Top
Image Alt

أحكام الوصية اللفظية

  /  أحكام الوصية اللفظية

أحكام الوصية اللفظية

يتضح من الكلام أن هذا يتصل بصيغة الوصية من ناحية اللفظ، كيف تكون؟ والصيغة في أي عقد هي: ما يكون به العقد، من قول -أي لفظ- أو كتابة أو إشارة؛ لبيان إرادة العاقد أن إرادته تتجه إلى عقد ما ونوعه, فما الصيغة التي تكون بها الوصية؟

الصيغة في أغلب العقود هي الصيغة اللفظية، والصيغة اللفظية التي نقول عنها هي الإيجاب والقبول كقاعدة عامة, فهل الصيغة التي تنشأ بها الوصية هي الإيجاب وحده أم هي الإيجاب والقبول معًا؟ أو نقول: بِمَ يتحقق ركن الصيغة في الوصية؟ هل بالإيجاب وحده؟ أم بالإيجاب والقبول معًا؟

الراجحُ عِنْدَ الحَنفية أن ركن الصيغة في الوصية يتحقق بالإيجاب فقط، والإيجاب يكون من الموصي؛ بأن يقول: أوْصَيتُ لفلانٍ بكذا، ونحوه من الألفاظ التي تفيد معنى الوصية، أو أعطيته شيئًا يأخذه بعد وفاتي أو مماتي.

أما القبول من الموصى له عند الحنفية؛ فإنه شرطٌ عندهم لا ركن، أي: شرط في لزوم الوصية, فلا تصير الوصية لازمة إلا بالقبول من الموصى له، بمعنى: أن يقول: قبلت, ويُصْبِح هذا شرطًا في لزوم الوصية.

فالحَنَفِيّة يقولون: إنّ رُكن الصيغة في الوصية يتحقق بالإيجاب فقط، ولفظ الإيجاب هذا قد يدل على الوصية صراحة؛ أي: لفظه دالٌّ على معنى الوصية أو على لفظها كـ”أوصيت لفلان”, أو يدل كناية ليس صريحًا في لفظ الوصية, ويَدُلّ إذا انْضَمّ إليه قرينة تُفيد أنه يقصد بهذا اللفظ الوصية؛ كأن يقول الموصي مثلًا: هذه الدار هبة لفلان بعد موتي. فإضافة الهبة إلى ما بعد الموت تجعله كأنه يقول: أوصيت لك بداري؛ لأنّ عِبارَة “بعد الموت” قرينة تفيد أنه يقصد الوصية.

والقول بأن رُكن الوصية يتحقق بالإيجاب وحده هو الراجح عند الحنفية؛ لأنهم قالوا: إنّ مِلك الموصى له بمنزلة ملك الوارث؛ لأنّ كل واحد من الملكين ينتقل بالموت, فالميراث ينتقل بالموت إلى الوارث، والوصية تنتقل بموت الموصي إلى الموصى له، وما دام لا يحتاج ملك الوارث إلى قبول منه؛ فيقاس عليه ملك الموصى له.

وملك الوارث لا يحتاج إلى قبول؛ لأنّ الفقهاء يقولون: إنّ مال المورَّث يدخل في ملك الوارث جبرًا عنه؛ فهذا معنى قولهم: لا يَحْتَاجُ ملك الوارث للميراث إلى قبول، فيُقاس عليه ملك الموصى له؛ فليس بشرط عند الحنفية أنّ المُوصى له ركن الوصية يتحقق بالقبول, ولكنه يتحقق بالإيجاب وحده قياسًا على ملك الوارث، وبذلك تكون الوصية تصرفًا ينشأ بإرادة منفردة، وهي إرادة الموصي. هذا عند الحنفية.

مع أن جمهور الفقهاء يقولون كما هي عادتهم، وكما نشرح دائمًا في المعاملات وفي العقود بصفة عامة: إن للعقود أركانًا أربعة: “العاقدين، والصيغة، والمعقود عليه” كذلك يقولون: الوصية لها أركان أربعة: “موصٍ، وموصى له، وموصى به، وصيغة”.

والصيغة تنعقد بالإيجاب من الموصي؛ كقوله: “أوصيت له بكذا” أو “ادفعوا له بكذا” أو “أعطوه بعد موتي”, فكلمة “بعد موتي” قرينة تدل على إرادة الوصية، والقبول من الموصى له المعين أو الشخص، فما دام معينًا يشترط أن يقبل.

ويقولون: ولا يَصِحُّ قبول ولا ردّ في حياة الموصي؛ كَمَا لا يُشْتَرطُ الفور في القبول بعد الموت، ورُبّما المُوصِي لم يظهر هذه الوصية؛ فلا تظهر بطبيعتها إلا بعد موته، كما لا يُشترط الفَورية في قبول الموصى له بعد موت الموصي، هذا بالنسبة للقبول من الموصى له المعين.

