آصرة العقيدة هي الأساس الأول في تآلف الناس
إن آصرة العقيدة هي أساس الارتباط بين الناس في مجتمع المدينة المنورة الذي أقامه رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ فالروابط التي تجمع بين الناس مختلفة، وهم يجتمعون قبائل، وشعوب، وأوطان، وقوميات، وقد يجتمع أبناء القوميات المختلفة تحت لواء واحد بسبب الدين أو المصالح المشتركة، وتعتبر آصرة القرب أو الدم والانتماء إلى أصل عرقي من أقدم الروابط التي كونت المجتمعات البشرية.
ويوم أن ظهر الإسلام كانت تجمعات الناس تظهر بشكل قبائل كما في جزيرة العرب، وتظهر في شكل قوميات، كما في بلاد فارس، أو في شكل مجتمعات دينية، كما في الإمبراطورية البيزنطية، لكن الإسلام جعل رابطة العقيدة هي الأساس الأول في ارتباط الناس وتآلفهم، وإن أقرَّ بعض الأواصر الأخرى إذا انضوت تحت هذا الأصل، مثل الأرحام التي حث الإسلام على وصلها، ورتب على ذلك الأحكام المتعلقة بالتكافل الاجتماعي والإرث، ومثل صلة الجوار، وما يترتب عليها من حقوق الجار، ومثل الصلة بين أفراد العشيرة، وما يترتب عليها من تضامن في الديات، ومثل الصلة بين أبناء المدينة، وجعلهم أولى من سواهم بزكاة أغنيائهم، لكن هذه الصلات ينبغي أن تندرج تحت آصرة العقيدة، فإذا خالفتها وأضرت بها لم يبقَ لها أي لون من ألوان الاعتبار، فأساس الارتباط في الإسلام هو العقيدة، التي تقتضي مصلحتها التفريق بين المرء وأبيه، وبين المرء وابنه، وبين المرء وزوجته، وبين المرء وعشيرته، وهكذا قاتل أبو عبادة رضي الله عنه أباه الذي كان يمجد الأصنام، فقتله عندما التقى به في معركة بدر الكبرى، ورأى أبو حذيفة رضي الله عنه أباه المشرك وهو يُسحب ليُرمى في القليب ببدر دون أن ينكر قلبه شيئًا من ذلك.
وقد أوضح القرآن الكريم ذلك فيما قصَّه عن نوح عليه السلام وابنه، قال الله سبحانه وتعالى: {وَنَادَى نُوحٌ رَّبَّهُ فَقَالَ رَبِّ إِنَّ ابُنِي مِنْ أَهْلِي وَإِنَّ وَعْدَكَ الْحَقُّ وَأَنتَ أَحْكَمُ الْحَاكِمِين قَالَ يَا نُوحُ إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صَالِحٍ فَلاَ تَسْأَلْنِ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنِّي أَعِظُكَ أَن تَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِين} [هود: 45، 46]. هكذا بيّن الحق سبحانه وتعالى أن ابن نوح وإنْ كان من أهله باعتبار القرابة، لكنه لم يعد من أهله لمَّا فارق الحقَّ، وكفر بالله، ولم يتبع نوحًا نبي الله، وصرَّح القرآن الكريم بعلة انقطاع الآصرة بين نوح وابنه بقوله: {إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صَالِحٍ }.
فإذا كانت القرابة من الدرجة الأولى تنبتُّ عندما تصطدم بالعقيدة، فالأحرى أن تنبتَّ صلات الدم، والعرق، والوطن، واللون إذا اصطدمت بمصلحة العقيدة.
وقد حصر الإسلام الأخوة والموالاة بين المؤمنين فقط، {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ} [الحجرات:10]، وقد قطع سبحانه وتعالى الولاية بين المؤمنين وبين الكافرين من المشركين واليهود والنصارى، حتى لو كانوا آباءهم، أو إخوانهم، أو أبناءهم، ووصف من يفعل ذلك من المؤمنين بالظلمين.
وقد وضع القرآن الكريم مصالح المسلم، وعلاقاته الدنيوية كلها في كفة، ووضع حب الله ورسوله والجهاد في سبيل الله في كِفة أخرى، وحذر المؤمنين وتوعدهم إن هم غلَّبوا مصالحهم وعلاقاتهم الاجتماعية على مصلحة العقيدة، فقال عز وجل: {قُلْ إِن كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَآؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَيْكُم مِّنَ اللّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُواْ حَتَّى يَأْتِيَ اللّهُ بِأَمْرِهِ وَاللّهُ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِين} [التوبة: 24]، وقد نزلت هذه الآيات في الحضّ على الهجرة إلى المدينة للدفاع عن الدولة الإسلامية التي نشأت فيها، وقد نجح الصحابة الكرام في امتحان العقيدة، ففارقوا الأهل والأموال والمساكن التي يحبونها، وهاجروا إلى الله ورسوله والجهاد في سبيله.
خلاصة القول: أن المجتمع المدني الذي أقامه الإسلام كان مجتمعًا عقيديًّا يرتبط بالإسلام، ولا يعرف الموالاة إلا الله ولرسوله وللمؤمنين، وهي أعلى أنواع الارتباط وأرقاها؛ إذ إنه يتصل بوحدة العقيدة والفكر والروح، فالمؤمنون بعضهم أولياء بعض، تتكافأ دماؤهم، ويسعى بذمتهم أدناهم، وهم يد على من سواهم، وهذا المجتمع مفتوح لمن أراد أن ينتمي إليه مهما كان لونه أو جنسه، على أن ينخلع من صفته الجاهلية، ويكتسب الشخصية الإسلامية؛ ليتمتع بسائر حقوق المسلمين.