أحكام اللقطة
هذا هو الأمر الأوسع الذي هو صميم الباب.
فاللقطة: هي اسم لكل مال لمسلم تعرض للضياع في مكان عامر, أو في مكان خراب، والجماد والحيوان في ذلك سواء، لكن الحيوان يقصرونه ويقولون: الضوال، ولكن يسمى لقطة أيضًا، أما الإبل فاتفقوا على أنها لا تلتقط كما سبق في حديث زيد بن خالد الجهني، وهو متفق على صحته، واتفقوا على أن الغنم تلتقط، وترددوا في البقر، فعند مالك أنها كالغنم تلتقط، وعند الشافعية كالإبل لا تلتقط.
المهم أن اللقطة لها أحكام, فقد عرفنا أنها اسم لكل مال معرض للضياع، سواء كان جمادًا أو حيوانًا, ما عدا الإبل فبالإجماع لا تلتقط، وهناك إجماع على أن الغنم تلتقط، وترددوا في البقر، ننتقل إلى بعض التفصيلات في أحكام اللقطة:
أول حكم من أحكام اللقطة: حكم الإشهاد عليها, فبعد أن يلتقطها الملتقط يشهد على التقاطها.
واختلف الفقهاء في حكم هذا الإشهاد؛ فذهب المالكية والشافعية في المذهب عندهم والحنابلة إلى أنه يسن الإشهاد على اللقطة حين يجدها؛ لأن في الإشهاد صيانة لنفسه عن الطمع فيها, وكتمانها، وحفظها من ورثته إذا مات، ومن غرمائه إذا أفلس؛ فالشهادة عليها سوف تحفظها من كل ذلك ويشهد عليها، سواء كان التقطها للحفظ، أم للتملك بعد السنة؛ لأنه يلتقطها ويحفظها لصاحبها، فإذا لم يأت صاحبها، فالأدلة الشرعية تجيز له الامتلاك بعد تعريفها لمدة سنة، مع باقي الشروط.
فالمالكية والشافعية في المذهب والحنابلة قالوا: يسن الإشهاد عليها؛ لأن في الإشهاد هذه الأمور.
والرأي المقابل للمذهب عند الشافعية, فهو للحنفية الذين قالوا بوجوب الإشهاد, واستند الحنفية على الوجوب بقول النبي صلى الله عليه وسلم: ((من وجد لقطة؛ فليشهد ذا عدل -أو ذوي عدل- ولا يكتم، ولا يغيب)) أي: لا يكتم اللقطة، ولا يغيبها؛ فتغييبها هذا كأنه ابتعاد بها عن التعريف, ووجود نية لتملكها، فهذا الشخص يعلم من نفسه الخيانة، فيحرم عليه ذلك.
ومعنى الإشهاد: أن يكون بالقول وعلى مسمع من الناس, كأن يقول: عندي لقطة أو إنني التقطت كذا أو وجدت لقطة، فأي أحد من الناس ينشدها -أي: يطلبها- يدلونه عليه.
فإذا أشهد عليها ثم هلكت بعد أن أشهد -هو هنا كأنه التزم بحديث الرسولصلى الله عليه وسلم الذي يقول: ((من وجد لقطة؛ فليشهد)), وهذا عن القائلين بوجوب الإشهاد- فالقول قول الملتقط ولا ضمان عليه؛ لأنه هنا دل على أنه يريد أن يرجعها لصاحبها، وأنه يثق من أمانة نفسه.
وفي الإشهاد أيضًا يستحسن أن يذكر بعض صفات اللقطة؛ ليكون في الإشهاد فائدة، كأن يقول: وجدت لقطة، لكن لا يستقصي الصفات؛ أي: لا يقول جميع الصفات كلها لئلا ينتشر ذلك، فكأنها أصبحت مكشوفة ومعلنة فيدعيها من لا يستحقها، ولكن يذكر للشهود ما يذكره في تعريفها من جنسها بأن يقول مالًا، فلا يقول مثلًا: جنسه كذا، أو إذا ذكر الجنس لا يقول عددًا ولا نوعًا, كدينار أردني أو دينار عربي أو دينار كذا، أو دولار أمريكي, يذكر الجنس والنوع, وكذلك لا يذكر موصفات هذا الوكاء ولا العفاص.
