Top
Image Alt

أحكام المفلس

  /  أحكام المفلس

أحكام المفلس

متى يصير الشخص مفلسًا؟ وبعد أن يحجر القاضي على المفلس ويصير هذا محجورًا عليه؛ ما أثر هذا الحجر؟ وما الذي يترتب عليه ويتعلق به من أحكام؟ هذا معنى أحكام المفلس.

فعن الأحكام التي قال بها الفقهاء في هذا المفلس الذي حكم بإفلاسه، نقول: إذا حجر القاضي على المفلس؛ يكون لهذا الحجر آثار وتترتب عليه أحكام على النحو الآتي:

الأثر الأول: تعلق حق الدائنين بماله، حيث أصبحت حقوق هؤلاء الدائنين متعلقة بماله، ويترتب على هذا الأثر أن هذا المدين يُمنَع من التصرف في ماله؛ لتعلق حقوق الدائنين بهذا المال، فإذا تصرف تصرفًا في ذلك المال بأن باع منه أو وهب، أو غير ذلك من تصرفات, كان هذا التصرف ضارًّا بالدائنين؛ لأنه سينقص حقوقهم، فهذا التصرف غير نافذ، والمال الذي يتعلق بحق الدائنين هو مالهم الذي يملك وقت الحجر.

أما إذا حدث له ماله بعد ذلك, هذا فيه كلام، فلا يشمله الحجر عند المالكية كما قالوا، وفي قول مقابل للأصح عند الشافعية، وعند أبي يوسف ومحمد قالا: إنه لا يشمله الحجر، لكن رأي الحنابلة وفي قول هو الأصح للشافعية مقابل للقول السابق: أن ما حدث من مال بعد الحجر عليه يشمله الحجر، فمثلًا: إذا كسب تاجر, فما كسبه من مال بعد الحجر عليه, هل هذا داخل في الحجر فلا يجوز التصرف فيه, أم إنه خارج من هذا المال ولا يدخله الحجر -بمعنى: أنه يجوز أن يتصرف في المال الذي كسبه بعد الحجر؟ فيه رأيان هنا كما قلنا.

تفصيل أحكام تصرفات المفلس:

ما دمنا قد قلنا: إن الحَجْر على المدين المفلس يجعل حق الدائنين متعلقًا بماله، فهذا يمنعه من التصرف في هذا المال -نفترض أنه تصرف تصرفًا في المال في حالة الحجر عليه، وفي حالة ما هو ممنوع من التصرف فيه، ماذا يكون الحكم؟

ينقسم هذا التصرف الذي يحدث منه إلى ثلاثة أنواع: إما أن يكون تصرفًا نافعًا للدائنين أو الغرماء نفع محض, كما لو جاءت له هبة أو صدقة, وكما لو ورث مالًا؛ فهذه التصرفات النافعة للغرماء لا يمنع منها؛ فيقبل الهبة ويقبل الصدقة، والميراث يدخل جبرًا في ملكه.

أما إذا كانت تصرفاته ضارة؛ فتكون عكس النوع السابق تمامًا، فإذا وهب مالًا للغير أو تصدق بمال أو تبرع؛ هذه لا تنفذ، ويؤثر فيها الحجر وتعتبر غير نافذة، فإذا كانت التصرفات دائرة بين النفع والضرر كالبيع والإجارة، وهو محجور عليه, فباع سلعة من أمواله؛ استأجر، أو أجر، أو … إلى آخره، هذا التصرف باطل عند الحنابلة وعند الشافعية في الأظهر عندهم، والمالكية قالوا: إذا وقع, فهو موقوف على نظر الحاكم.

هذا الأمر كما لو كان صبي صغير يتصرف تصرفًا دائرًا بين النفع والضرر, فهذا موقوف على وليه, كذلك الأمر هنا؛ فالمالكية يقولون: إذا تصرف هذا المدين تصرفًا دائرًا بين النفع والضرر؛ كالبيع، أو الإجارة، أو… إلى آخره, فهذا موقوف على نظر الحاكم، قد يوافق وقد لا يوافق على هذه التصرفات السابقة على الحجر. فإذا كان المحجور عليه لفلس لمصلحة الدائنين، قد تصرف تصرفًا سابقًا على الحجر فهو صحيح، وله إمضاء الخيار في مبيع أو ردّه، وله فسخ عقد بيع بعيب في المبيع ما دام الشراء كان سابقًا على الحجر؛ لأن ما يحدث هنا إنما هو إتمام تصرف، أي: إن المحجور عليه كان قد تصرف تصرفًا، ولم ينته الأمر بشأنه وحجر عليه، فهذا التصرف يظل إتمامه ممتدًّا، والفقهاء -الشافعية والحنابلة- يقولون: إن هذا إتمام لتصرف سابق فلا يمنع منه، فيمضي الخيار في المبيع، كأنه باع بيعًا، وكان هذا البيع بخيار، وكانت مدة الخيار ما زالت قائمة ثم حجر عليه، فهنا الشافعية والحنابلة يقولون: حتى ولو حجر عليه, ما دام البيع قد حدث قبل الحجر؛ فإن إتمام البيع أو إتمام فرصته في الخيار هذه له؛ لأن التصرف كان سابقًا على الحجر.