إذا كان الموصى له جهة عامة كمسجد, أو كان غير معين كالفُقَراء؛ فإنها تلزم بموت الموصي بلا قبول، بمعنى أنه لو قال: أوصيت لهذا المسجد بالإنفاق عليه من فرشه، وكذا وكذا, فبمجرد موت الموصي تصبح الوصية لازمة؛ لأن المسجد جهة عامة.

كذلك إذا كان الموصى لهم غير معينين كالفقراء؛ تلزم الوصية بموته كما لو قال: أوصيت لفقراء هذه القرية أو هذه الجهة، أوصيت لهم بثُلث مالي؛ فإنّ الوَصية هنا تلزم؛ لأنهم غير معينين بموت الموصي, ولا يشترط هنا القبول.

وتَنْعَقِدُ الوَصِيّة ويَتحقق الإيجاب، بواحد من طرق ثلاثة: العبارة وهي اللفظ كقوله: “أوصيت”, أو الكتابة, أو الإشارة المفهمة.

أما العبارة اللفظية، فلا خلاف بين الفقهاء في انعقاد الوصية باللفظ الصريح مثل: “أوصيت لفلان بكذا”, وغير الصريح وهو الذي يفهم منه الوصية بالقرينة.

ولا خلاف أيضًا بين الفقهاء في أن الوصية تنعقد بالكتابة إذا صدرت من شخص عاجز عن النطق؛ كالأخرس أو الأبكم مثلًا، ويَجُوز أن تنعقد بالكتابة من قادر على النطق؛ إذا ثبت أنه خط الموصي بإقرار وارث، أو ببينة تشهد أن هذا الخط خط الموصي حتى ولو طال الزمن, وهذا هو الراجح لدى الحنابلة.

فليس بشرطٍ أن تنعقد الوصية بالكتابة من الشخص القادر على النطق, ما دام ثبت أن الخط المكتوب هو خط الموصي نفسه بإقرار ورثته بعد وفاته, أو ببينة تشهد على أنهم يعلمون أن هذا خطه, والطرق الحديثة الآن في فحص الخطوط تعرف إن كان هذا خطه أو ليس هذا خطه.

والحنفية والمالكية قالوا: إذا كتب الشخص وصيته بيده ثم أشهد عليها, فقال: اشهدوا على ما في هذا الكتاب؛ جاز. فلو كتبها بيده ثم أغلقها ووضعها في شيء مغلق، وقال: اشهدوا على ما في هذا الكتاب؛ تكون الوصية جائزة.

أما الشافعية فيقولون: الكتابة كناية, أي: تنعقد الوصية بها مع النية كالبيع؛ ولذلك اشترطوا لإثبات الكتابة بالشهادة أن يُطلع الموصي الشهود على ما في الكتاب، أي: يقول: اشهدوا على ما في هذا الكتاب، ثم يُعطي لهم الكتاب الذي كتب فيه الوصية أو يُطلعهم عليه؛ فإذا لم يطلعهم على ما كتبه لم تنعقد وصيته، هذا هو رأي الفقهاء الأربعة في مسألة جواز انعقاد الوصية بالكتابة أو عدم جوازها.

الدليل على جواز الاكتفاء بالكتابة: أنّ الكتابة لا تقلّ -كما يقول الفقهاء- في بيان المراد عن العبارة أو اللفظ, بل هي أقوى منها عند الحاجة إلى الإثبات؛ فقد تدل دلالة قوية إذا احتجنا إلى الإثبات عن العبارة, فربما أوصى الموصي وأشهد أناسًا على أنه أوصى ولم يكتب كتابه، ثم لم يتذكر الشهود الوصية، فتكون الكتابة هنا أقوى إذا احتجنا لإثبات هذه الوصية عن العبارة.

وتنعقد الوصية كذلك بالإشارة المفهمة, كأن تنعقد الوصية من الأخرس؛ فإذا كان هذا الأخرس عاجزًا عن النطق وعالمًا بالكِتَابة أو يستطيع أن يكتب، قالوا: لا تَنْعقد وصيته إلا بالكتابة؛ لأنّ دلالتَها -دلالة الكتابة- على ما يقصده بإشارته أدق وأحكم، هذا بالنِّسبة للطرق الثلاثة التي تنعقد بها الوصية، وتدخل في إطار بعض الأحكام اللفظية للوصية.

هل اختلف الفقهاء في القبول المطلوب للوصية؟

الرأي الأول: قال الحنفية: القبول المطلوب هو عدم الرد؛ فيَكْفِي إما القبول الصريح أو القبول دلالة، كأن يتصرف في الموصى به تصرفًا يدلُّ على القَبول، أو على تصرف الملاك في أملاكهم كالبيع والهبة؛ بمعنى أن يقول الورَثَةُ للمُوصَى له: إنّ مُورّثنا أوصى لك في وصيته بكذا, فقال: وأنا بعت هذا الذي أوصى لي به، تصرفه بالبيع هذا دليل على القبول عند الحنفية.