ننتقل بعد ذلك إلى أمر آخر من أحكام اللقطة، وهو حكم تعريف اللقطة، إذا أخذ الملتقط اللقطة، فإما أن يكون أخذها بنية الحفظ لصاحبها، أو بنية تملكها بعد تعريفها.
فإذا أخذها بنية الحفظ لصاحبها, أي: أخذها ليحفظها لصاحبها مهما طال الزمن؛ فرجل أمين أخذها وقال: هذه عندي أمانة، وأشهد عليها، وقال في كل وقت: أعرفها, ثم إذا جاء صاحبها أعطاها له، أو يأخذها بنية تملكها بعد تعريفها، فهذا أمر أيضًا أجازته الشريعة، بمعنى أنه قال: آخذها وأسير على الطريق الشرعي من تعريفها المدة كذا, لكن إذا لم يأت صاحبها ليتعرف عليها بعد السنة فسوف أتملكها.
وفي كلٍّ من الحالتين, الجمهور من الحنفية والمالكية والشافعية في المعتمد والحنابلة يذهبون إلى أنه يجب على الملتقط تعريف اللقطة في كلٍّ من الحالتين؛ نية الحفظ أو نية التملك بعد التعريف، فيجب عليه تعريفها ويكون ذلك بذكر أوصافها، وهذه الأوصاف أربعة إجمالًا وثمانية تفصيلًا.
الأربعة على سبيل الإجمال: أن يعرف عفاصها, ووكاءها، وجنسها, وقدرها.
وهذا القدر يدخل تحته العدد في المعدود، والوزن في الموزون، والكيل في المكيل، والقياس في المقيس فهذه أربعة، نضيفهم إلى الأربعة الأخرى السابقة، وهي تعريف العفاص والوكاء والجنس والقدر, فيكون عندنا هنا أربعة إجمالًا, وثمانية تفصيلًا يجب تعريف أوصافها.
والدليل على تعريف العفاص والوكاء الحديث الذي ذكرناه، وجاء في رواية أخرى، وهي أيضًا عن زيد بن خالد الجهني؛ أن النبي صلى الله عليه وسلم سئل عن اللقطة فقال: ((اعرف عفاصها ووكاءها, وعرفها سنة، فإن جاء من يعرفها)) أي: يعرف أوصافها ((وإلا فاخلطها بمالك)), وهذه رواية أخرى غير الرواية السابقة والتي فيها: ((وإلا فهي لك)).
والدليل على تعريفها بالعدد، ما رواه أبو هريرة عن أبي بن كعب رضي الله عنه قال: “وجدت صرة فيها مائة دينار, فأتيت بها النبي صلى الله عليه وسلم فقال: ((عرفها حولًا)) فعرفتها, ثم أتيته فقال: ((عرفها حولًا)) فعرفتها حولًا، ثم أتيته فقال: ((عرفها حولًا)) ثم أتيته الرابعة فقال: ((احفظ وعاءها وعددها ووكاءها، فإن جاء صاحبها وإلا فاستمتع بها)).
فنص في هذا الحديث صلى الله عليه وسلم على العفاص والوكاء وباقي الصفات بالقياس؛ لأنها صفات تتميز بها اللقطة، وهذا الحديث فيه دليل على العدد؛ لأنه قال: ((احفظ وعاءها وعددها)) مخاطبًا أبي بن كعب؛ أي: يرى كأنه على طول هذه المدة ربما اختلطت بماله, فينسى عفاصها ووكاءها والأشياء وخاصة العدد، ((فإن جاء صاحبها)) حتى بعد هذه المدة ((وإلا فاستمتع بها)) أي: بعد العام الرابع.
