أبو نواس، ونماذج من شعره
اسمه: الحسن بن هانئ، وقد ذكر بعض المؤرخين أن أبا نواس لم يكن فارسيًّا لحمًا ودمًا، وإنما كان أبوه عربيًّا يمانيًّا، وأمه كانت فارسية، ذكر ذلك الدكتور يوسف خُليف والدكتور إبراهيم أبو الخشب. أما الدكتور شوقي ضيف فيذهب إلى أن أبا نواس فارسي النسب من جهة أبيه ومن جهة أمه، وأن مسألة عروبة أبيه كانت وهمًا من بعض الرُّواة، حين رأوه ينتسب لآل الحكم بن الجراح من بني سعد العشيرة اليمنيين، ويتكنَّى بكنية يمنية، هي أبو نواس.
يقول الدكتور شوقي ضيف: والصحيح أنه كان مولى فارسيًّا من موالي الجراح بن عبد الله الحكمي، والي خراسان لعهد عمر بن عبد العزيز، واختلف الرُّواة في السنة التي وُلد فيها، ويرجِّح الدكتور شوقي ضيف أنه وُلد سنة مائة وتسعٍ وثلاثين للهجرة.
فهو من الشعراء العباسيين، ولم يُدرك شيئًا من العصر الأموي، ولم يَكَدْ أبو نواس يبلغ السادسة من عمره حتى تُوفي أبوه، فنقلته أمه إلى البصرة وقامت على تربيته، ودفعته إلى الكُتَّاب، فحفظ القرآن الكريم وأطرافًا من الشعر، وتفتَّحت موهبته فأخذ يلهج ببعض الأشعار، وكان مليحًا صبيحًا.
وخرج أبو نواس إلى بادية بني أسد، وظلَّ بينهم حولًا كاملًا يتزوَّد من ينابيع اللغة، وأخذ بعد ذلك ينهل من دروس اللغويين ومحاضراتهم، وخاصة خلفًا الأحمر الذي حثَّه على حفظ الشعر القديم؛ فحفظ عددًا كبيرًا من القصائد والمقطوعات، وعادَ إلى خلف فأمره أن يذهب حتى ينساها، ثم يقول الشعر بعد ذلك إن أراد، ففعل.
ولم يكتفِ أبو نواس بتحصيل اللغة والشعر، فقد طلب الفقه والتفسير والحديث؛ حتى قالوا: إنه كان عالمًا فقيهًا عارفًا بالأحكام والفتيا، بصيرًا بالاختلاف، صاحب حفظ ونظر، ومعرفة بطرق الحديث، يعرف ناسخ القرآن ومنسوخه، ومحكمه ومتشابهه. كما طلب أيضًا علم الكلام، ووصله علم الكلام بثقافات متعدِّدة كثقافات الهند، والفرس، واليونان، وغيرهم، هذه الثقافات التي تُعنى بالفلسفة، وكان يُحسن الفارسية إحسانًا بعيدًا، جعله يلوك كثيرًا من كلماتها في أشعاره، كما أنه استفاد مما ترجمه ابن المقفع وغيره من آدابها المختلفة.
ومع كل هذه الثقافة والعلوم لم ينتفع أبو نواس بعلم يهديه إلى الصراط المستقيم، فكان هازلًا ماجنًا داعيًا في شعره إلى المجاهرة بالفسق وانتهاب اللذات، دون وازعٍ من دين أو ضمير، أو خوف من سلطان.
يقول الدكتور إبراهيم أبو الخشب: والمطَّلع على تاريخ الشعر العربي لا يسعه إلا موافقتنا في أن شعر أبو نواس كان لقاح الفساد، والقدوة السيئة في نقل الغزل من أوصاف المؤنث إلى أوصاف المذكر، والخروج بذلك عن مألوف العرب وآدابهم، واحتشامهم، ولم يجسر أحد قبله، وقبل شيطانه والبة بن الحباب، وهو شاعر ماجن كذلك أن يذكر ذلك في شعره إلا قليلًا؛ حتى جاء أبو نواس فصار شعره في ذلك وبذَّ غيره، وتفنَّن فيه، وتوفَّر على الهزل، واختراع المعاني الفريدة فأغوى بها العقول، واستهوى القلوب، وزاد على ذلك انفراده بالإبداع في وصف الخمر وصفًا لم يخطر ببال أحدٍ ممن تقدمه.
