Top
Image Alt

آداب طالب الحديث

  /  آداب طالب الحديث

آداب طالب الحديث

الأخلاق التي ينبغي لطالب الحديث أن يتحلّى بها:

1. أن يُصحِّح النِّيّة، وأن يُخلِص لله سبحانه وتعالى في طلَب هذا العلْم، وأن يَحْذَر من التّوصّل به إلى أغراض الدنيا؛ فقد روى أبو داود وابن ماجه، من حديث أبي هريرة, أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((مَن تعلّم عِلْمًا مِمّا يُبتغَى به وجْهُ الله سبحانه وتعالى لا يتعلّمه إلاّ لِيُصيب به عَرَضًا من الدّنيا، لم يَجِدْ عَرْفَ الجَنّة يوم القيامة)).

وقال حماد بن سلمة: “مَن طلَب الحديثَ لغيْر الله مُكر به”.

وقال الخطيب: “إذا عزم اللهُ تعالى لامرئٍ على سماع الحديث، وحضَرتْه نيّةٌ في الاشتغال به، فينبغي أن يُقدِّم المسألة لله تعالى أنْ يُوفِّقه فيه، ويُعينَه عليه. ثم يبادر إلى السّماع، ويَحرص على ذلك من غير توقّف ولا تأخير”.

وفي (صحيح الإمام مسلم)، من حديث أبي هريرة, عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: ((احرصْ على ما يَنفعُك، واستعنْ بالله، ولا تَعْجِزْ)).

2. أن يَجِد الطالبُ في طلَبه، فعن يحيى بن أبي كثير أنه قال: “لا يُنال العلْم براحة الجسد”.

وعن الشافعي -رحمه الله تعالى- أنه قال: “لا يَطلب هذا العلْم مَن يَطلبُه بالتّملّل وغِنى النّفس فَيُفلِح، ولكنْ مَن طلَبه بذِلّة النّفس وضيق العيش وخِدمة العلْم، أفلح”.

قال الإمام بن الصلاح: “ويبدأ بالسّماع مِن أرجح شيوخ بلَده إسنادًا، وعلْمًا، وشهرةً، ودِينًا، وغير ذلك، إلى أن يفرغ منهم”.

وقال الإمام السيوطي: “ويبدأ بأفرادهم، فمن تفرّد بشيءٍ أخذَه عنه أوّلًا. ويعمَد إلى أسْنَدِ شيوخ عصْره وأقدمِهم سماعًا، فيُديم الاختلاف إليه، ويُواصل العكوفَ عليه، فيقدّم السماع منه. فإن تكافأت أسانيدُ جماعة من الشيوخ في العلوّ، وأراد أن يقتصر على السّماع من بعضهم، فينبغي أن يتخيّر المشهورَ منهم بِطلَب الحديث، المشار إليه بالإتقان لهذا العلْم والمعرفة به. وإذا تساوَوْا في الإسناد والمعرفة، فمَن كان مِن الأشراف وذوي الأنساب، فهو أوْلى أن يَسمع منه”.

قال الخطيب: “ينبغي لطالب الحديث ومَن عُني به: أن يبدأ بكتْب حديث بلده ومعرفة أهله منهم، وتفهّمه وضبطه؛ حتى يعلم صحيح الأحاديث من سقيمها، ويعرف مَن أهل الحديث بها وأحوالهم معرفة تامة، إذا كان في بلده علْم وعلماء، قديمًا وحديثًا. ثم يشتغل بَعْدُ بحديث البلدان والرحلة فيه؛ فعن أبي عبيدة -رحمه الله تعالى- أنه قال: “من شغَل نفسَه بغيْر المُهمّ أضرّ بالمُهمِّ”.

وقال الخطيب: “المقصود بالرحلة في الحديث أمران:

الأمر الأول: تحصيل علوّ الإسناد، وقِدم السماع.

الأمر الثاني: لقاء الحُفّاظ، والمذاكرة لهم، والاستفادة عنهم.

فإذا كان الأمران موجودَيْن في بلد الطالب ومعدومَيْن في غيره، فلا فائدة في الرحلة؛ فالاقتصار على ما في البلد أوْلى. فإذا كانا موجوديْن في بلَد الطالب وفي غيره، إلَّا أنّ ما في كلّ واحد من البلدين يختص به من العوالي والحفاظ؛ فالمستحب للطالب الرحلة لجمْع الفائدتيْن من علوّ الإسناديْن وعلْم الطائفتيْن، لكن بعد تحصيله حديث بلده وتمهّره في المعرفة به. وإذا عزم الطالب على الرحلة، فينبغي له ألَّا يترك في بلده مِن الرواة أحدًا إلَّا ويكتب عنه ما تيسّر من الأحاديث، وإن قَلَّتْ؛ فبعض العلماء قال: “ضيِّعْ ورقة، ولا تُضيِّعَنَّ شيخًا!”.

وعن أحمد بن حنبل، وقد سأله ابنه عبد الله، عمّن طلب العلْم: ترى له أن يَلْزَم رجلًا عنده علْم فيكتب عنه، أو ترى له أن يَرحَل إلى المواضع التي فيها العلْم فيسمع منهم؟ قال: “يرحَل ويكتب”.

وعن ابن معين -رحمه الله تعالى- أنه قال: “أربعة لا تُؤنِس منهم رشدًا… منهم: رجل يكتب في بلده ولا يرحل في طلب الحديث”.

وقال إبراهيم بن أدهم: “إن الله يدفع البلاءَ عن هذه الأمّة برحلة أصحاب الحديث”.

