أبو العتاهية، ونماذج من شعره
هو إسماعيل بن القاسم بن سويد بن كيسان، وُلد في الكوفة، ونشأ بها، وهو مولى من الموالي، يُرجِّح الباحثون أنه من الأنباط الذين كانوا يعيشون حول الحيرة. وقد وُلد عام مائة وثلاثين، قبل سقوط الدولة الأموية بعامين، وشهدت طفولته الحياة السياسية المضطربة التي عاشها المجتمع أثناء انتقال الخلافة من الأمويين إلى العباسيين، وما صاحب ذلك من عُنف، وقتل، ومطاردة.
واتصل أبو العتاهية في صباه المبكر بفتيان الكوفة الماجنين، ومضى يضرب في شعاب اللهو والمجون على شاكلتهم. وفي هذه الفترة تعلَّق قلبه بفتاة نائحة -أي: عملها أنها تنوح في المآتم- اسمها سعدى، ومضى يتتبَّعها في المآتم التي تنوح فيها، واصطبغت نفسه في هذا الوقت المبكر بجوِّ التشاؤم والحزن الذي تثيره أحداث الموت، لكنه تعلَّق بهذه الفتاة وأراد أن يتزوَّجها؛ فحال أهلها بينه وبينها، فمثلت هذه الحادثة صدمة نفسية له.
وأخذ أبو العتاهية ينظم الشعر، وبدأ نجمه يلمع فيه، وأراد أن يجرِّب حظَّه في الوفود إلى بغداد، حاضرة العالم الإسلامي في ذلك الوقت؛ فجاء إليها، وفي بغداد رأى جارية تعلّق بها قلبه، ومنّى نفسه أن يسعد بها، وأخذ يصرِّح باسم هذه الجارية في شعره، وكانت هذه الجارية من جواري الخليفة المهدي، وكان المهدي مفتونًا بها، وغضب الخليفة من ذكر جاريته في شعر أبي العتاهية؛ فأمر به أن يُعاقب ويُسجن من أجل ذلك.
وكانت هذه الحادثة هي الصدمة العاطفية الثانية له، ويبدو أن ذلك ألجأه إلى الزهد في الحياة، وإلى أن يكون هو العلم المبرز في شعر الزهد في العصر العباسي؛ بل في الشعر العربي كلِّه.
والفكرة الأساسية التي شغلت أبا العتاهية في شعره الزهدي هي فكرة المصير، مصير الإنسان في الحياة، ومصيره بعد الموت.
وشعر أبي العتاهية في الزهد يستند إلى ما جاء في القرآن الكريم، من تهوين شأن الدنيا، والدعوة إلى التخفُّف من ملذَّاتها، وأن يشغل الإنسان نفسه بالدار الآخرة الباقية. ومن شعره الذي يصوِّر فيه الدنيا على أنها دار غرور، وأنها فانية لا دوام لها، يقول في مخاطبتها:
أراكي وإن طُلبتي بكل وجهٍ | * | كحُلم النوم أو ظل السحاب |
أو الأمس الذي ولَّى ذهابًا | * | وليس يعود أو لمع السراب |
ويُخاطب الإنسان فيقول:
لو ترى الدنيا بعينَيْ بصير | * | إنما الدُّنيا تُحاكي السَّراب |
إنما الدنيا كفيءٍ تولَّى | * | وكما عاينت فيه الضباب |
ويقول أيضًا:
إنما الدنيا غروب كلها | * | مثل لمع الآل في الأرض القفار |
ويُذكِّر أبو العتاهية نفسه، ويذكر غيره بأن الموت هو مصير كلِّ حي، فيقول مخاطبًا نفسه:
يا نفس أين أبي وأين أبو أبي | * | وأبوه عُدِّي لا أبا لك واحسب |
عُدِّي فإني قد نظرت فلم أجد | * | بيني وبين أبيك آدم من أب |
قد مات ما بين الجنين إلى الرضيع | * | إلى الفطيم إلى الكبير الأشيب |
ويسخر أبو العتاهية من الناس الذين يتصارعون من أجل الدنيا، ويتكاثرون، ويتفاخرون بما يبنون وما يجمعون فيقول:
لدوا للموت وابنوا للخراب | * | فكلكم يصير إلى تباب |
لمن نبني ونحن إلى تراب | * | نصير كما خُلقنا من تراب |
ويتطرَّق أبو العتاهية إلى ما ينتظر الإنسان بعد الموت من الحساب فيقول:
فلو أنا متنا تركنا | * | لكان الموت راحة كلِّ حي |
ولكنا إذا متنا بُعثنا | * | ونُسأل بعده عن كل شيء |
ويرسم أبو العتاهية سبيل النجاة من هذه الدنيا وشرورها فيقول:
تبلّغ من الدنيا، ونِلْ من كفافها | * | ولا تعتقدها في ضمير ولا يد |
وكن داخلًا فيها كأنك خارج | * | إلى غيرها منها من اليوم أو غد |
وظل أبو العتاهية يُجاهد نفسه ويحملها على الزهد في الدنيا حتى أطاعته في ذلك، وأخذ يدعو غيره إلى الزهد في الدنيا، ويعظ الناس، ويذكرهم بالمصير والحساب الذي ينتظرهم، ومن شعره الذي ينصح فيه قوله:
فإذا دَعَتْكَ إلى الخطيئة شهوة | * | فاجعل لطرفك في السماء سبيلا |
وخفِ الإله فإنه لك ناظر | * | وكفى بربِّك زاجرًا وسئولا |
ماذا تقول غدًا إذا لاقيته | * | بصغائرٍ وكبائر مسئولا |
أما أسلوب أبي العتاهية في الشعر فهو أسلوب سهل واضح، ويغلب عليه في هذا الشعر الزهدي الاقتباس من القرآن الكريم، ومن الحديث النبوي الشريف، والاستفادة من المعاني التي وردت فيهما. وأسلوبه تغلب عليه ظاهرة النثرية؛ فكلامه في الشعر يشبه النثر وظاهرة الشعبية؛ لأنه يخاطب بشعره جمهور الناس، يريد أن يصلح من شأنهم، وأن يذكرهم بالآخرة؛ فلذلك يُخاطبهم بالأسلوب الذي يستطيعون فهمه. ومع هذا فشعره عذبٌ مقبول للنفس، تلذُّه الأسماع، وتُقبل عليه.
وهذا الشعر الذي ذكرناه لأبي العتاهية خير ما نختم به، فكفى بهذا الشعر شرفًا أنه يدعو إلى غاية نبيلة، هي التخفف من شهوات الدنيا، والإقبال على الآخرة، والخوف من الله سبحانه وتعالى.