Top
Image Alt

أبو البقاء الرندي

  /  أبو البقاء الرندي

أبو البقاء الرندي

إذا ذُكر أبو البقاء الرندي ذكرنا الأندلس الضائعة التي رَثَاها هذا الشاعر بقصيدة اشتهرت شُهرة كبيرة بسبب ما تضمنته من الحِكم، والمواعظ، والذكريات، هذه القصيدة مطلعها:

لكل شيء إذا ما تمَّ نقصانُ

*فلا يُغرُّ بطيب العيش إنسانُ

يقول الدكتور مصطفى الشكعة عن هذه القصيدة: إنها أشهر قصيدة في هذا الموقف التاريخي، ويذكر ملاحظة جديرة بالإثبات عن هذه القصيدة، هي: أن هذه القصيدة لم تُكتب بعد خروج المسلمين من الأندلس، والدارسون يستشهدون بهذه القصيدة على أنها في رثاء الأندلس جملة، هي في الحقيقة ليست في رثاء الأندلس كلها؛ لأنها لم تُقل بعد ذهاب الأندلس كلها، وإن كانت قيلت بعد ضياع كثير من مُدن الأندلس وسقوطها. فالدارسون يعتبرونها في رثاء الأندلس لأنها في رثاء كثير من مدن الأندلس، التي ذهبت؛ إذ إن الشاعر تُوفي سنة ستمائة وأربع وثمانين من الهجرة، أي: قبل سقوط الأندلس تمامًا بحوالي قرنين من الزمان، لكنَّه -كما ذكرت- رثى فيها كثيرًا من المدن الأندلسية التي ذهبت، والتي ضاعت. ومطلع القصيدة سار مسار الحكم:

لكلِّ شيء إذا ما تمَّ نقصانُ

*فلا يُغرُّ بطيب العيش إنسانُ

وهذا البيت والأبيات التي بعده تمثِّل القسم الأول من القصيدة؛ لأن هذه القصيدة من سماتها التي ميَّزتها عن غيرها من القصائد التي قيلت في رثاء المدن والممالك الزائلة، وفي رثاء الأندلس بصفة عامة: أن هذه القصيدة ممنهجة، أو مخططة؛ فهي تنقسم إلى عدَّة أقسام، القسم الأول جعله الشاعر لشكوى الدهر، وغدره، وضرب المثل بالدُّول التي سقطت، والملوك الذين ذهبوا، فبدأها بهذا المطلع:

لكل شيء إذا ما تمَّ نقصانُ

*فلا يُغرُّ بطيب العيش إنسانُ

وكما قلت: هذه حكمة، فكل شيء إذا تمَّ لا بد أن يتَّجه بعد التمام إلى النقص، ومن هنا يذكِّر الشاعر ويدعو إلى عدم الاغترار بطيب العيش، وتمام السعادة، واكتمال الأحوال؛ فإن هذا التمام وذلك الاكتمال مؤذنٌ بالنقص والتغير، ويُدلِّل على ذلك بما شاهده:

هي الأمور كما شاهدتها دولٌ

*من سرَّه زمن ساءته أزمان

وهذه الدار لا تبقي على أحد

*ولا يدوم على حال لها شان

فدوام الحال من المحال.

يُمزق الدهر حتمًا كل سابغة

*إذا نبت مشرفيات وخرصان

ينتقل بعد ذلك إلى أحوال الدهر، ويتساءل عن الملوك الذين ذهبوا وكانوا في ملكهم أعزاء، ثم ذلوا:

أين الملوك ذَوُو التيجان من يمن

*وأين منهم أكاليل وتيجان

ويذكر شداد صاحب إرم، ويذكر ملك الفرس ساسان، ويذكر قارون، ويذكر عادًا وشدَّادًا وقحطانًا، ويذكر غيرهم ممن أزالهم الدهر من عروشهم، وأتت الحوادث عليهم.

ثم في القسم الثاني يذكر ابن الرندي المدن الجميلة التي كانت مَثَار إعجاب الناس في الأندلس، وكانت محلًّا لأمجاد المسلمين فيها، ثم سقطت، وذهبت، وخرج المسلمون منها أذلَّة بعد أن كانوا فيها أعزَّة، ويذكر من هذه المدن بلنسية، وقرطبة، وحمص، وحمص هذه غير حمص المعروفة في بلاد الشام؛ فيقول:

فاسأل بلنسية ما شأن مرسية

*وأين شاطبة أم أين جيَّان

وأين قرطبة دار العلوم فكم من

*عالم قد سَمَا فيها له شان

وأين حمص وما تحويه من نُزه

*ونهرها العذب فياض وملآن

قواعد كن أركان البلاد فما

*عسى البقاء إذا لم تبقَ أركان

وأما القسم الثالث من هذه القصيدة فتظهر فيه العاطفة الدينية؛ حيث يبكي الشاعر على الإسلام دين الحنيفية البيضاء، الذي أُخرج أهله من تلك الديار، وتحوَّلت مساجدهم إلى كنائس، وفي هذا القسم نجد الكلمات التي تدل على تحوُّل الأحوال وتغيرها، ويخصُّ بالذكر هذه المقدسات كالمساجد والمحاريب؛ فيقول:

تبكي الحنيفية البيضاء من أسفٍ

*كما بكى لفراق الإلف هيمان

على ديارٍ من الإسلام خالية

*قد أقفرت ولها بالكفر عمران

حيث المساجد قد صارت كنائس

*ما فيهن إلى نواقيس وصلبان

حتى المحاريب تبكي وهي جامدةٌ

*حتى المنابر ترثي وهي عيدانُ

فإذا كانت المحاريب تبكي، والمنابر ترثي، وهي من الجماد، فكيف بأولئك المسلمين الذين فرَّطوا فيها وضيَّعوها، إذا كان الجماد يبكي فماذا يفعل الإنسان؟!.

وفي القسم الأخير من القصيدة يستنفر ابن الرندي المسلمين، ويدعوهم إلى تدارك ما يستطيعون تداركه؛ فيقول:

يا راكبين عتاق الخيل ضامرة

*كأنها في مجال السَّبق عقبانُ

وحاملين سيوف الهند مرهفةً

*كأنها في ظلام النقع نيرانُ

وراتعين وراء البحر في دَعَة

*لهم بأوطانهم عزٌّ وسلطانُ

هنا يدعو أصحاب الجيوش، يستنفر المسلمين الغافلين الذين يستخدمون خيلهم في السباق، ويستخدمون سيوفهم في الاستعراض، وهم لاهون عمَّا يحدث لإخوانهم المسلمين، يقول لهم:

أعندكم نبأٌ من أهل أندلس

*فقد سرى بحديث القوم ركبانُ

كم يستغيث بنا المستضعفون وهم

*قتلى وأسرى فما يهتزُّ إنسانُ

يلوم هؤلاء الغافلين الذين تبلَّدت أحاسيسهم ومشاعرهم، فلا يهبُّون لنصرة إخوانهم المستضعفين، ويتساءل:

ماذا التقاطع في الإسلام بينكم

*وأنتم يا عباد الله إخوان

إذا كنتم إخوانًا بالحق مسلمين مؤمنين حقيقة فهُبُّوا لنجدة هذه البلاد الضائعة وأهلها المستضعفين، ما أشبه اليوم بالبارحة.

error: النص محمي !!