنبي، وهناك أمر بغَضّ البصر عن جَسد كلٍّ منهما، وهناك أمر بغَسل الميّت. فمِن العلماء من غلّب النهي على الأمر، ولذلك اكتفى بدفن هذا الميت رجلًا كان أو امرأة بدون غُسل. ومنهم من غلّب الأمر بالغسل على النّهي عن النظر أو اللّمس.

فمن غلّب النهي تغليبًا مطلَقًا قال: لا يُغسّل واحد منهما صاحبه، ولا ييمّمه، حتى لا يقع في المحظور مِن اللمس أو النظر.

ومن غلّب الأمر على النهي -أي: الأمر بالغَسل على النهي عن اللمس أو بالنظر- قال: يُغسّل كلّ واحد منهما صاحبه أو ييمّمه.

ومن ذهب إلى التيمّم؛ فلأنه رأى أنّه لا يَلحق الأمرَ والنهيَ في ذلك تعارُض، فنَجمع بين الأمرين بالتيمّم؛ وذلك أنّ النظر إلى مَواضع التيمم يجوز لكِلا الصِّنفيْن. أي: يجوز للرجل أن ينظر إلى وجْه المرأة وكفّيها، ويجوز للمرأة أن تنظر مِن الرجل ما فوق السُرّة وما تحت الرّكبة، وأعضاء التيمّم دون ذلك.

ولذلك رأى مالك: أن يُيمّم الرجل المرأة في يدَيْها إلى الرُّسغَيْن ووجهها فقط، لكون ذلك منها ليسا بعورة -أي: الوجه والكفّين من المرأة الأجنبية- وأن تُيمِّم المرأة الرجل -أي: الأجنبيَّيْن- إلى المِرفَقَين؛ لأنه ليس مِن الرجل عورة إلا مِن السّرة إلى الرّكبة على مذهب الإمام مالك.

فكأنّ الضرورة التي نَقلَت الميّت من الغَسل إلى التيمم عند مَن قال به هي تعارُض الأمر والنّهي، فكأنّه شَبّه هذه الضرورة بالضرورة التي يجوز معها للحيّ التيمم -أي: عند عدم القدرة على استعمال الماء- وهو تشبيه فيه بُعد، ولكن أخذ به الجمهور. أي: كما يَلجأ الحيّ إلى التيمّم رغم وجود الماء، أو عَدم القُدرة على استعماله، فكذلك يجوز استخدام التيمّم للميت بديلًا عن غُسله، لعدم القدرة على استعمال الماء مِن حيث التعرّض للمس، ونحو ذلك، فيغسّل كلّ منهما مِن فوق الثوب، أو يُيمِّم كلّ واحد منهما الآخَر.

أمّا مالك، فاختلف قوله في هذه المسألة، فمرّة قال: ييمِّم كلّ واحد منهما صاحبه قولًا مطلقًا -أي: وافق رأي الجمهور. ومرّة فرّق في ذلك بين ذوي المحارم وغيرهم -أي: يجوز لذوي المَحارم، ولا يجوز لغير ذوي المحارم. ومرّة فرّق في ذوي المحارم بين الرجال والنساء، فأجاز الغُسل بين الرجال المحارم، وكذلك بين النساء المَحارم، ولم يُجِزه لغيرهم، فيتحصّل عنه أنّ له في ذوي المحارم ثلاثة أقوال:

الأول: أنّه يغسّل كلّ واحد منهما صاحبه على الثياب.

الثاني: لا يغسّل أحدهما صاحبه، ولكن يُيمّمه، مِثل قول الجمهور في غير ذوي المَحارم.

الثالث: الفَرق بين الرجال والنساء؛ فتغسّل المرأة الرجل، ولا يغسّل الرجل المرأة.

لماذا فرّق مالك بين الرجال والنساء مِن المَحارم؟ قال: لأنّ كلّ واحد منهما لا يحلّ له أن ينظر إلى مَوضع الغُسل مِن صاحبه، كالأجانب. الذي لا يحلّ للأجانب لا يحلّ أيضًا للمَحارم. وسبب الإباحة أنّه مَوضع ضرورة، والضرورات تُبيح المحظورات، وهم أعذر في ذلك، وأهوَن مِن الأجانب.

