Top
Image Alt

أثر الثقافات الجديدة في الأدب والنقد، في العصر العباسي

  /  أثر الثقافات الجديدة في الأدب والنقد، في العصر العباسي

أثر الثقافات الجديدة في الأدب والنقد، في العصر العباسي

الحديث عن العصر العباسي حديث متشعب ومتفرع؛ لأن المساحة الزمانية لهذا العصر تتجاوز عدة قرون، والمساحة المكانية له كذلك ممتدة الأطراف، فنحن نتحدث عن ثقافة متنوعة وأدب متنوع وبيئات مختلفة، وهذا الثراء الثقافي الشديد -الذي عرف في العصر العباسي- كان هو التربة التي أنبتت ألوانًا جديدة من المعارف، واتجاهات حديثة في الأدب عامة وفي الشعر خاصة، وكل هذا أثّر بطبيعة الحال في النقد الأدبي، الذي هو مساير للأدب ومتتبع له.

فقد كان من معجزات الإسلام أنه أظلّ دولًا مترامية الأطراف وأجناسًا مختلفة، وأممًا متباينة وثقافات متعددة، فجمع هذا الدين العظيم الشتات وأذاب الفروق، ووحّد الأمم والثقافات في نسيج قوي مُحكَم، أثمر حضارة شامخة وإنجازات باهرة، كانت وما تزال وستظل لبنات مهمة في صرح الحضارة الإنسانية، ومن مفاخر لغة العرب ومآثرها أنها استوعبت حضارة الفرس وفلسفة اليونان، وتراث المصريين وطب الهند، وألوانًا أخرى من العلوم والثقافة.

لقد فتح الإسلام بلاد الدنيا فأظلها برحمته وحكمها بعدالته، واحتضن علومها وحضاراتها، وأصبحت العربية هي الوعاء الذي حفظ هذه العلوم وتلك الثقافات من الضياع والاندثار، عن طريق الترجمة التي شجعها حكام المسلمين، وأنفقوا عليها أموالًا طائلة، لم يحرق المسلمون مكتبات ولم يهدموا، ولم يقتلوا العلماء؛ بل حافظوا على تراث الأمم في الحضارة والثقافة والعلم.

وظل الشعر فن العربية الأول في العصر العباسي، مع ما طرأ عليه من تجدد وتطور في الموضوعات والأفكار والصور والأساليب، ونبغ فيه كثيرٌ من المستعربين الذين يرجعون في أنسابهم إلى أصول غير عربية، وظهرت في الأدب العربي آثار الثقافات المنقولة والعلوم المترجمة، التي تمثّلها الأدباء.

لقد نظر كثير من الأدباء والشعراء في العلوم الجديدة، وغذّوا أشعارهم بأفكار منها، ونحن إذا نظرنا إلى بعض هذه الآثار في الشعر، سنجد أن ابن قتيبة يلاحظ على أبي نواس -مثلًا- تأثره بالعلوم، فيقول: “وكان أبو نواس متفنِّنًا في العلم، قد ضرب في كل نوع منه بنصيب، ونظر مع ذلك في علم النجوم، يدلك على ذلك قوله:

ألم تر الشمس حلت الحَمَلا

*وقام وزن الزمان فاعتدلا

وغنت الطير بعد عجمتها

*واستوفت الخمر حولها كملا”

وذكر ابن قتيبة كلامًا يستدل به على علم أبي نواس بالنجوم، ثم قال: “ويدل على علمه بالنجوم أيضًا قوله في قصيدة أولها:

أعطتك ريحانها العقار

*وحان من ليلك انسفار”

ثم وصف الخمر فقال:

تخيرت والنجوم وقف

*لم يتمكن بها المدار

يريد أن الخمر تخيرت حين خلق الله الفلك، وهذه مبالغة منه في الإشارة إلى قدم هذه الخمر، وأصحاب الحساب يذكرون أن الله تعالى حين خلق النجوم جعلها مجتمعة واقفة في برج، ثم سيّرها من هناك، وأنها لا تزال جارية حتى تجتمع في ذلك البرج الذي ابتدأها الله فيه، وإذا عادت إليه قامت القيامة وبطل العالم.

كما يورد ابن قتيبة قول أبي نواس:

قل لزهير إذا حدا وشدا:
 
*أقلل أو أكثر، فأنت مهذار

سخنت من شدة البرودة حتى

*صرتَ عندي كأنك النار

لا يعجب السامعون من صفتي

*كذلك الثلج بارد حار

ثم يقول: “وهذا الشعر يدل على نظره في علم الطبائع؛ لأن الهند تزعم أن الشيء إذا أفرط في البرد عاد حارًّا مؤذيًا”.