أما المالكية فيقولون: حق الإمضاء أو الرد, فهنا الخيار فيه لواحد من اثنين، أي: يقولون له: تتمم بيعك، أو لا تتمم؟ والذي يقول ذلك إما الغرماء أو الحاكم، وليس ذلك لهذا المفلس، وهذا الرأي للمالكية. هذا بالنسبة للأثر الأول، وأن يتعلق حق الدائنين بماله.

الأثر الثاني: انقطاع المطالبة عنه، فبمجرد الحكم على المدين المفلس بالحجر تنقطع مطالبته بأي التزام عليه كالقرض، فلو أقرض شخص هذا المفلس شيئًا، أو باعه وهو يعلم أنه محجور عليه؛ لا يملك أن يطالبه بالقرض الذي أعطاه له، أو لا يملك أن يطالبه بثمن الشيء ما دام قد قصر في حقه, ولم يأخذ الثمن إلا بعد أن يرفع عنه الحجر؛ لتعلق حق الغرماء بعين مال المفلس، وهذا المال الذي وجد الآن ما دام حجر عليه وهو في ماله فتعلقت به جميع أموال الدائنين، ولأن الشخص الذي أقرضه وهو يعلم بإفلاسه، أو باعه شيئًا وهو يعلم أنه محجور عليه -يعتبر متلفًا لماله؛ لأنه تعامل مع شخص كأنه لا مال له, لكن من ضمن أحكام من وجد عين ماله عند مفلس -وهذا سيأتي في الأثر الثالث.

الأثر الثالث: أن الإنسان قد يسترد عين ماله إذا وجده باقيًا عند المفلس، وهذا هو الأثر الثالث الذي نتحدث عنه الآن، فلو أن شخصًا باع شيئًا لمفلس, هذا يعتبر هو المتلف لماله، لكن إذا ظلّ هذا الشيء على حاله، ثم حكم القاضي عليه بالحجر، ووجد الدائن عين ماله وكان باقيًا، ولم يقبض ثمنه؛ اختلف العلماء في هذه الحالة، وهي حالة ما إذا وجد أحد الدائنين عين ماله الذي باعه للمفلس قائمًا لم يفت، أي: موجودًا بحاله ولم يحدث تصرف فيه، هل له أن يسترد هذا؟

هنا رأيان:

الرأي الأول: رأي الجمهور -المالكية والشافعية والحنابلة- حيث قالوا: إن ذلك يكون بشروط، أي: الشروط أن صاحب هذا العين يكون أحق بها، فلا يأخذها، ولا يمنع من أخذها؛ لأنها صارت حقًّا له؛ لأنها ما دامت لم تفت، وقالوا: يسترد عين ماله.

الرأي الثاني: قال: لا يسترد عين ماله، وإنما عين المال هذه كما لو كانت سيارة، أو دابة، أو شيئًا, لا يستردها حتى ولو كانت موجودة, بل يصير في ثمنها أسوة الغرماء، بمعنى: أنه حتى لو كانت أمامه، ولم يأخذ ثمنها، وحكم عليه بالإفلاس لا يأتي ويسحبها ويجرّها، أو السيارة يقودها ويقول: هذه ملكي، والآن صارت حقي ما دام لم يحدث صرفها، لا، قالوا: لا يسترد عين ماله حتى ولو وجده موجودًا، بل يصير فيه أسوة الغرماء، وهذا رأي أبي حنيفة وأهل الكوفة، ورأي ابن سيرين ومجموعة من التابعين، لكن قال الجمهور-المالكية، والشافعية، والحنابلة: لا، بشروط في كل مذهب, قالوا: وأيضًا هذا المذهب مروي عن بعض الصحابة، وهو أن صاحب العين هذه أحق بها فيأخذها، ولا تدخل في مال المدين، ويقسم ثمنها على جميع الدائنين.

واستدل الجمهور بحديث عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((أيما رجل أفلس فأدرك الدائن ماله بعينه؛ فهو أحق به من غيره))، وهذا الحديث أخرجه مالك، والبخاري، ومسلم، واللفظ هذا لمالك. وله ألفاظ أخرى متقاربة, منها مثلًا: ((من أدرك متاعه بعينه عند إنسان قد أفلس؛ فهو أحق به))، ووجه الدلالة من الحديث واضح, أي: إنه ما دام أدركه بعينه على أي حال؛ فهو أحق به من غيره، ولا يدخل مع الأموال الأخرى، ويكون فيها أسوة الغرماء.