والأصل في الرِّحلة: ما رواه البيهقي في (المدخل)، والخطيب في (الجامع)، عن عبد الله بن محمد بن عقيل، عن جابر بن عبد الله, أنه قال: بلغني حديثٌ عن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم أسمعه، فابْتعتُ بعيرًا، فشددْتُ عليه رَحلي، وسرتُ شهرًا حتى قدمت الشام. فأتيتُ عبد الله بن أنيْس، فقلتُ للبواب: قل له: جابر على الباب. فأتاه فقال له: جابر بن عبد الله؟ فأتاني فقال لي، فقلت: نعم. فرجع فأخبره، فقام يطأطئ ثوبه حتى لقيَني، فاعتنقني واعتنقْتُه. فقلت: حديث بلغني عنك سمعتَه من رسول الله صلى الله عليه وسلم في القصاص لم أسمعْه، فخشيتُ أن تموت أو أموت قبل أن أسمعَه؛ فقال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ((يَحشُر اللهُ العبادَ -أو قال: الناسَ- عُراةً غُرلًا بُهمًا. قلنا: ما بُهْمًا؟ قال: ليس معهم شيء. ثم يُناديهم ربُّهم بصوت يَسمعُه مَن بَعُد كما يَسمعُه مَن قَرُب: أنا الملِك. أنا الدَّيَّان. لا يَنبغي لأحدٍ من أهل الجَنّة أن يَدخل الجَنّة، ولأحَدٍ من أهل النّار عنده مَظلمة، حتى أقُصّه منه، حتى اللّطمة. قلنا: كيف؟ وإنّما نأتي اللهَ عُراةً غُرلًا بُهْمًا؟ قال: بالحسنات والسّيِّئات)).

واستدلّ البيهقي أيضًا برحلة موسى إلى الخَضر، وقصّته في الصحيح.

وروي أيضًا، من طريق عيّاش بن أبي عباس، عن واهب بن عبد الله المعافري، قال: “قدِم رجل من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم من الأنصار على مسلمة بن مخلد، فألْفاه نائمًا، فقال: أيْقِظوه! قالوا: بل نَتْركه حتى يستيقظ! قال: لستُ فاعلًا. فأيقَظوا مسلمةَ له، فرحّب به وقال: انزِلْ! قال: لا، حتّى تُرسل إلى عقبة بن عامر لِحاجةٍ لي إليه. فأرسل إلى عقبة فأتاه، فقال: هل سمعتَ رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ((مَن وَجَد مسلمًا على عورة فسَتَره، فكأنّما أحْيا موءودةً مِن قبْرها))؟ قال عقبة: قد سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول ذلك”.

قال ابن الصلاح: “ولا يَحملنّه الحرص والشّره على التّساهل في السّماع والتّحمّل والإخلال، فيُخِلّ بشيء من شروطه”.

وقال الخطيب: “لِيعلمِ الطالبُ أنّ شهوةَ السّماع لا تنتهي، والنّهْمة من الطلب لا تنقضي، والعلْم كالبحار المتعذِّر كيْلُها، والمعادن التي لا ينقطع نيْلُها؛ فلا ينبغي له أن يشتغل في الغربة إلَّا بما تستحقّ لأجْله الرِّحلة”.

3. أن يستعْمل الطالبُ ما سمِع من الحديث في فضائل الأعمال، فذلك زكاة الحديث، وسبب حِفْظِه.

وقد روي في حديث علي: ((أنّ رجلًا قال: يا رسول الله. ما يَنْفي عني حجّة الجهل؟ قال العلْم. قال: ما يَنْفِي عنّي حُجّة العلْم؟ قال: العمل)).

وروي عن بشر بن الحارث، أنه قال: “يا أصحاب الحديث، أدّوا زكاة هذا الحديث. اعملوا من كلِّ مائتَيْ حديث بخمسة أحاديث”.

وروي أيضًا عن عمرو بن قيس، أنه قال: “إذا بلَغك شيء من الخير فاعملْ به ولو مرة؛ تكُن من أهله”.

وروي عن وكيع أنه قال: “إذا أردت أن تحفظ الحديث، فاعملْ به”.

وروي عن إبراهيم بن إسماعيل، أنه قال: “كنا نستعين على حفْظ الحديث بالعمل به”.

ويروى عن أحمد بن حنبل، أنه قال: “ما كتبتُ حديثًا إلَّا وقد عملتُ به، حتى مرّ بي في الحديث: ((أنّ النبي صلى الله عليه وسلم احتجم، وأعطى أبا طيْبة دينارًا))، فاحتجمتُ فأعطيتُ الحجّام دينارًا”.

4. أن يُبجِّل الطالبُ شيخَه؛ فقد روي عن مغيرة أنه قال: “كنا نهاب إبراهيم كما نهابُ الأمير”.

وعن البخاري أنه قال: “ما رأيت أحدًا أوقر للمُحدِّثين من يحيى بن مَعين”.

وعن ابن عباس,  أنه قال: “وجدتُ عامّة علْم رسول الله صلى الله عليه وسلم عند هذا الحيِّ من الأنصار. فإني كنت لآتي بابَ أحدِهم فأقيل ببابه. ولو شئتُ أن يُؤذَن لي عليه لأذِن لي، لِقرابتي من رسول الله صلى الله عليه وسلم ولكن كنتُ أبتغي بذلك طِيبَ نفْسِه”.