كما ألمّ أبو نواس ببعض أفكار المتفلسفة والمتكلمين في شعره، من ذلك فكرة التولد، وهي الفعل الذي ينشأ عن فعل آخر دون قصد؛ وذلك في قوله:

وذات خدّ مورد

*



فتانة المتجرد

تأمل العين منها

*محاسن لا تنفد

فبعضها قد تناهى

*وبعضها يتولد

ومن ذلك أيضًا فكرة الجوهر الفرد والجزء الذي لا يتجزأ، كما في قوله:

يا عاقد القلب عني

*هلا تذكرت حلا؟

تركتَ مني قليلا
 
*مِن القليل أقلا

يكاد لا يتجزأ أقل

*في اللفظ مِن لَا

ولاحظ النقاد تأثر أبي العتاهية بمراثي فلاسفة اليونان، التي قالوها في رثاء الإسكندر المقدوني، وقد ترجمت هذه المراثي إلى اللغة العربية، وأشاروا إلى قول أبي العتاهية في رثاء صديقه علي بن ثابت:

بكيتك يا علي بدمع عيني

*فما أغنى البكاء عليك شيَّا

كفى حزنًا بدفنك ثم إني

*نفضّت تراب قبرك عن يديا

وكانت في حياتك لي عظات

*وأنت اليوم أوعظ منك حيا

ولقد ظهر أثر الثقافة الفارسية في الشعر، خاصة بعد أن اطلع الشعراء على كتابي (الأدب الكبير) و(الأدب الصغير) لابن المقفع، فنقلوا ما فيهما من تجارب الفرس وحِكَمهم ووصاياهم، كما تمثل بعضهم الأمثال الفارسية وأكثر بعضهم منها.

وانتقلت الثقافة اليونانية بترجمة الكتب اليونانية التي كانت مترجمة إلى الهندية، ومن الهندية إلى العربية، كما تُرجم بعضها من اليونانية إلى العربية مباشرة، فلقد تُرجمت كتب “أرسطو” و”أفلاطون” وغيرهما في المنطق والفلسفة، وتأثرت بذلك الثقافة العربية في شتى فروعها ومناحيها.

وانطبع الأدب في العصر العباسي بطوابع فكرية واضحة، لا نجد ما يشبهها في الأعصر السابقة، فقد تميز الأدب في العصر العباسي بالتعمق في المعاني والتفصيل والتقسيم والتعليل؛ ولذلك وجدنا النقد يتتبع هذه الظواهر الجديدة ويبحث عنها، كما هو الشأن في الحديث عن أبي تمام وعن المتنبي وعن المعري وأبي العتاهية، والبحث في أفكارهم ومعانيها ومصادر هذه الأفكار.

ولم يخلُ من هذه الطوابع الجديدة فنٌّ من فنون الأدب، ولا غرضٌ من أغراض الشعر، حتى شعر الزهد الذي عُرف به أبو العتاهية، حيث لاحظ عليه الدارسون أنه كان ذا صبغة علمية دينية فلسفية.

لقد كان لتشجيع الحكام العباسيين للترجمة، وإغداقهم على المترجمين فضل كبير على الثقافة العربية؛ إذ انتقل إلى لغة العرب كل ما كانت عقول الأمم الأخرى أنتجته في شتى ألوان المعارف والعلوم، وأفضل ما كتبوه في الطب والكيمياء والجغرافيا والفلك والهندسة والرياضيات، وغير ذلك من بحوث في النفس والإلهيات.

ولم يقف دور العرب عند النقل والتمثل، فقد جاوزوا ذلك إلى الابتكار، فأضافوا إلى تلك المعارف وزادوا عليها، وعدلوا في نظرياتها وأسسها، وظهر في الدولة العربية الإسلامية نوابغ يزاحمون فلاسفة اليونان، وأطباء الهند وحكماء الإغريق، وعلماء الفرس، وتعد مؤلفاتهم مراجع مفيدة إلى يومنا هذا؛ ومن هؤلاء: الكندي الفيلسوف، وأبو بكر الرازي الطبيب، ومحمد بن موسى الخوارزمي الرياضي، وجابر بن حيان الكيميائي، والفارابي، وابن سينا، وغير هؤلاء كثير.

ونشط الدرس الذي يبحث في الأخلاق وفي السياسة، وفي وسائل تهذيب النفس والرقي بها، ومن هنا اختلطت الفلسفة بالتصوف والتربية، وبلغ النشاط العلمي والثقافي والفكري في العصر العباسي درجة عظيمة، وامتد أثر ذلك إلى قرون بعيدة في تاريخ الثقافة العربية والأدب العربي؛ وكان لذلك كله أثر واضح في توجيه النقد الأدبي، وتفريع مباحثه، وتعميق مجالاته.

error: النص محمي !!