وتروي كتب الأدب والتاريخ أن أبا نواس سُئل عن أجود أجناس شعره فقال: أشعاري في الخمر لم يُقل مثلها، وأشعاري في الغزل فوق أشعار الناس، وهما أجود شعري إن لم يُزاحم غزلي ما قلته في الطَّرَد.
وكان يقول: ما قلت الشعر حتى رويت لستِّين امرأة من العرب، منهنَّ الخنساء وليلى، فما ظنك بالرجال، وإني لأروي سبعمائة أرجوزة ما تُعرف.
وكان الأصمعي يقول: يعجبني من شعر الشاعر بيتان قد أجاد قائلهما، ويذكر البيتين، وهما لأبي نواس:
ضعيفة كرِّ الطَّرف تحسب أنها | * | قريبة عهد بالإفاقة من سقم |
وإني لآتي الأمر من حيث يُتقى | * | ويعلم سهمي حين أنزع من أرمي |
وقال أبو عمرو الشيباني عنه: أشعر الناس في وصف الخمر ثلاثة: الأعشى، والأخطل، وأبو نواس.
وقال محمد بن عمر: لم يكن شاعر في عصر أبي نواس إلا وهو يحسده لميل الناس إليه، وشهوتهم لمعاشرته، وبُعد صيته، وظرف لسانه. ورَوَوْا أن أبا العتاهية سُئل من أشعر الناس؟ فقال: الذي يقول في المديح:
إذا نحن أثنينا عليك بصالحٍ | * | فأنت كما نثني وفوق الذي نثني |
وإن جرت الألفاظ يومًا بمدحة | * | لغيرك إنسانًا فأنت الذي نعني |
وقال الجاحظ: سمعت النظام يقول، وقد أنشد شعرًا لأبي نواس: كأن هذا الفتى جُمع له الكلام، فاختار أحسنه. وقال بعضهم: كأن المعاني حبست عليه، فأخذ حاجته منها، وفرَّق الباقي على الناس. وقال أبو حاتم: كانت المعاني مدفونة حتى أثارها أبو نواس.
ومن شعره في الغزل قوله:
يا قمرًا أبصرته في مأتم | * | يندب شجوًا بين أترابي |
أبرزه المأتم لي كارهًا | * | برغم دَايَاتٍ وحُجَّابي |
يبكي فيُذري الدُّرَّ من نرجس | * | ويلطم الورد بعنَّاب |
لا تبكِ ميتًا حلَّ في حفرة | * | وابكِ قتيلًا لك بالباب |
لا زال موتًا دأب أحبابه | * | وكان أن أبصره دابي |
ويقولون: إن أبا نواس لم يكن صادقًا، ولا مجيدًا في مدحه، ولم يكن كذلك في رثائه، ما عدا قصيدة رثى بها محمدًا الأمين قال فيها:
طوى الموت ما بيني وبين محمد | * | وليس لما تطوي المنيَّة ناشر |
فلا وصل إلا عبرة تستديمها | * | أحاديث نفس ما لها الدهر ذاكر |
وكنت عليه أحذر الموت وحده | * | فلم يبقَ لي شيء عليه أحاذره |
لئن عُمِّرت دور بمن لا أحبه | * | فقد عُمِّرت ممَّن أحبُّ المقابر |
ومع ما قيل عن مجون أبي نواس، وفساده، وفسقه، وإعلانه، ومجاهرته بالخمر والغزل المكشوف؛ فإن الرواة رَوَوْا له شعرًا في الزهد، وفي التوبة، والإنابة إلى الله، ويبدو أنه تاب إلى ربه عز وجل وشَعُرَ بثقل ذنوبه، ومما يروى من هذا الشعر قوله:
يا ربِّ إن عظمت ذنوبي كثرة | * | فلقد علمتُ بأن عفوك أعظم |
إن كان لا يرجوك إلا محسنٌ | * | فبمَنْ يلوذ ويستجير المجرم |