أحكام الحوالة
إذا تمت الحوالة مستكملة لأركانها ومستوفية لشروطها؛ ترتب عليها الأحكام الآتية:
أول حكم: أن ينتقل الدين المحال به من ذمة المحيل إلى ذمة المحال عليه، ويبرأ المحيل من دين المحال؛ بمعنى: أنه بمجرد أن ذهبت إلى مديني، فأنا محال وهو المحيل, فقال: أحلتك بدينك الذي علي إلى فلان آخر؛ انتقل من ذمته إلى ذمة المحال عليه، وبرئ المحيل الذي أحالني من هذا الدين، فلا يملك المحال الرجوع على المحيل بحال من الأحوال, ما دامت الحوالة صحيحة.
وهذا القول هو قول جمهور العلماء، فجمهور العلماء يقولون: يبرأ المحيل من هذا الدين، ولا يملك المحال أن يرجع مرة أخرى على المحيل.
لكن قد يحدث أن ينكر المحال عليه الدين؛ أي: هو أحالني بالدين على شخص ثالث، فذهبت إلى الشخص الثالث -وهو المحال عليه- فأنكر وقال: فلان ليس دائنًا لي وليس له علي شيء, أو يجحد ويقول: هو له علي، ولكن أنا جاحد لهذا الدين، ولا أعطيه. وقد يحدث أن يفلس المحال عليه, فهنا صور ثلاثة:
إما أن ينكر المحال عليه أنه مدين، أو يقر بأنه مدين لكن يجحد، أي: يرفض الدين فيقول: له عندي، ولكن لا أدفع، وبمجرد أن ذهبت عليه وجدته في حالة إفلاس؛ أي: بمجرد أن أحالني المدين، وذهبت إلى المحال عليه فقلت له: أعطني الدين أحالني فلان عليك, قال: نعم هو له علي، ولكن ليس عندي مال.
الصورة أو الحالة الأولى: إذا جحد المحال عليه الحق أو أنكره؛ فنعتبر الجحد والإنكار حالة واحدة:
اختلف الفقهاء هنا على رأيين -بمعنى: أنني كمحال إذا ذهبت إلى المحال عليه, وقلت له: ديني أحلت به عليك من فلان؛ فجحد أو أنكر:
الأول: الجمهور -المالكية والشافعية والحنابلة- يقولون: إذا تمت الحوالة وجحد المحال عليه الحق الذي عليه للمحيل, فقال: ليس له دين عليّ؛ فلا رجوع للمحال على المحيل، وهذا القدر مشترك عند الجميع, لكن كلهم يقولون: لا يرجع المحال.
لكن يقول المالكية بعدم الرجوع في هذه الحالة, إذا كان الجحود والإنكار قبل عقد الحوالة؛ أي: هو منكر أو جاحد للدين قبل أن يحال عليه الشخص المحال، لكن إذا كان بعد عقد الحوالة، ولا بينة للمحيل بحقه، فلا تصح الحوالة هنا لفقد شرط من شروطها هنا، وهو ثبوت الدين؛ أي: بعد عقد الحوالة والمحيل ليس له بينة بأنه دائن للمحال عليه، فالحوالة هنا ليست لها محل؛ لأنها فقدت شرطًا من شروطها، وهو أن له دينًا ثابتًا.
والمالكية يقولون بعدم الرجوع إذا أنكر المحال عليه أو جحد، وكان هذا الجحد أو الإنكار قبل عقد الحوالة, فهنا لا يرجع، إنما إذا كان بعد العقد، وليست هناك بينة للمحيل له في الرجوع على المحيل، هذا إذا جحد الحق أو أنكره, الجمهور يقولون ذلك.
الرأي الثاني: أن المحال عليه إذا جحد الحق, بمعنى أنه قال: ليس للمحيل دين علي، وحلف على ذلك؛ أي: حلف أنه جحد المحال عليه الحق أو أنكره، وقال: ليس له ذلك، وحلف على ذلك؛ فليس هناك رجوع من المحال على المحال عليه؛ لأن حق المحال هنا قد انتقل إلى مال يملك بيعه، فسقط حقه في الرجوع؛ أي: حق المحال هنا الذي تحول إلى المحال عليه بمجرد الإحالة كأنه ملك مالًا يملك بيعه؛ كأن فيه مالًا هنا عند المحال عليه يملك بيعه، وهذا يسقط حقه في الرجوع، كما لو أخذ بالدين سلعة ثم تلفت بعد القبض.
وهذا هو الرأي الراجح في هذه المسألة؛ لأن الحوالة براءة، مع جواز الرجوع؛ فإذا أجزنا أن المحال يرجع هنا في حالة الجحد أو الإنكار, يعتبر هنا كأن الحوالة لا تعطي معنى البراءة، وهذا يتنافى مع استقرار المعاملات بين الناس، كما أن الحوالة من العقود اللازمة للطرفين، فهي نقل دين.