ورد أبو حنيفة ومن وافقه هذا الحديث, فقالوا: إن هذا الحديث ((أيما رجل أفلس فأدرك الدائن ماله بعينه؛ فهو أحق به من غيره)) مخالف للأصول المتواترة, على طريقتهم في رد خبر الواحد؛ فكأنهم يرون أن هذا خبر الواحد، وخبر الواحد إذا خالف الأصول المتواترة لا يؤخذ به، والأصول المتواترة عندهم في حديث فاطمة بنت قيس، أي: إن خبر الواحد مظنون، لكن الأصول اليقينية مقطوع بها، كما قال عمر رضي الله عنه في حديث فاطمة بنت قيس: “ما كنا لندع كتاب ربنا وسنة نبينا لحديث امرأة”, فكأن أبا حنيفة ومن وافقه يقولون: إن هذا الحديث خبر واحد، وهو مظنون، لكن الأصول اليقينية مقطوع بها، وعندنا ما روي عن عمر: “ما كنا لندع كتاب ربنا وسنة نبينا لحديث امرأة”، فقالوا في حديث أبي هريرة هذا: مختلف فيه.

وذلك أنه ورد حديث آخر رواه الزهري, عن أبي بكر بن عبد الرحمن, عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((أيما رجل مات أو أفلس, فوجد بعض غرمائه ماله بعينه؛ فهو أسوة الغرماء)), فكأن هذا الحديث على خلاف الحديث، قالوا: وهذا الحديث أولى؛ لأنه موافق للأصول الثابتة.

قال أبو حنيفة ومن معه: عندنا وجه للجمع بين الحديثين، وهو أن يحمل حديث أبي هريرة، وهو ((أن من أدرك ماله بعينه؛ فهو أحق به من غيره)) على أنه كان عارية أو وديعة، والجمهور رد على ما روي عن حمل الحديث عن العارية والوديعة بأنه ورد في لفظ من ألفاظ حديث أبي هريرة, عند بعض الرواة من ذكر البيع، أي: كأنه روي أن الرجل الذي أفلس وأدرك الدائن ماله بعينه, فهو أحق به من غيره إذا كان بيع، هذا دليل على أن الحمل الذي يحمل عليه أبو حنيفة على أنه عارية, أو وديعة ليس في محله.

الأثر الرابع: استحقاق بيع مال المدين المفلس وقَسْمه بين الغرماء، وهذا شيء طبيعي، وهو نتيجة الحجر عليه، فللحاكم أن يبيع مال المحجور عليه لفلس عنده غير أبي حنيفة ومن وافقه، ومعنى أنه يبيعه: أن يقسم ثمنه على الدائنين بالمحاصّة، والمحاصة معناها نسبة الحصص، فلو أن شخصًا يداين بمائة، وشخصًا يداين بمائتين، فهذا يأخذ بقدر المائة وذاك يأخذ بقدر المائتين، فلا يأخذ شخص من الدائنين حقه كاملًا ويحرم البعض، هذا معنى المحاصة، وهي أن يأخذ كلٌّ بنسبة حصته، ويندب أن يكون البيع فورًا بعد الحجر عليه حتى لا يطول زمن الحجر عليه، ولسرعة إبراء ذمة المدين مما عليه، وسرعة إيصال الحقوق إلى أصحابها.

كذلك يلاحظ أو يستحب أن يحضر المفلس، أي: يكون واقفًا عند بيع متاعه، وكذلك إحضار الغرماء؛ لأن البيع حصل من أجلهم، وربما رغبوا في شيء يشترونه، وهذه الأمور مستحبة عند البيع، وعندما يبيع الحاكم مال المفلس يستحب أيضًا أن يكون هناك نوع من الترتيب بين ما يباع، بحيث يقدم البيع لشيء ويؤخر البيع لشيء آخر؛ فيقدم بيع ما يسرع إليه الفساد من الطعام، والفواكه، وغيرها، وما يتعلق به الحقوق كالمرهون، ثم الحيوان؛ لأن الحيوان محتاج إلى نفقة، ثم المنقولات لأن المنقولات معرّضة للضياع والتلف، وآخر شيء يباع من أموال المدين هو العقار، حتى قال المالكية: إنه يمكن أن ينتظر به الشهر والشهرين إلى أن يجد المشتري المناسب. قالوا أيضًا: يراعي القاضي أن يترك أشياء للمفلس، أي: لا يبيع أمواله كلها بالمرة، فيترك له قدرًا من الثياب التي تكفي حوائجه، وقدرًا من الكتب المحتاج إليها، وداره التي يسكنها، وآلة الصنعة، وقدر ما يكفيه هو وعياله من القوت الضروري، وما يترك له ولزوجته وأولاده ووالديه, إلى آخره بحسب اجتهاد الحاكم.

أما الشافعية فقالوا: لا يترك له من القوت شيء ما عدا قوت يوم القسمة، ولا تجب عليه نفقة قريب؛ لأنه معسر بخلاف ما قبل القسمة، فقبل القسمة وضع وبعدها وضع آخر، فبعد القسمة لا يستحق شيئًا من هذا، ولا تجب عليه نفقة قريب له بعدها.

error: النص محمي !!