وإنما طلب النبي صلى الله عليه وسلم من الملتقط هنا أن يعرف هذه الأشياء؛ حتى لا تختلط بماله، ويعرف بها بعد ذلك, قال له: اعرف هذه الأشياء حتى لو كتبها عنده كأن يكتب: عندي لقطة عددها كذا، وشكل وعائها كذا، وشكل وكائها كذا، حتى إذا جاء صاحبها عرف منه أنه صادق؛ لأنه إذا اختلطت بماله ربما طالت المدة، فلا يعرف صدق من يدعيها، ولم يفرق الحديث بين من أراد حفظها ومن أراد تملكها، وهذا يدل على أن كلا الأمرين جائز، وما دام كلا الأمرين جائزًا، فإن التعريف واجب.
ومدة تعريف اللقطة إذا نوى الملتقط التملك، فلا يملك إلا بعد تعريف اللقطة سنة؛ لحديث زيد بن خالد الجهني السابق: ((ثم عرفها سنة)), فدل ذلك على أن التعريف مدته سنة، فإن لم يظهر لها مالك بعد ذلك فله أن يتملك اللقطة إن أراد، ونقول: إن أراد؛ لأن له أن يحفظها لمالكها بعد أن طالت المدة، وذكرنا قبل قليل أن النبي صلى الله عليه وسلم طلب من أبي بن كعب أن يعرفها حولًا, ثم قال له, ثم عرفها حولًا إلى آخره؛ لكن الحد الأدنى هو أن يكون التعريف لمدة سنة.
والحكمة في اعتبار السنة: أن القوافل لا تتأخر في المجيء والذهاب في طرق السفر عن سنة، ولأنه لو لم يعرفها سنة لضاعت الأموال على صاحبها؛ فلو قيل: عرفها شهرًا، فربما هذا الشهر لا يكفي؛ لأن من ضاعت منه ربما يكون ذهب في سفر، والسفر يستغرق أكثر من شهر، فتضيع الأموال على صاحبها.
ولو جعل التعريف أبد الزمان لامتنع الناس من الالتقاط؛ فلو قيل: إن التعريف واجب على طول الزمان، فالذي يريد أن يلتقط يقول: وما شأني بها ما دمت آخذها وأعرفها طول حياتي! هذا تعب ومشقة عليّ! فكان الاعتبار بالعام مراعاة لمصلحة الفريقين؛ مصلحة صاحبها ومصلحة الملتقط، وهذا هو مذهب الجمهور من غير تفصيل بين الكثير والقليل؛ أي: التعريف يكون سنة، سواء كان الشيء الملتقط كثيرًا أو قليلًا, فالجمهور يرى أن القليل والكثير واحد.
أما أبو حنيفة فيفرق بين تعريف القليل وتعريف الكثير، حيث يقول: إن كانت أقل من عشرة دراهم عرفها أيامًا، على حسب ما يرى أن صاحبها لا يطلبها بعدها؛ كمبلغ بسيط من المال، فيقول: إذا مضى أسبوعان أو ثلاثة صاحبها لا يسأل فيها، فيعرفها هذه الأيام.
وإن كانت أكثر من عشرة عرفها سنة، واستند أبو حنيفة في التقدير بالسنة إلى أن الحديث الوارد الذي أورده أبي بن كعب السابق كانت اللقطة مائة دينار، وهي تساوي ألف درهم؛ لأن كل دينار يساوي عشرة دراهم، كما هو معروف في باب الزكاة، ومائتا درهم تساوي عشرين دينارًا.
ومن أحكام اللقطة: بيان الأوقات والمواطن التي تعرف فيها اللقطة.