أمّا سبب الفَرق بين الرجال والنساء، فأنّه نَظرُ الرجال إلى النساء أغلظ، فلا يجوز للرجال أن يغسِّلوا النساء. أمّا نَظرُ النساء إلى الرجال فأقلّ، فيجوز لهنّ -من المحارم يعني- أن يغسِّلن الرجال، بدليل أنّ النساء حُجِبن عن نَظر الرجال إليهن، أُمِرَت المرأة بالحجاب لأنّ نظر الرجال إليها أعمق وأشد، ولم يُحجَب الرجال عن النساء؛ لأن نظر النساء إلى الرجال أقلّ وأضعَف.

غَسْل أحَد الزّوجَيْن الآخَر:

إذا مات الزوج أو ماتت الزوجة، هل يَغسل كلٌّ منهما صاحبَه؟ أو يَنطبق عليهما ما يَنطبق على ما سَبق أن ذكرناه مِن أحكام الرجال والنساء الأجانب، على اعتبار أنّ العلاقة الزوجية قد انتهت بالوفاة، أو تمّت الفُرقة بسبب الوفاة؟

نجد أنّ العلماء قد أجمَعوا في هذه القضية على جَواز غَسل المرأة زوجها.

أمّا غَسل الرّجل زوجَته فاختلَفوا فيه:

  • فقال جمهور الفقهاء: يجوز للرجل أن يُغسِّل امرأته، كما يجوز أن تُغسِّله.
  • وقال أبو حنيفة: لا يجوز غَسل الرجل زوجته.

لماذا؟

  • أمّا إجماع الفقهاء على جواز غَسل المرأة زوجها، فلأنّهم لم يُشبِّهوا الموت بالطّلاق. وكذلك قال جمهور الفقهاء في جواز غَسل الرجل زوجتَه إذا ماتت؛ لأن الموت لا يُشبه الطلاق.
  • أمّا أبو حنيفة، فإنّه شبّه الموت بالطلاق، وتشبيه الموت بالطلاق يُثبّت الحُرمة بينهما، وما دامت الحُرمة قد ثبَتت؛ إذًا لا يجوز لأيّ مِنها أن يغسّل الآخَر.

ولذلك حكى ابن رشد -رحمه الله- سبب اختلاف الفقهاء في هذه القضية بأنّه تشبيه الموت بالطّلاق. فمن شبّه الموت بالطلاق قال: لا يحلّ أن يَنظر إليها بعد الموت؛ وما دام الأمر كذلك، فلا يجوز له أن يُغسِّلها.

ومَن لم يشّبه بالطلاق -وهم الجمهور- قال: إنّ ما يحلّ له مِن النظر إليها قبل الموت، يحلّ له بعد الموت. وإنّ ما دَعا أبا حنيفة أن يشبِّه الموت بالطلاق؛ لأنه رأى أنّه إذا ماتت إحدى الأختيْن، حَلّ له نكاح الأخرى، كالحال فيها إذا طُلِّقَت؛ وهذا فيه بُعد لأنّ العلة مختلِفة. فإنّ علة مَنْع الجَمع مرتفِعة بين الحيّ والميّت، ولذلك حَلّت؛ إلا أن يقال: إنّ علّة منع الجَمع غير معقولة، أي: تعبّدية، وإنّ منع الجَمع بين الأختيْن عبادة مَحضة غير معقولة المعنى، فحينئذ يقوى مذهب أبي حنيفة.

والصواب ما ذهب إليه الجمهور، وما أجمع عليه العلماء مِن جواز غَسل المرأة زوجها، وجواز غسل الرجل أيضًا زوجته. أمّا مَن عَدا هؤلاء، فليس لأيّ رجل غسل أحد مِن النساء، وليس لأحد مِن النساء غسل أيّ رجل من الرجال الأجانب؛ وهذا قول أكثر أهل العِلم.

وحُكي عن أبي قلابة أنّه غسّل ابنته، واستَعظم أحمد هذا ولم يُعجبه، وقال: أليس قد قيل -أي: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((استأذِن على أمِّك))؟ وذلك؛ لأنها محرّمة حال الحياة، فلم يَجُز غسلها، كالأجنبية وأخته مِن الرضاعة. فإن دَعت الضرورة إلى ذلك بأن لا يوجد مَن يغسّل المرأة مِن النساء، فقد قال مهنّا: سألتُ أحمد عن الرجل يغسِّل أخته إذا لم يَجد نساءً. قال: لا. قُلت فكيف يصنع؟ قال: يَغسلها وعليها ثيابها، يَصبّ عليها الماء صبًّا، قلت لأحمد: كذلك كلّ ذات محرم، تغسّل وعليها ثيابها؟ قال: نعم.

