أبو العلاء المعري
آخر الكتّاب الذين نتحدث عنهم هو: أبو العلاء المعري:
أحمد بن عبد الله بن سليمان، ينتهي نسبه إلى قبيلة تنوخ العربية. ولد أبو العلاء بمعرة النعمان قرب حَلَب سنة ثلاثمائة وثلاث وستين من الهجرة، وتوفي سنة أربعمائة وتسع وأربعين.
وكان أبو العلاء نادرة زمانه في الشعر وفي النثر وفي النقد كذلك، وهو من القمم الثقافية والأدبية في تاريخ الأدب العربي على اختلاف عصوره.
وقد أصيب أبو العلاء بالعَمَى وهو صغير، وكان ذا نفس رقيقة عجيبة، واجتهد أبو العلاء في تثقيف نفسه وتأديبها، وأخذها بنمط صعب في الحياة.
وَرَحل إلى بغدادَ سنة ثلاثمائة وثمانٍ وتسعين، ولكنه لم يطب له المقام فيها، فغادرها بعد أقل من عامين ورجع إلى بلده، ولزِمَ بيته.
ويُلقب أبو العلاء بـ”رهين المحبسين” والمراد بهما كف بصره وبيته.
وله شعر يقول فيه:
أراني في الثلاثة من سجوني | * | فلا تسأل عن الخبر النبيث |
لفقدي ناظري ولزوم بيتي | * | وكون النفس في الجسم الخبيث |
فجعل محابسه ثلاثة، وجعل روحه هي المحبوسة في هذه المحابس التي ذكر منها جسمه.
مِن نثر أبي العلاء كثير من رسائله، والتي احتفظ الزمان ببعضها، ومن أشهر هذه الرسائل رسالته المعروفة بـ(رسالة الغفران)، وقد اشتملت رسالة الغفران على كثيرٍ من مسائل النقد واللغة، ونأخذ منها هذا النموذجَ.
قال أبو العلاء:
“وينظر، فإذا عنترة العبسي متلدد في السعير”، بَنَى هذه الرسالة على تخيل حوارات في الأدب واللغة مع الشعراء الذين غادروا الحياةَ، فهو يلاقي الذي يخاطبه أو الذي تخيله.
“وينظر”: يعني: ابن القارح -وهو بطل الرحلة الخيالية إلى الدار الآخرة، هذه الرحلة التي تخيلها أبو العلاء ووصفها في (رسالة الغفران)، فإذا عنترة العبسي متلدد في السعير، فيقول: ما لك يا أخا عبس كأنك لم تنطق بقولك:
ولقد شربت من المُدامة بعدما | * | ركَدَ الهواجر بالمشوف المعلَم |
بزجاجة صفراء ذات أسرة | * | قرنت بأزهر في الشمال مفدَّم |
وإني إذا ذكرت قولك: “هل غادر الشعراء من متردم” لأقول: إنما قيل ذلك وديوانُ الشعر قليل محفوظ، فأما الآن وقد كثرت على الصائد ضباب، وعرفت مكان الجهل الرباب، ولو سمعتَ ما قيل بعد مبعث النبي صلى الله عليه وسلم لعتبت نفسَك على ما قلتَ، وعلمت أن الأمر كما قال حبيب بن أوس:
فلو كان يفنَى الشعر أفناه ما قرت | * | حياضك منه في العصور الذواهب |
ولكنه صوب العقول إذا انجلت | * | سحائب منه أعقبت بسحائب |
فيقول: وما حبيبُكم هذا؟ فيقول: شاعر ظهَرَ في الإسلام، وينشده شيئًا من نظمه، فيقول: أما الأصل فعربي، وأما الفرع فنطق به غبي، وليس هذا المذهب على ما تعرِف قبائل العرب، فيقول -وهو ضاحك مستبشر: إنما يُنكر عليه المستعار، وقد جاءت العارية في أشعار كثير من المتقدمين، إلا أنها لا تجتمع كاجتماعها فيما نظمه حبيب بن أوس، فما أردت “بالمشوف المعلم”؟ الدينار أم الرداء؟ فيقول: أي الوجهين أردت فهو حسن ولا ينتقض، فيقول: جعل الله سمعه مستودعًا لكل الصالحات، لقد شَقَّ عليَّ دخول مثلك إلى الجحيم، وكأن أذني مصغية إلى قينات الفسطاط وهي تغرد بقولك:
أمن سمية دمع العين تذريف | * | لو أن ذا منك قبل اليوم معروف |
تجللتني إذ أهوى العصا قِبلي | * | كأنها رشأ في البيت مطروف |
العبد عبدكم والمال مالكم | * | فهل عذابك عني اليوم مصروف؟ |
وإني لأتمثل بقولك:
ولقد نزلت فلا تظني غيره | * | مني بمنزلة المُحب المكرم |
ولقد وفّقت في قولك: المحب؛ لأنك جئتَ باللفظِ على ما يجب في: أحببت، وعامة الشعراء يقولون: أحببت، فإذا صاروا إلى المفعول قالوا: محبوب، قال زُهير بن مسعود الضبي:
واضحة الغِرة محبوبة | * | والفرس الصالح محبوب |
وقال بعض العلماء: لم يُسمع بـ”محب” إلا في بيت عنترة، وإن الذي قال: أحببت، لَيجب عليه أن يقول: مُحَب، إلا أن العرب اختارت “أحب” في الفعل، وقالت في المفعول: “محبوب” وكان سيبويه ينشد هذا البيت بكسر الهمزة:
إحب لحبها السودان حتى | * | إحب لحبها سود الكلاب |
فهذا على رأي مَن قال “مِغيرة” فكسر الميم على معنى الإتباع، وليس هو عنده على حَببت إحب. وقد جاء: حببت. قال الشاعر:
ووالله لولا تمره ما حببته | * | ولا كان أدنى من عُبيد ومرشق |
ويقال: إن رجاء العطاردي قرأ: “فاتبعوني يَحببكم الله” [آل عمران: 31] بفتح الياء، والباب فيما كان مضاعفًا متعديًا أن يجيء بالضم، كقولك: عددت أعُد، ورددت أرُد. وقد جاءت أشياء نوادر كقولهم: شددت الحبل، أشُد وأشِد، ونممت الحديثَ أنُم وأنِم، وعللت القول أعُل وأعِل، وإذا كان غير متعدّ فالباب الكسرُ كقولهم: حلّ عليه الدين يحِل، وجل الأمر يجِل. والضم في غير المتعدي أكثر من الكسر فيما كان متعديًا، وقولهم: شح يشُح ويشِح، وشب الفرس يشُب ويشِب، وصح الأمر يصُح ويصِح، وفحّت الحية تفُح وتفِح، وجم الماء يجُم ويجِم، وجَد في الأمر يجُد ويجِد في حروف كثيرةٍ.
ويدلك هذا النص على العلم الغزير الذي كان يتمتع به أبو العلاء من جهة اللغة، وعلى بصره الثاقب، وقدرته على نقد الشعر، وفَهْم كلام العرب.
ورسالة الغفران -في الحقيقة- تمضي على هذا النحو العجيب من النقد اللغوي، والنقد البياني، والنظر في معاني الشعر وصياغته، وهذا ليس بغريب على أبي العلاء المعري الذي كان نادرةً في تاريخ الثقافة العربية.