فعن وقت تعريف اللقطة, يقول الفقهاء: إن الملتقط يعرف اللقطة خلال مدة التعريف، وهي السنة، على رأي الجمهور قليلًا أو كثيرًا، بالنهار دون الليل؛ لأن النهار يجتمع فيه الناس ويلتقون، ويكون التعريف في اليوم الذي وجدها فيها ولأسبوع بعده يوميًّا؛ لأن الطلب من صاحبها يكثر في ذلك، يتردد يوميًّا، وبعد ذلك تضعف همته فلا يسأل، فيقال يوميًّا لمدة أسبوع, هذا بالنسبة للوقت.
أما عن التعريف بالنسبة للمكان، فيكون في المكان الذي وجدها فيه؛ لأن هذا أقرب للوصول إلى صاحبها؛ لأن صاحبها يطلبها غالبًا في المكان الذي افتقدها فيه.
كما يقولون أيضًا: من الأماكن التي تعرف فيها اللقطة أنها تعرف على أبواب المساجد والجوامع، وذلك وقت خروج الناس من الصلوات، وكذلك في الأسواق والمجامع والمحافل ومحطّ رحال القوافل، فكل ذلك أماكن يراعى فيها خاصة المكان الذي وجدها فيه، فإذا كان طريق قوافل يذهب إلى مكان هذه القوافل، وإذا كان محط رحال إبل يذهب إليها، وهكذا إلى أن تنتهي السنة.
عدد مرات التعريف:
هل يكون التعريف واجبًا في جميع الأيام، أم يكفي تعريف سنة متفرقة؟
قال الجمهور من الفقهاء: ليس على الملتقط التعريف في كل يوم إلا في أول أيام الالتقاط، فيكون التعريف مرتين في طرفي النهار، ولا يكون ليلًا ولا وقت القيلولة؛ لأن صاحبها في هذه الأوقات يكون أكثر ترددًا على هذا المكان، ثم بعد ذلك يكون مرة كل أسبوع، ثم مرتين في كل شهر، ثم مرة في كل شهر إلى آخر السنة؛ تخفيفًا ورفعًا للمشقة عن الملتقط.
كيفية التعريف:
يقول: من ضاع منه شيء أو دنانير ولا يزيد على ذلك؛ فيجب أن يذكر من يتولى التعريف جنس اللقطة ونوعها، أي: من ضاع منه دنانير، ولا يزيد على ذلك فقط؛ لأن في ذكر الجنس والنوع أو العفاص والوكاء ما يؤدي إلى انتشار ذلك بين الناس، فيؤدي إلى معرفة المالك، ويجب على المعرف ألا يزيد على ذلك؛ لأنه استقصاء أو استيفاء جميع الأوصاف يجرِّئ الكاذب على أن يدعيها؛ فتضيع على صاحبها الحقيقي.
أيضًا من أحكام اللقطة: أنه قد يكون لها مؤنة؛ أي: نفقات، فهل يلتزم الملتقط بمؤنة أو نفقات التعريف إن كان للتعريف مؤنة؟ أي: هل من الممكن أن يستأجر واحدًا لينادي عليها, أو غير ذلك؟
يقول الشافعية: هذا يتوقف على قصد الملتقط، إن كان أخذها ليحفظها لمالكها، أو أخذها بإطلاق؛ أي: لم يقصد لا الحفظ ولا التملك، فلا يلزم بمؤنة أو تكاليف التعريف، وإن أخذها بنية التملك -أي: بعد سنة- لزمه مؤنة التعريف؛ أي: يلزمه أن ينفق على تعريفها، سواء تملك بعد ذلك أو لم يتملك؛ فكأنه بعد مرور السنة عرض له شيء وقال: لا أريد أن أتملكها, كذا سواء تملك بعد ذلك أم لا؛ لأن المدار على قصد التملك حتى ولو لم يتملك بالفعل؛ حتى لو نوى التملك، سواء تملك أو لا، فيلزمه أن يدفع تكاليف أو مؤنة تعريف اللقطة.