5. أن يحذر الطالب من التثقيل على شيْخه، لئلاّ يُضجِره أو يُمِلَّه، قال الخطيب: “وإذا حدّثَه، فيجب أن يأخذ منه العفو ولا يُضجِرَه”.

فالإضجار يُغيِّر الأفهام، ويُفسد الأخلاق، ويُحيل الطِّباع. وقد كان إسماعيل بن أبي خالد من أحسن الناس خُلُقا، فلم يزالوا به حتى ساء خُلُقُه.

وعن محمد بن سيرين: أنّه سأله رجل عن حديث، وقد أراد أن يقوم، فقال: “إنك إن كلّفْتَني ما لم أُطِقْ، ساءك ما سرّك منّي من خُلُق”.

قال الإمام ابن الصلاح -رحمه الله تعالى-: “يُخشَى على فاعل ذلك أن يُحرَم الانتفاع”.

وعن الزهري أنه قال: “إذا طال المجلسُ، كان للشيطان فيه نصيب”.

قال الحافظ العراقي: “وقد جرّبتُ ذلك؛ فإنّ شيخنا أبا العباس أحمد بن عبد الرحمن المرداوي كان كَبر وعجَز عن الإسماع، حتى كنّا نتألّفه على قراءة الشيء اليسير. فقرأ عليه بعض أصحابنا -فيما بلغني- (العمدة) بإجازته من ابن عبد الدائم، وأطال عليه فأضجره، فكان الشيخ يقول له: “لا أحياك الله أن ترويَها عني”، أو نحو ذلك. فمات الطالب بعد قليل، ولم ينتفع بما سمِعه عليه”.

6. أن ْيستشِر الطالبُ شيخَه في أموره التي تَعرِض له، وما يشتغل فيه وكيفية اشتغاله، وعلى الشيخ أن ينصَحَه في ذلك.

7. أن ْيحذر الطالبُ أن يَمنعَه التّكبّر أو الحياء عن طلب العلْم ممّن هو دونه في النّسب أو السِّنّ.

فقد روى البخاري عن مجاهد، أنه قال: “لا ينال العلْم مُستحٍ ولا مُستكبِر”.

وقالت عائشة: “نِعْم النِساءُ نساءُ الأنصار! لم يَكنْ يَمنعُهُنّ الحياءُ أن يتفقّهْن في الدِّين”.

وعن وكيع أنه قال: “لا يَنبُل الرّجُل من أصحاب الحديث حتى يَكتبَ عمّن هو فوقَه، وعمّن هو مثْله، وعمّن هو دونَه”.

وكان ابن المبارك يكتب عمّن هو دونَه، فقيل له، فقال: “لعلّ الكلمة التي فيها نجاتي لم تقعْ لي”.

وروى البيهقيُّ عن الأصمعي، أنه قال: “مَن لم يَحتملْ ذُلّ التعليم ساعة، بقي في ذُلِّ الجهل أبدًا”.

وروى أيضًا عن عمر, أنه قال: “لا تتعلّمِ العلْم لثلاث، ولا تتْركْه لثلاث: لا تتعلّم لِتُماري به، ولا تُراءِ به، ولا تُباهِ به. ولا تَتْركْه حياءً مِن طلَبِه، ولا زهادةً فيه، ولا رضًا بجهالة”.

8. أن يجتنِب الطّالب أن يظفر بشيخ أو بسماع لشيخ، فيكتمه لينفرد به عن أضرابه؛ فذلك لؤمٌ مِن فاعِله، فيُخاف على كاتِمه عدمُ الانتفاع؛ فإن من بركة الحديث: إفادته، ونشْره يُمْن.

وعن مالك, أنه قال: “مِن بَركة الحديث: إفادةُ بعضِهم بعضًا”.

ونحوه أيضًا عن ابن المبارك، ويحيى بن معين.

وعن يحيى بن معين أنه قال: “مَن بخِل بالحديث، وكتَم على الناس سماعهم، لم يُفلح”.

وعن إسحاق بن راهويه أنه قال: “قد رأينا أقوامًا منعوا هذا السّماع، فوالله ما أفلحوا ولا أنجحوا”.

وقال الخطيب: “والذي نَستحبّه: إفادةَ الحديث لِمن لم يَسمع، والدّلالةَ على الشيوخ، والتّنبيهَ على رواياتهم؛ فإن أقلّ ما في ذلك: النّصحُ للطالب، والحفظُ للمطلوب، مع ما يكتسب به من جزيل الأجر وجميل الذِّكْر. ثم روى بإسناده إلى ابن عباس  عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: “إخواني؛ تناصحوا في العلْم، ولا يَكْتُمْ بعضُكم بعضًا؛ فإنّ خيانةَ الرّجُل في علْمه أشدُّ من خيانته في مالِه”، ثم روى عن الثوري قولَه: “لِيُفِدْ بعضُكم بعضًا”.

وهذا يدلّ على أنّ ما رُوي عنه وعمّن تقدّم ذِكْره من الأئمة، ممّا يُخالف ذلك، محمول على كتْمه عمّن لم يَرَوْهُ أهلًا، أو على مَن لَم يَقْبلِ الصّواب إذا أُرشِد إليه، أو نحو ذلك…

وقد قال الخطيب: “مَن أدّاه -لِجهْلِهِ- فَرْطُ التّيهِ والإعجاب إلى المُحاماة عن الخَطأ والمُماراة في الصّواب، فهو بذلك الوصف مذموم مأثوم، ومُحتجِرُ الفائدةِ عنه غيرُ مؤنَّب ولا مَلوم”.

