Top
Image Alt

أثر الإسلام في حياة العرب وأدبهم

  /  أثر الإسلام في حياة العرب وأدبهم

أثر الإسلام في حياة العرب وأدبهم

نتحدث -بمشيئة الله وتوفيقه- هنا عن النقد الأدبي في صدر الإسلام، والعوامل التي جدّت في حياة العرب في ظل الإسلام، وأثرت في أدبهم، وما دمنا قد اتفقنا على أن الأدب هو مادة النقد الأدبي، فإن النقد الأدبي لا بد أن يتأثر بهذه العوامل الجديدة تبعًا لتأثر الأدب بها، فعلينا إذًا أن ننظر في الحياة الجديدة والمؤثرات التي جدت في هذه الحياة، والتي بطبيعة الحال أثّرت على الأدب، وأثرت على النقد الأدبي.

لما ظهر الإسلام غيّر حياة العرب وأوجد فيها قيمًا جديدة لم تكن موجودة من قبل، فقد بدل الإسلام حياة العرب وغيرها، واستخرج منهم أمة جديدة غير تلك التي كانت تنسب إلى الجهل والجهالة، فيقال لهم: العرب الجاهليون.

لقد أصبح العرب بعد الإسلام أمة مسلمة، أضاء الإسلام قلوبهم، وأنار عقولهم، وصحّح عقائدهم، وقوّم أخلاقهم، وشرع لهم نظمًا جديدة، وعلمهم قيمًا جديدة، وفرض عليهم عبادات يتقربون بها إلى الله الواحد الأحد الفرد الصمد؛ بغية أن تستقيم حياتهم على الحق والعدل، وأن يفوزوا برضا هذا الإله الواحد الذي آمنوا به.

وبالإسلام اجتمع شتات العرب والتأم صدعهم، وأصبحوا أمة بعد أن كانوا قبائل شتى، يُغِير بعضهم على بعض للاستلاب والنهب، وبالإسلام وصلت الوشائج الممزقة والأرحام المقطّعة، وعلت موازين الحق والعدل، ونمت في بيئة الصحراء نابتة الخير بعد أن أحياها غيث القرآن، وحاطها الرسول صلى الله عليه وسلم ورعاها، وما زال الرسول بهذه النبتة حتى صارت شجرة طيبة، أصلها ثابت وفرعها في السماء، تؤتي أكلها كل حين بإذن ربها.

ولا يعرف تاريخ البشرية حدثًا غيّر طبيعة المكان وأعراف الزمان وسجايا الإنسان في بضع سنين، كما صنع الإسلام في العرب.

إن الأساس الذي بُنيت عليه الحياة الجديدة تحت راية الإسلام هو عقيدة التوحيد، هذه العقيدة التي أعادت للإنسان قيمته، وردت إليه حريته، وبصّرته بموقعه في الكون وموقفه من الكائنات، وهدته إلى إله واحد، بعد أن كان مشتت الوجدان، تائه اللب بين آلهة لا تنفع ولا تضر، ولا تسمع ولا تبصر.

وبهذه العقيدة اقتلع الإسلام العرب من الوثنية والجاهلية، واستخرجهم من ظلمات الشرك والعصبية، ووصل أرضهم بالسماء، وهدى حياتهم، وجعلهم مسئولين عن هداية غيرهم من الناس.

ويذكر التاريخ أن العرب قبل الإسلام كانوا يعيشون في جهالة جهلاء وضلالة عمياء، وذكر القرآن الكريم فضل الله سبحانه وتعالى على العرب؛ إذ بعث فيهم رسولًا منهم يعلمهم ويهديهم ويزكيهم كما في مثل قوله عز وجل: {هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الأُمِّيِّينَ رَسُولاً مِّنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِن كَانُوا مِن قَبْلُ لَفِي ضَلاَلٍ مُّبِين} [الجمعة: 2].

واشتملت عقيدة توحيد الله والإيمان به ربًّا خالقًا، رازقًا محييًا مميتًا، بيده كل شيء، يتصف بكل صفات الجمال والكمال والجلال، واشتملت أيضًا على الإيمان بكتب الله ورسله الذين أرسلهم قبل محمد صلى الله عليه وسلم والإيمان باليوم الآخر، الذي يجازى فيه كل امرئ بما عمل، والإيمان بالقدر خيره وشره.

واستتبع هذا الإيمان قيامًا بحق العبودية لله عز وجل بأداء فرائضه وإقامة شرعه، واحترام حدوده. كما استتبع هذا الإيمان القيام بحقوق الناس، والإيمان بحقوق المجتمع والحياة؛ انتماء وإخلاصًا ووفاء لجماعة المؤمنين، وقيامًا بحقوق الإنسانية برًّا ورحمة وعدلًا، وقيامًا بحقوق الحياة النافعة أينما كانت في حيوان أو نبات.

وهذا التغير العظيم الذي شمل حياة العرب من أقطارها، وأخذها من جذورها لم يتحقق بسهولة، ولم يتحقق طفرة، وإنما تحقق بجهد جهيد، وصبر شديد، وحلم وحكمة وسياسة ورحمة اتصف بها رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي قاد الحياة الجديدة، وأخرج الناس من الظلمات إلى النور بإذن ربهم، وهداهم إلى صراط الله المستقيم، محمد صلى الله عليه وسلم الذي خاطبه ربه {فَبِمَا رَحْمَةٍ مِّنَ اللّهِ لِنتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لاَنفَضُّواْ مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللّهِ إِنَّ اللّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِين} [آل عمران: 159].