وقال الحسن، ومحمد، ومالك: لا بأس بغَسل ذات محرم عند الضرورة.

فأمّا إن مات رجل بين نِسوة أجانب، أو امرأة بين رجال أجانب، أو مات خُنثى مُشكِل، فإنّه يُيمّم، كما سبق أن ذكرنا في قول الجمهور فيما مضى. وهذا هو قول: سعيد بن المسيّب، والنخعي، وحمّاد، ومالك، وأصحاب الرأي، وابن المنذر. وحكى أبو الخطّاب رواية ثانية أنّه يغسّل مِن فوق القميص، يُصبّ عليه الماء مِن فوق القميص صَبًّا ولا يُمسّ؛ وهو قول: الحسن وإسحاق.

هل تغسّلُ المطلّقةُ مَن طلّقها أو لا تُغسله؟ وهل تغسّل المطلّقةُ الرجعية في العِدّة زوجَها أو لا تغسّله؟

هناك اختلاف في مسألة أخرى:

أجمع العلماء أن المطلقة المبتوتة -أي: الطلاق الثلاث، أو الطلاق البائن- لا تغسِّل زوجَها.

واختلفوا في الرجعية التي ما زالت في العِدّة مِن الطّلْقة الأولى، أو الطّلقة الثانية. روي عن مالك: أنّها تغسّله، وبه قال: أبو حنيفة، وأحمد، وأصحابهما.

وقال ابن القاسم: لا تغسّله حتى وإن كان الطلاق رَجعيًّا. وهو قياس قول مالك؛ لأنه ليس يجوز عنده أن يراها، وبه قال الشافعي. لأنّ العِدّة قد تنتهي بلا رَجعة، أو قد يكون الرجل قد طلّقها لغير الحاجة فيها ولن يراجعها؛ فيكون النظر حينئذ حَرامًا.

ما السبب الذي أدّى إلى هذا الاختلاف على هذا النحو؟

سبب الاختلاف في هذه القضية هو: هل يحلّ للزوج أن ينظر إلى المطلّقة الرجعية، أو لا يَنظر إليها؟ يقول ابن قدامة -رحمه الله: إن طلّق امرأتَه ثم مات أحدُهما في العِدّة، كان الطلاق رجعيًّا؛ فحُكمهما حُكم الزوجيْن قبل الطلاق -أي: يُغسّل كلّ منها صاحبه- لأنها زوجة تعتَدّ للوفاة، وترِثه ويَرِثها، ويباح له وطؤُها -أي: لمراجعتها. وإن كان الطلاق بائنًا، لم يَجُز؛ لأن اللمس والنظر محرّم حال الحياة، فبعْد الموت أوْلى. وإن قلنا: إنّ الرجعية محرّمة، لم يبح لأحدهما غسل صاحبه -كما ذكرنا.

ب. حُكم الغاسل:

حُكم الغاسل الذي غسّل الميت، ما هو المطلوب منه؟ هل يجب عليه أن يغتسل بعد غَسل الميت؟ أو يجب عليه أن يتوضّأ بعد غسل الميّت، هل وضوء؟

للعلماء في ذلك أقوال:

– قال قوم: مَن غسّل ميتًا وجب عليه الغُسل.

– وقال آخَرون: لا غُسل عليه.

ما السبب الذي أدّى إلى هذا الاختلاف على هذا النحو؟

السبب في ذلك أنّ هناك حديثيْن: حديث عن أبي هريرة بوجوب الغُسل والوضوء، وحديث أسماء التي غسّلت أبا بكر وسألت عن الغُسل، فقيل لها: لا غُسل عليكِ.

إذًا سبب الاختلاف: معارضة حديث أبي هريرة لحديث أسماء؛ وذلك أنّ أبا هريرة روى عن النبي صلى الله عليه وسلم أنّه قال: ((من غسّل ميّتًا فلْيغْتسلْ، ومَن حمَله فلْيتوضّأْ))، واللام الداخلة على الفِعل المضارع هي: لام الأمر، والأمر يدلّ على الوجوب ما لم تكن قرينة تَصرفه عن الوجوب: ((فلْيغتسلْ … فلْيتوضأْ))، خرّجه أبو داود، والترمذي، وحسّنه. فهذا حديث يوجب الغُسل كما يوجب الوضوء.