وعن الخليل بن أحمد، أنه قال لأبي عبيدة: “لا ترُدَّنَّ على مُعجَب خطأً، فيستفيدَ منك علْمًا ويتّخذَك به عدوًا”.

9. أن تكون هِمّة الطالب: تحصيلَ الفائدة، سواء وقعت له بعلوٍّ أو بنزول. ولا يأنف أن يكتب عمّن هو دونه ما يستفيدُه؛ فعن سفيان ووكيع أنهما قالا: “لا يكون الرّجل من أهل الحديث حتى يكتب”.

وقال وكيع: “لا يكون عالِمًا حتى يأخذَ عمّن هو فوقه، وعمّن هو دونه، وعمّن هو مثله”.

10. أن يحذر الطالبُ أن تكون همّته: تكثير الشيوخ لِمجرّد اسم الكثرة وصِيتها؛ فقد قال ابن الصلاح: “ليس بمُوفّق مَن ضيَّع شيئًا من وقته في ذلك”.

وعن عفّان أنه سمع قومًا يقولون: “نسَخْنا كُتب فلان”، فقال: هذا الضّرب من الناس لا يُفلحون. كنا نأتي هذا، فنسمع منه ما ليس عند هذا، ونسمع من هذا ما ليس عند هذا، فقدمنا الكوفة فأقمنا أربعة أشهر، ولو أردنا أن نكتب مائة ألْف حديث لكتبناها. فما كتبْنا إلَّا قَدْر خمسةِ آلاف حديث، وما رضينا من أحد إلَّا بالإملاء، إلَّا شريك، فإنه أبى علينا”.

قال ابن الصلاح: “وليس من ذلك قولُ أبي حاتم الرازي: “إذا كتبتَ فقمِّشْ، وإذا حدّثت ففتِّشْ”. والتقميش والقمْش: جمْع الشيء من هاهنا وهاهنا. ولم يُبيِّن ابن الصلاح ما المراد بذلك، وكأنه أراد: اكتبِ الفائدة ممّن سمعتَها، ولا تُؤخِّر ذلك حتى تنظر فيمن حدّثك: أهو أهل أن يؤخَذ عنه أم لا؟ فربّما فات ذلك بموت الشيخ أو سفره أو سفرك. فإذا كان وقت الرواية عنه، أو وقت العمل بذلك، ففتِّش حينئذ”.

وقد ترجم عليه الخطيب: باب مَن قال: يُكتب عن كلِّ أحَد.

ويُحتمل أنّ مرادَ أبي حاتم: استيعابُ الكتاب المسموع وترْكُ انتخابه، أو استيعاب ما عند الشيخ وقت التّحمّل، ويكون النظر فيه حال الرواية. وقد يكون قصْد المحدِّث تكثيرَ طُرق الحديث وجمعَ أطرافه؛ فتكثر لذلك شيوخه، ولا بأس بذلك. فعن أبي حاتم أنه قال: “لو لم نكتب الحديث مِن سِتِّين وجهًا، ما عقلناه”.

وقد وُصف بالإكثار من الشيوخ: سفيان الثوري، وأبو داود الطيالسي، ويونس بن محمد المؤدِّب، ومحمد بن يونس الكريمي، وأبو عبد الله بن منده، والقاسم بن داود البغدادي، وقد قال: “كتبت عن ستة آلاف شيخ”.

11. ينبغي للطالب أن يَسمع ويكتب ما وقع له من كتاب أو جزء على التمام، ولا ينتخبه؛ فربما احتاج بعد ذلك إلى رواية شيء منه لم يكن فيما انتخبه منه، فيندم.

فعن ابن المبارك أنه قال: “ما انتخبت على عالِم قط، إلَّا نَدِمْتُ”.

وعن ابن معين أنه قال: “صاحب الانتخاب يندم، وصاحب النّسْخ لا يندم”.

وقد فرّق الخطيب في ذلك، بأن يكون الشيخ عسِرًا والطالبُ واردًا غريبًا، فقال: “إذا كان المحدِّث مُكثرًا وفي الرواية مُعْسِرًا، فينبغي للطالب أن ينتقيَ حديثَه وينتخبه، فيكتب عنه ما لا يجده عند غيره، وينتخب المُعاد من رواياته. قال: وهذا حُكم الواردين من الغرباء، الذين لا يُمكنهم طولُ الإقامة والثواء. وأما متى لم يتميّز للطالب مُعادُ حديثه من غيره، وما يُشارك في روايته ممّا ينفرد به، فالأوْلى أن يكتب حديثه على  الاستيعاب، دون الانتقاء والانتخاب”.

وإن قصُر الطالب عن معرفة الانتخاب وجودته، فقد قال الخطيب: “ينبغي أن يستعين ببعض حُفّاظ وقته على انتقاء ما له غرَض في سماعه وكَتْبه”.

ثم ذكَر من المعروفين بحُسن الانتقاء: أبا زرعة الرازي، وأبا عبد الرحمن النسائي، وإبراهيم الأصبهاني، وعبيد، وأبا بكر العجابي، وعمر البصري، ومحمد بن المظفر، والدارقطني، وغير هؤلاء…

وهذا بيان لِما جرت به عادة الحفّاظ من تعليمهم في أصْل الشيخ على ما انتخبوه.

وفائدته: لأجل المعارضة، أو ليمسك الشيخ أصله، أو لاحتمال ذهاب الفرع، فينقل من الأصل أو يحدِّث من الأصل بذلك المعلَّم عليه.