بهذه العقيدة الجديدة وفي ظل هذه الحياة الجديدة أصبح العرب مسلمين، يملكون تصورًا صحيحًا للكون والحياة، ويعرفون موضعهم من كون الله، ويدركون أن الله كرم الإنسان وسخر له ما في الأرض جميعًا، وجعله سيدًا في هذه الأرض دون أن تتجاوز سيادته حدود عبوديته لربه وخالقه ورازقه.

وفهم العرب معنى الحرية الصحيح، وذاقوا حلاوتها، وتعلموا أن حرية الإنسان لا تعني أن تكون حياته فوضى أو عبثًا أو أن يظلم من يشاء ويعتدي على من يريد، فحريته لا تكون ذات معنى إلا في حمى ضوابط الإيمان بالله وشرعه الحكيم.

وبفضل التصور الصحيح للإنسان وقيمته ومكانته وحياته عرف العرب أن الحياة منحة من الله ونعمة، وهبها الله سبحانه وتعالى للإنسان ليمتحنه ويبتليه، وأنه لا يملك هذه الحياة بدءًا ونهاية وتقديرًا وتدبيرًا غير واهبها عز وجل كما عرف الإنسان المسلم أن الموت هو قدَر الله المسلط على خلقه لحكمة بالغة؛ إذ به ينتقل الإنسان من دار العمل والابتلاء إلى دار الحساب والجزاء، وهذا القدر الماضي لا يملك الإنسان رده، ولا يعرف وقته، ولا يستطيع منه فرارًا، ولا يستطيع أن يقدمه ولا أن يؤخره.

دفعت هذه العقيدة العرب إلى حياة جادة يتعلمون فيها ويعملون، ويرفعون راية الحق والعدل، وينشرون النور في كل مكان، متطلعين إلى غايات أسمى من شهوة الغلبة والظفر التي كانوا يعيشون عليها، وأرقى من احتواء الدنيا وكسب المال الذي كانوا يحرصون عليه في جاهليتهم، على هذا آمنوا بالله ورسوله، وعلى هذا عاهدهم محمد صلى الله عليه وسلم وعليه بايعوه.

إن الغاية التي من أجلها آمنوا، ومن أجلها عملوا وجاهدوا هي الجنة، التي وعدهم بها الدين الجديد، لقد قرءوا القرآن واستمعوا إلى قول الله عز وجل: {إِنَّ اللّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُم بِأَنَّ لَهُمُ الجَنَّةَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ وَعْدًا عَلَيْهِ حَقًّا فِي التَّوْرَاةِ وَالإِنجِيلِ وَالْقُرْآنِ وَمَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ مِنَ اللّهِ فَاسْتَبْشِرُواْ بِبَيْعِكُمُ الَّذِي بَايَعْتُم بِهِ وَذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيم} [التوبة: 111].

ولكي نعرف الفرق الكبير بين العرب قبل الإسلام، والعرب بعده نقرأ الآية التالية لهذه الآية السابقة؛ لأن فيها صفة هؤلاء المؤمنين الذين باعوا أنفسهم وأموالهم لله، ومن هذا الوصف ندرك أن القوم في ظل الإسلام أصبحوا بصفات غير التي كانت لهم: {التَّائِبُونَ الْعَابِدُونَ الْحَامِدُونَ السَّائِحُونَ الرَّاكِعُونَ السَّاجِدونَ الآمِرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّاهُونَ عَنِ الْمُنكَرِ وَالْحَافِظُونَ لِحُدُودِ اللّهِ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِين} [التوبة: 112].

إذًا تغيرت عقيدة الإنسان، وتغيرت أهدافه وغاياته، وتغيرت أخلاقه وعاداته، وتبعًا لتغير الحياة في العقائد والقيم والغايات والنظم والأخلاق والعادات تغيرت الأفكار، وتغيرت المواقف، وتغيرت الأحداث، وتغيرت العواطف، ولا بد أن تظهر هذه التغييرات على مرآة الحياة، والمرآة التي نقصدها هنا الأدب الذي يعبر به أصحابه عن عواطفهم وأفكارهم ومشاعرهم ومواقفهم وأحداثهم، ونظرتهم إلى الحياة وإلى الكون وإلى الكائنات، فالأدب هو مرآة الحياة.

إذًا تبعًا لتغير الحياة تغير الأدب، وفي ظل الإسلام استقبلت دوحة الأدب غيثًا ومددًا جديدًا وثقافة وقيمًا جديدة، امتصت جذورها -جذور هذه الدوحة أو هذه الشجرة- هذه الثقافة الجديدة، وسارت هذه الثقافة وهذه التغيرات في أفنان دوحة الأدب وفروعها، وأصبح عندنا أدب جديد يختلف عن الأدب الذي كان في العصر الجاهلي.

وما دام الأدب تغير فلا بد أن يتغير تبعًا له النقد؛ لأن النقد هو ظِلّ الأدب ومرتبط به، والأدب هو المادة التي يعمل فيها وعليها النقد الأدبي.

error: النص محمي !!