فما دام الدين قد انتقل، فهنا الحوالة إذا كانت لعبة تتنافى مع استقرار المعاملات، يحال الدائن -وهو المحال-، ويعلم أن المدين -وهو المحال عليه- جاحدًا أو منكرًا، ويقبل الحوالة، فكأنه هو الذي تهاون في حقه.
هذه صورة ما إذا أنكر المحال عليه الدين الذي عليه للمحيل أو جحده، فجمهور العلماء يقولون: إذا جحد المحال عليه الحق، فلا رجوع للمحال على المحيل.
والرأي الثاني يقول: إذا جحد المحال عليه الحق وحلف على ذلك؛ أي: أقسم على الجحد والمحال هنا قد انتقل إلى مال -فهنا أيضًا يقولون: لا رجوع لاستقرار المعاملات.
الصورة الثانية: إذا أفلس بمعنى: أن الدائن -وهو المحال- ذهب إلى مدينه -وهو المحيل- فقال له: أحلتك بما لك عليّ من دين، وهو المحال عليه، والمحال عليه أفلس بمعنى: أنه ليس له مال.
فإذا تمت الحوالة أركانًا وشروط صحة, ثم أفلس المحال عليه؛ فهل للمحال هنا الرجوع على المحيل؟
اختلف الفقهاء في هذه الحالة على قولين:
القول الأول لجمهور الفقهاء المالكية والشافعية والحنابلة كما في الصورة السابقة, والقول الثاني للحنفية أيضًا كما في الرأي السابق للحنفية.
القول الأول: قال الجمهور: المحال لا يرجع على المحيل, إذا أفلس المحال عليه.
فالشافعية والحنابلة قالوا بهذا على الإطلاق؛ بمعنى: أن المالكية يقولون: إذا كان المحال عليه مفلسًا حال عقد الحوالة، ورضي بذلك المحال فيتحول حقه، ولا يرجع على المحيل؛ فما دام في حال عقد الحوالة المحال عليه كان مفلسًا، والمحال نفسه صاحب الدين رضي بتحول حقه على شخص مفلس، فسواء كان المحال هو الذي علم بالإفلاس, أو المحيل هو الذي علم فقط، أو علما معًا المحيل والمحال، فيتحول حق المحال على المحيل، ولا رجوع له على المحيل.
وقالوا: إن حق المحال هنا انتقل إلى مال يملك بيعه، فسقط حقه بالرجوع؛ أي: لا يملك الرجوع هنا؛ لأنه ما دام قد علم أن المحال عليه قد أفلس، سواء كان المحال هو الذي علم بالإفلاس أو علما معًا هو والمحيل، فكأنه تهاون في حقه، فكأنه هنا هو الذي يضيع حقه، وحقه انتقل إلى هذا المفلس، ويسقط حقه في الرجوع كما لو أخذ بالدين سلعة كما لو كان المحيل؛ أي: أعطاه سلعة بدينه ثم تلفت بعد قبضها، فلا يملك الرجوع، كما قلنا في حالة الجحد والإنكار.
القول الثاني في حالة الإفلاس للحنفية: قالوا: إن القاضي إذا حكم بتفليس المحال عليه حال حياته عند الصاحبين, أو مات مفلسًا عند أبي حنيفة؛ لم تبق له ذمة يتعلق بها الحق، فسقط عن المحال عليه، وثبت للمحال الرجوع على المحيل.
كأن الحنفية يفترضون أن القاضي إذا حكم بأن الشخص المحال عليه أفلس في حال حياته, أو مات وهو مفلس، وذلك عند أبي حنيفة إذًا الأمر سواء، وهو أنه لم يبق له ذمة يتعلق بها الحق في حالة ما إذا حكم القاضي بتفليسه، فليس له ذمة يتعلق بها الحق، مات مفلسًا من باب أولى ليس له ذمة يتحول إليها الحق، فسقط الحق من على هذه الذمة، وهي ذمة المحال عليه إذا كان مفلسًا بحكم قاضٍ أو أفلس؛ لأنه مات مفلسًا. قالوا: يثبت للمحال هنا الرجوع على المحيل؛ لأن البراءة هنا -براءة المحيل- كانت براءة مشروطة بالنقل والاستيفاء، والمحال لم يستوف حقه؛ فكأن ذمة المحيل لم تبرأ، وهنا لا يسقط حقه، وإذا تعذر الاستيفاء من المحال عليه، وجب الرجوع على المحيل.
والراجح هو قول الجمهور، وهو عدم الرجوع على المحيل إذا أفلس المحال عليه، ما دام قد رضي بتحول حقه، وهو عالم بالإفلاس حين عقد الحوالة، فما دام قد رضي بتحول حقه، وهو عالم بإفلاس المحيل عليه، أو هو والمحيل عالمان بذلك؛ يسقط حقه بالرجوع.