واختياراتهم لصورة العلامة مختلفة، ولا حرج في ذلك؛ فقد كان الدارقطني يعلِّم بخطٍّ عريض بالحمرة في الحاشية اليسرى. وكان غيرُه يعلِّم على أوّل إسناد الحديث بخط صغير بالحمرة.

وهذا الذي استقرّ عليه عملُ أكثر المتأخرين.

وقد كان أبو الفضل علي بن الحسن الفلّكي يُعلِّم بصورة همزتيْن بحبر في الحاشية اليمنى.

وكان أبو الحسن علي بن أحمد النعيمي يُعلِّم صادًا ممدودة بحبر في الحاشية اليمنى أيضًا. وكان أبو محمد الخلال يعلِّم طاءً ممدودة كذلك.

وكان محمد بن طلحة يعلِّم بحائيْن إحداهما إلى جَنْب الأخرى كذلك.

ولا ينبغي للطالب أن يقتصر على سماع الحديث وكَتْبه، دون معرفته وفهْمه؛ فيكون قد أتعب نفسَه من غير أن يظفر بطائل ولا حصول في عداد أهل الحديث؛ فعن أبي عاصم النبيل قال: “الرياسة في الحديث بلا دراية، رياسة نذْلة”، أي: فيها نذالة.

قال الخطيب: “هي اجتماع الطلبة على الراوي للسماع عند علوِّ سِنِّه، فإذا تميّز الطالب بفهم الحديث ومعرفتِه، تعجّل بركة ذلك في شبيبته”.

12.  ينبغي للطالب أن يقدّم قراءة كتاب في علوم الحديث حفْظًا أو تفهّمًا، ليعرف مصطلحَ أهل الحديث”.

قال ابن الصلاح: “ثم إنّ هذا الكتاب مَدخل إلى هذا الشأن، مُفصحٌ عن أصوله وفروعه، شارحٌ لمصطلحات أهلِه ومقاصدِهم، ومهمّاتهم التي يَنقص المحدِّث بالجهل بها نقصًا فاحشًا. فهو -إن شاء الله تعالى-جدير بأن تُقدَّم العنايةُ به”.

قال الخطيب: “ومِن أوّل ما ينبغي أن يستعملَه الطالب: شدّةُ الحرص على السّماع والمسارعة إليه، والملازمة للشيوخ. ويبتدئ بسماع أمّهات الكُتب: كُتب أهل الأثر والأصول الجامعة للسُّنن.

وأحق هذه الكتب بالتقديم: (الصحيحان) للإماميْن الجليليْن: البخاري ومسلم، وممّا يتلو الصحيحيْن: (سُنن) أبي داود، والنسائي، والترمذي، وكتاب ابن خزيمة.

قال ابن الصلاح: “ضبطًا لمُشكِلها، وفهمًا لِخفِيِّ معانيها”.

وكذلك (السُّنن الكبير) للبيهقي، فلا يُعلم مثْلُه في بابه، ثم سائر ما تمسّ حاجةُ صاحبِ الحديث إليه، من كتب “المسانيد”، كـ(مسند الإمام أحمد بن حنبل)، ومن كتب الجوامع المصنّفة في الأحكام، و(موطأ الإمام مالك)، وهو المقدّم منها”.

وقال الخطيب، بعد أن ذكَر الكُتب الخمسة: “ثم كُتب “المسانيد” الكبار، مثل: (مسند) أحمد، وابن راهويه، وأبي بكر بن أبي شيبة، وأبي خيثمة، وعبد بن حميد، وأحمد بن سنان، والحسن بن سفيان، وأبي يعلى، وما يوجد من (مسند) يعقوب بن شيبة، وإسماعيل القاضي، ومحمد بن أيوب الرازي.

ثم الكتب المصنّفة مثل: كتب ابن جريج، وابن أبي عروبة، وابن المبارك، وابن عيينة، وهشيم، وابن وهب، والوليد بن مسلم، ووكيع، وعبد الوهاب بن عطاء، وعبد الرزاق، وسعيد بن منصور، وغير هؤلاء…

قال: وأمّا (موطأ مالك)، فهو المقدَّم في هذا النوع. ويجب أن يبتدئ بذِكْره عن كل كتاب لغيره.

ثم أيضًا عليه: الاعتناء وقراءة الكتب المتعلّقة بعِلَل الحديث، ومنها: كتاب الإمام أحمد بن حنبل، وابن المديني، وابن أبي حاتم، وأبي علي النيسابوري، والدارقطني، و(التمييز) لمسلم.

وأوّل ما ينبغي الاعتناء به من الكتب: أن يقرأ في تواريخ المُحدِّثين، مثل: كتاب ابن معين رواية عباس، ورواية المفضّل العلائي، ورواية الحسين بن حبان، و(تاريخ) خليفة، وأبي حسّان الزيادي، ويعقوب الفسوي، وابن أبي خيثمة، وأبي زرعة الدمشقي، وحنبل بن إسحاق، والسّراج، و(الجرح والتعديل) لابن أبي حاتم.

قال العراقي: “ويفوق على هذه الكتب كلّها: (تاريخ محمد بن إسماعيل البخاري)، أي: (التاريخ الكبير) له، وله ثلاثة تواريخ”.

قال ابن الصلاح: “إنّ من أجْود العِلَل: كتاب أحمد والدارقطني، ومن أفضل التواريخ: (تاريخ البخاري الكبير)، وكتاب ابن أبي حاتم”، ثم قال: “ومِن كُتب الضبط لمًشكل الأسماء، ومن أكملها: كتاب (الإكمال) لأبي نصر بن ماكولا.