الرّأي الثاني: رأي الجُمهور في القبول المَطْلُوب في الوَصِيّة, حيث قالوا: لا بُدّ من القبول بالقول، أو ما يقوم مقامه من التصرفات الدالة على الرضا، ولا يكتفى بعدم الرد؛ لأنه غير القبول المطلوب، فالقبول المطلوب عندهم -المالكية والشافعية والحنابلة- لا يكتفى فيه بعدم الرد, بل لا بد أن يكون القبول لفظيًّا وغيره لا يجوز.

أيضًا ونحن نتكلم في بعض أحكام الوصية اللفظية, يتعلق بذلك حكم إضافة الوصية وتقييدها وتعليقها على شرط؛ بمعنى: أن إضافة الوصية إلى المستقبل هل يجوز ذلك أم لا يجوز؟ كما لو أوصى شخص بسُكنى داره لفلان، اعتبارًا من بدء السنة القادمة لوفاته؛ كأن يقول: أوصيت بسكنى داري أو الدار الفلانية لفلان اعتبارًا من العام أو بداية من عام 2011م, أو من بدء الشهر التالي لوفاته، فيقول: أوصيت لفلان بسكنى داري بدءًا من الشهر التالي لوفاتي.

هذه الوصية مُضافة إلى المستقبل وتقييدها بالشرط أيضًا صحيح؛ بمعنى أن يُقَيّد المُوصي تنفيذ الوصية بشرط يقترن به، وعن الشرط الذي يقترن بالوصية قال الفقهاء فيه: لا يَجُوز تقيِيد الوصية إلّا بالشرط الصحيح، والشرط الصحيح هو ما فيه مصلحة مشروعة للموصي نفسه, أو للموصى له, أو لغيرهما.

والمثال على ما فيه مصلحة للناس, كأن يوصي لفلان فيقول: أوصي لفلان بألف من الدينارات، أو الجنيهات على أن يُسدد عني دَيْنًا لفلان, هذا فيه مصلحة للموصي، وهو سداد الدين عنه. أو يقول: أوصيت لفلان بمبلغ من المال، على أن يقوم بالإشراف على أولادي الصغار، أو على أن يفعل مصلحة ما لأهلي، فكُلّ ذلك شرط يجوز؛ لأن فيه مصلحة عائدة على الموصي.

ومثال الشرط الذي فيه مصلحة للموصى له, أن يقول: “أوصيت لفلان بأرضي” أو “بداري الفلانية” على أن تكون نفقات الإصلاح أو الترميم في تركته, فكأنه أوصى له بشيئين؛ أوصى له بالأرض واشترط أن يكون الترميم أو الإصلاح في التركة التي يتركها بعد وفاته. فهذا شرط عائد على الموصى له؛ لأنه لا بد وأن يستلم دارًا صالحة مرممة بمال من التركة.

وما فيه مصلحة لأجنبي غير الموصي والموصى له؛ أي: الشرط فيه مصلحة لغيرهما, كأن يوصي لفلان بدار على أن ينفق من إيجار بعضها على طالب علم، أو فقير هو فلان أو فلان، فالمصلحة هنا التي طلبها الموصي كشرط عائدة على شخص أجنبي، حيث أوصى لشخص بدار واشترط أن يُنفق من إيجار بعضها على طالب العلم الفلاني, أو على الفقير الفلاني.

وإذا كان الشرط صحيحًا فالوصية صحيحة وليس فيها أي شيء؛ لكن إذا كان الشرط غير صحيح يُلغى الشّرط وتصح الوصية، مثال ذلك: أنْ يُوصي لفُلان بمبلغ من المال على ألا يتزوج، وهذا شرط غير صحيح، فالوصية بالمبلغ من المال صحيحة، وله أن يتزوج لأن هذا الشرط مناقض لمقاصد الشريعة. وهكذا كل شرط غير صحيح ناقض مقاصد الشريعة أو تعارض مع نص, فهذا الشرط لاغٍ والوصية صحيحة.

تعليق الوصية على الشرط:

يَجُوز تَعْليق الوصية على الشرط باتفاق الفُقَهاء, والتّعليق هو أن يترتب وجود العقد على وجود أمر آخر في المُستقبل؛ هذا الأمر الآخر الذي في المستقبل المعلقة عليه الوصية، أو شرط التعليق عامة؛ قد يحصل الأمر المعلق عليه وقد لا يحصل، ويَجُوز أن يلحق الوصية التعليق.

مثال ذلك: أنْ يَقُول المُوصي لشخص: إنْ حَصَلْتَ على شهادة كذا فقد أوصيت لك بعد موتي بكذا؛ هذا شرط معلق أو علق الوصية على حصوله على الشهادة، أو يقول: إذا تزوجت المرأة الفلانية فقد أوصيت لها بكذا، فعلق الوصية على زواجها، أو إن شَفَى اللهُ ولدي ونحو ذلك؛ فقد أوصيت بمالي للفُقراء الفلانيين، وهكذا.

فيجوز تعليق الوصية على الشرط باتفاق الفقهاء, وكانت هذه أمثلة من أحكام الوصية اللفظية.

error: النص محمي !!