وأمّا حديث أسماء، فإنّها لمّا غسّلت أبا بكر رضي الله عنه خَرَجت، فسألت مَن حضَرها من المهاجرين والأنصار، وقالت: إني صائمة، وإنّ هذا يوم شديد البرد، فهل عليّ مِن غُسل؟ قالوا: لا. وحديث أسماء في هذا صحيح. وأما حديث أبي هريرة، فهو عند أكثر أهل العِلم فيما حكى أبو عمر بن عبد البر أنه غير صحيح. لكن حديث أسماء ليس فيه في الحقيقة معارضة له؛ فإنّ مَن أنكر الشيء يُحتمل أن يكون ذلك؛ لأنه لم تبلغه السُّنّة في ذلك الشيء. وسؤال أسماء -والله أعلم- يدلّ على الخلاف في ذلك، وبلوغ ذلك لبعضهم وعدم بلوغه في الصّدر الأوّل؛ ولهذا قال الشافعي -على عادته كما كان يقول لأصحابه وتلاميذه: إذا صحّ الحديث فهو مذهبي، أو إذا وجدتم حديثًا يخالف رأيي فاضربوا برأيي عرض الحائط. فالأساس العمل بالحديث، ولذلك أسماء سألت: هل عليها غُسل أو لا؟ فلما قالوا لها: لا. لم تغتسل.

قال الشافعي رحمه الله، على عادته في الاحتياط والالتفات إلى الأثر: لا غُسل على مَن غسّل الميت، إلّا أن يَثبت حديث أبي هريرة. وقد علّق ابن قدامة في باب الوضوء -فيما سبق أن بيّنا هل من نواقض الوضوء: غَسل الميت؟ بمعنى أنّ من غسّل ميّتًا انتقض وضوءه، ويجب عليه أن يتوضأ، أو ليس كذلك؟

اختلف أصحاب أحمد بن حنبل في وجوب الوضوء في غسل الميّت؛ فقال أكثرهم بوجوبه، سَواء كان المغسول صغيرًا أو كبيرًا، ذكرًا أو أنثى، مسلمًا أو كافرًا؛ وهو قول: إسحاق، والنخعي، وروي عن ابن عمر، وابن عباس، وأبي هريرة. فروي عن ابن عمر، وابن عباس: أنهّما كانا يأمران غاسل الميّت بالوضوء. وعن أبي هريرة قال: “أقلّ ما فيه الوضوء”. ولا نعلم لهم مخالفة في الصحابة. ولأنّ الغالب فيه أنّه لا يَسلم أن تقع يده على فَرج الميت، فكان مظنّة ذلك قائمًا مقام حقيقته، كما أقيم النوم مقام الحدث -أي: في نقض الوضوء- ذلك هو رأي جمهور الحنابلة.

وقال أبو الحسن التميمي: لا وضوء فيه؛ وهذا قول أكثر الفقهاء. وهو صحيح -إن شاء الله- لأنّ الوجوب مِن الشرع، ولم يَرِدْ في هذا نص. والمقصود بذلك أنّ نصّ أبي هريرة ضعيف، ما دام القطع ههنا بأنّه لم يَرِد في هذا نصّ، ولا هو في معنى المنصوص عليه، فبقي على الأصل. ولأنّه غَسل آدميّ، فأشبه غَسل الحيّ. وما روي عن أحمد أو عن أكثر أصحابه بوجوب الوضوء عليه، إنّما يُحمَل على الاستحباب وليس الإيجاب؛ فإنّه ترك العمل بالحديث المروي عن النبي صلى الله عليه وسلم: ((مَن غَسّل ميّتًا فلْيغتسلْ))، وعلّل ذلك بأنّ الصحيح أنّه موقوف على أبي هريرة. وإذا لم يوجِب أحمد الغُسل بقول أبي هريرة، مع احتمال أن يكون من قول رسول الله صلى الله عليه وسلم فلئلّا يوجب الوضوء بقوله مع عدم ذلك الاحتمال أوْلى.

الخلاصة: مَن غَسّل الميّت فلا يجب عليه غُسل لنفسه ولا وضوء؛ وهذا هو رأي جمهور العلماء، وهو الصحيح. وحديث أبي هريرة الذي أوجب الغُسل أو الوضوء على مَن غسّل ميّتًا أو حمَله، فهو من باب الاستحباب، وليس مِن باب الإيجاب؛ لأن الحديث موقوف على أبي هريرة، وليس مرفوعًا للنبي صلى الله عليه وسلم؛ والوجوب لا يَجب إلّا بالشرع.

error: النص محمي !!