وليكن تحفّظ الطالب للحديث على التّدريج قليلًا قليلًا، ولا يأخذ نفسه بما لا يُطيقه؛ ففي الحديث الصحيح: ((خذوا من الأعمال ما تُطيقون)).

وعن الثوري رحمه الله أنه قال: “كنت آتي الأعمشَ ومنصورًا، فأسمع أربعة أحاديث أو خمسة ثم أنصرف، كراهية أن تَكثُر وتَفلت”.

وعن الزهري رحمه الله أنه قال: “مَن طَلب العلْم جُملةً فاتَه جُملة، وإنّما يُدرَك العلْم: حديثٌ وحديثان”.

وقال أيضًا: “إنّ هذا العلْم إنْ أخذْتَه بالمُكاثرة غلَبَك؛ ولكن خُذْهُ مع الأيام والليالي أخْذًا رفيقًا، تَظْفرْ به”.

وممّا يُعين على دوام الحفْظ: المذاكرة؛ فعن عليّ بن أبي طالب, أنه قال: “تذاكروا هذا الحديث؛ إلَّا تفعلوا يُدرَس”.

وعن ابن مسعود, أنه قال: “تذاكروا الحديث؛ فإنّ حياتَه مذاكرتُه”.

وقال ابن عباس: “مُذاكرة العلْم ساعة خيرٌ من إحياء ليلة”.

وعن أبي سعيد الخدري وابن عباس  نحو هذا أيضًا.

وعن الخليل بن أحمد، أنه قال: “ذاكِرْ بعلْمك تَذكرْ ما عندك، وتَسْتفدْ ما ليس عندك”.

وعن عبد الله بن المعتز، أنه قال: “مَن أكثر مذاكرةَ العلماء، لم يَنْس ما علِم، واستفاد ما لم يَعلمْ”.

ولْيكنِ المُحدِّث مصاحِبًا للإتقان، فعن عبد الرحمن بن مهدي أنه قال: “الحفْظ: الإتقان”.

وإذا تأهّل المحدِّث للتأليف والتخريج واستعدّ لذلك، فليُبادرْ إليه، فقد قال الخطيب البغدادي: “قلّما يتمهّر في علْم الحديث، ويقف على غوامض، ويستبين الخفيّ من فوائده، إلَّا مَن جمَع مُتفرِّقَه، وألّف مُتشتِّتَه، وضمّ بعضَه إلى بعض، واشتغل بتصنيف أبوابه وترتيب أصنافه؛ فإنّ ذلك الفعل ممّا يُقوِّي النفْس، ويُثبِّت الحفْظ، ويُذكِّي القلب، ويشحذ الطّبع، ويبسط اللّسان، ويُجيد البيان، ويكْشف المشتبِه، ويوضِّح المُلتبِس، ويُكسِب أيضًا جميلَ الذِّكر، ويُخلِّده إلى آخِر الدهر”.

قال الشاعر:

 يموتُ قومٌ فيُحيِي العلْمُ ذِكرَهُمُ

* والجهلُ يُلحقُ أحياءً بأمواتِ

13. أن يشتغل الطالبُ بالتخريج والتصنيف إذا تأهّل لذلك، قال بعض العلماء: “من أراد الفائدة، فلْيكْسر قلمَ النسخ، وليأخذْ قلَم التّخريج”.

فعن أبي عبد الله محمد بن علي بن عبد الله الصوري، أنه قال: “رأيت عبد الغني بن سعيد الحافظ في المنام، فقال لي: يا أبا عبد الله، خَرِّجْ وصنِّفْ قبل أن يُحال بيْنك وبيْنه، ها أنا ذا قد تراني قد حِيل بيني وبين ذلك”.

فبالتصنيف يطّلع الطالب على حقائق العلوم وعلى دقائقه، ويَثبُت معه، لأنه يضطرّه إلى كثرة التفتيش والمطالعة، والتحقيق والمراجعة، والاطّلاع على مختلِف كلام الأئمّة ومُتّفَقه، وواضحه من مُشكِله، وصحيحه من ضعيفه، وجزْله مِن ركيكه، وما لا اعتراض فيه من غيره، وبه يتّصف المُحقِّق بصفة المجتهد.

قال الربيع: “لم أرَ الشافعيّ آكلًا بنهار، ولا نائمًا بليل، لاهتمامه بالتصنيف”.

ثم إنّ للعلماء في تصنيف الحديث وجمْعه طريقتيْن:

الطريقة الأولى: تصنيفه على الأبواب على أحكام الفقه وغيرها، وهو أجْودُها، كـ(الكتب السِّتة)، و(الموطأ)، وبقيّة المصنّفات كـ(شُعب الإيمان) للبيهقي، و(البعث والنشور) له أيضًا، وغير ذلك. فيذكر في كل باب ما حضَره ممّا ورد فيه ممّا يدل على حُكمه إثباتًا أو نفْيًا. والأوْلَى: أن يقتصر على ما صحّ أو حَسُن؛ فإنْ جمَع الجميع، فلْيُبيِّنْ علّة الضعيف. 

الطريقة الثانية: هي التصنيف على مسانيد الصحابة، كل مسند على حِدة -كما تقدّم ذلك؛ فعن الدارقطني أنه قال: “أوّل مَن صنّف “مسندًا” وتتبّعه: نعيم بن حمّاد.

وقال الخطيب: “وقد صنّف أسد بن موسى (مسندًا)، وكان أكبر من نعيم سِنًّا، وأقدمَ سماعًا، فيحتمل أن يكون نعيم سبقه في حداثته”.

قال الخطيب: “فإن شاء رتّب أسماءَ الصحابة على حروف المعجم، وإن شاء على القبائل، فيبدأ ببني هاشم، ثم الأقرب فالأقرب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم في النّسب، وإن شاء رتّبَه على قَدْر سوابق الصحابة في الإسلام”.

قال: “وهذه الطريقة أحبّ إلينا، فيبدأ بالعشَرة، ثم بالمقدَّمين من أهل بدْر، ويتلوهم أهل الحديبية، ثم مَن أسلم وهاجر بين الحديبية والفتح، ثم مَن أسلم يوم الفتح، ثم الأصاغر الأسنان، كالسائب بن يزيد، وأبي الطفيل”.

قال ابن الصلاح: “ثم بالنّساء”. قال: “وهذا أحسن، والأوّل أسهل”.

قال الخطيب: “يُستحبّ أن يصنّف “المسند” مُعلّلًا؛ فإنّ معرفة العِلَل أجَلُّ أنواع الحديث”.

فعن عبد الرحمن بن مهدي أنه قال: “لأنْ أعرف عِلّة حديث هو عندي أحبّ إليّ مِن أن أكتب عشرين حديثًا ليس عندي”.

وقد جمع يعقوب بن شيبة (مُسندًا) مُعلَّلًا. قال الأزهري: “ولم يصنّف يعقوب (المسند) كلّه”. قال: “وسمعت الشيوخ يقولون: لم يتمّ مُسندٌ معلّل قطّ”. قال: “وقيل لي: إن نسخة من (مسند أبي هريرة) شوهدتْ بمصر، فكانت مائتَيْ جزء”. قال: “ولزِمه على ما خرّج من (المسند) عشرة آلاف حديث”.

قال الخطيب: “والذي ظهَر ليعقوب (مسند) العشرة، وابن مسعود، وعمّار، وعتبة بن غزوان، والعباس، وبعض الموالي؛ هذا الذي رأيناه من (مسنده).

وممّا جَرتْ عادة أهل الحديث أن يَخُصوه بالجمع والتأليف: الأبواب، والشيوخ، والتراجم، والطُّرق.

فأمّا جمْع الأبواب، فهو إفراد باب واحد بالتّصنيف، ككتاب (رفْع اليديْن)، وباب: (القراءة خلْف الإمام) أفردهما البخاري بالتصنيف، وباب (التصديق بالنظر لله تعالى) أفرده الآجري، وباب (النّيّة) أفرده ابن أبي الدنيا، وباب (القضاء باليمين مع الشاهد) أفرده الدارقطني، وباب (القنوت) أفرده ابن منده، وباب (البسملة) أفرده ابن عبد البَر وغيره، وغير ذلك أيضًا…

وأمّا جمْع الشيوخ، أو طريقة التصنيف على الشيوخ، فهو جمع حديث شيوخ مخصوصين كلّ واحد منهم على انفراده، كجمع حديث الأعمش للإسماعيلي، وحديث الفضيل بن عياض للنسائي، وحديث محمد بن جحادة للطبراني، وغير ذلك…

وقد ذكَر الخطيب ممّن يجمع حديثه: إسماعيل بن أبي خالد، وأيوب بن أبي تميمة، وبيان بن بشر، والحسن بن صالح، وحماد بن زيد، وداود بن أبي هند، وغير هؤلاء…

وكذلك أيضًا: مالك بن أنس، ومحمد بن سوقة، ومحمد بن مسلم بن شهاب، ومحمد بن واسع، ومسعر بن كدام، ومطر بن طهمان، وهشام بن سعد، ويحيى بن سعيد الأنصاري، ويونس بن عبيد البصري.

وعن عثمان بن سعيد الدارمي، أنه قال: “يقال: من لم يجمع حديث هؤلاء الخمسة، هو مفلس في الحديث: سفيان، وشعبة، ومالك، وحماد بن زيد، وابن عيينة؛ وهم أصول الدِّين”.

وأمّا طريقة جمْع التراجم، فهو: جمْع ما جاء بترجمة واحدة من الحديث، كـ”مالك عن نافع عن ابن عمر”، و”سهيل بن أبي صالح عن أبيه عن أبي هريرة”، و”هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة”، و”أيوب عن ابن سيرين عن أبي هريرة”، ونحو ذلك…

وأمّا جمْع الطُّرق، فهو: جمع طُرق حديث واحد، كطُرق حديث قبْض العلْم للطوسي، وطُرق حديث: ((مَن كذَب عليَّ مُتعمِّدًا)) للطبراني، وطُرق حديث: ((طلَبُ العلْم فريضة))، ونحو ذلك…

وقد أدخل الخطيب هذا القسْم في جميع الأبواب، وأفرده ابن الصلاح بالذِّكر، وهو واضح؛ لأن هذا جمْع طُرق حديث واحد، وذلك جمْع باب وفيه أحاديث مختلفة.

وكرِه العلماء: الجمْعَ والتأليف للطالب الذي هو قاصر عن جودة التأليف؛ فعن علي بن المديني أنه قال: “إذا رأيت المُحدِّث أوّل ما يكتب الحديث يجمع حديث الغسل، وحديث: ((مَن كذَب عليَّ)) فاكتب على قفاه: “لا يُفلح”.

وكذلك أيضًا كرِه العلماء: إخراج التّصنيف أو المؤلَّف إلى الناس قبل تهذيبه وتحريره، وإعادة النّظر فيه وتكريره.

14. أن يحذر الطالب مِن تصنيف ما لم يتأهّلْ له؛ فمَن فعَل ذلك لم يفلح، وضرّه في دِينه وعلْمه وعِرضه.

قال ابن الصلاح: “وينبغي أن يتحرّى في تصنيفه العبارات الواضحة والموجزة، والاصطلاحات المستعمَلة، ولا يبالغ في الإيجاز بحيث يُفضي إلى الاستغلاق، ولا في الإيضاح بحيث ينتهي إلى الركاكة، وليكن اعتناؤه من التّصنيف بما لم يُسبَق إليه أكثر”.

قال في  (شرح المهذّب): “والمراد بذلك: أن لا يكون هناك تصنيف يُغني عن مصنّفه من جميع أساليبه، فإن أغنى عن بعضها؛ فلْيُصنِّفْ من جنسه ما يزيد زيادات يُحتفل بها، مع ضمّ ما فاته من الأساليب”.

قال: “وليكنْ تَصنيفُه فيما يعمّ الانتفاع به، ويكثر الاحتياج إليه”.

قال السيوطي: “وقد روينا عن البخاري في آداب طالب الحديث: أثرًا لطيفًا، نختم به هذا النوع”، وذكَر سندًا إلى أبي ذرّ عمار بن محمد بن مخلد التيمي، أنه قال: “سمعت أبا المظفّر محمد بن أحمد بن حامد البخاري، أنه قال: لمّا عُزل أبو العباس الوليد بن إبراهيم بن زيد الهمذاني عن قضاء الرّيّ، ورد بخارى، فحملني معلِّمي أبو إبراهيم الختلي إليه، وقال له: أسألك أنْ تُحدِّث هذا الصبيّ بما سمعتَ من مشايخنا. فقال: ما لي سماع. فقال: كيف وأنت فقيه؟ قال: لأني لمّا بلغْتُ مبْلغ الرِّجال تاقتْ نفسي إلى طلب الحديث، فقصدتُ محمد بن إسماعيل البخاري، وأعلمْتُه مرادي، فقال لي: يا بنيّ، لا تدخلْ في أمْر إلَّا بعد معرفةِ حُدودِه والوقوف على مقاديره. واعلمْ: أنّ الرّجل لا يصير مُحدِّثًا كاملًا في حديثه، إلَّا بعد أن يكتُب أربعًا مع أربع، كأربع مثْل أربع، في أربع عند أربع، بأربع على أربع، عن أربع لأربع. وكل هذه الرباعيات لا تتمّ إلَّا بأربع مع أربع. فإذا تمّت له كلّها هان عليه أربع، وابتُلي بأربع. فإذا صبر على ذلك، أكرمه الله في الدنيا بأربع، وأثابه في الآخرة بأربع. قلت له: فسِّرْ لي -رحمك اللهُ- ما ذكرتَ من أحوال هذه الرباعيات. قال: نعم، أمّا الأربع التي يحتاج إلى كَتْبها هي: أخبار الرسول صلى الله عليه وسلم وشرائعه، والصحابة ومقاديرهم، والتابعين وأحوالهم، وسائر العلماء وتواريخهم، مع أسماء رجالها، وكُناهم، وأمكنتهم، وأزمنتهم، كالتحميد مع الخطيب، والدّعاء مع التّرسل، والبسملة مع السورة، والتكبير مع الصلوات، مثل: المسندات، والمرسَلات، والموقوفات، والمقطوعات، في صغره، وفي إدراكه، وفي شبابه، وفي كهولته، عند شُغله، وعند فراغه، وعند فقره، وعند غناه، بالجبال والبحار والبلدان والبراري، على الأحجار والأصداف، والجلود والأكتاف، إلى الوقت الذي يُمكنه نقْلها إلى الأوراق، عمّن هو فوقه، وعمّن هو مثْله، وعمّن هو دونه، وعن كتاب أبيه، يتيقّن أنه بخطّ أبيه دون غيره، لوجه الله تعالى، طالبًا لِمرضاته والعمل بما وافق كتاب الله تعالى منها، ونشْرها بين طالبيها، والتأليف في إحياء ذكْره بعده.

ثم لا تتمّ له هذه الأشياء إلَّا بأربع هي مِن كسْب العبد: معرفة الكتابة، واللغة، والصرف، والنحو، مع أربع هنّ من عطاء الله تعالى: الصحة، والقدرة، والحرص، والحفظ. فإذا صحّت له هذه الأشياء، هان عليه أربع: الأهل، والولد، والمال، والوطن. وابتلي بأربع: شماتة الأعداء، وملامة الأصدقاء، وطعن الجهلاء، وحسَد العلماء. فإذا صبر على هذه المِحن، أكرمه الله في الدنيا بأربع: بعزّ القناعة، وبهيْبة اليقين، وبلذّة العلْم، وبحياة الأبد. وأثابه في الآخِرة بأربع: بالشفاعة لِمن أراد مِن إخوانه، وبظلٍّ حيث العرش لا ظلّ إلا ظلّه، ويسقي من أراد من حوض محمد صلى الله عليه وسلم وبجوار النبيِّين في أعلى علِّيِّين في الجَنّة. فقد أعلمتُك يا بنيّ بمُجملات جميع ما كنتُ سمعت من مشايخي مُتفرِّقًا في هذا الباب؛ فأقْبِل الآن على ما قصدْتَني له، أو دَعْ”.

error: النص محمي !!