أحكام تصرفات الصغير والسفيه, من حيث الردّ والإجازة
اختلف الفقهاء في حكم تصرفات الصغير من حيث الرد والإجازة, على رأيين في هذه المسألة:
الرأي الأول: ذهب إليه الحنفية والمالكية, وقالوا: نفرق بين تصرفات المميز وغير المميز، فغير المميز الذي لم يتم السابعة من العمر، والمميز هو الذي أتمها، وهذا المنطلق فيه استناد إلى قول النبي صلى الله عليه وسلم: ((مروا أولادكم بالصلاة وهم أبناء سبع))، واعتبر سن السبع ليصل لإدراك الأمور النافعة، فهنا يؤمر بالصلاة، فاعتبر أن هذه السن تفصل بين سن التمييز وعدم التمييز، فما فوقها فهو مميز إلى أن يبلغ.
فالحنفية والمالكية قالوا: حكم تصرفات الصغير عندنا, بأن نفرق بين المميز وغير المميز. هذا بالنسبة للتصرفات القولية.
إذًا: هناك تصرفات فعلية عندهم، فالتصرفات الفعلية كالغصب، وإتلاف المال، والحجر على الصغير لا أثر له هنا، فلو أن الصغير أتلف مالًا لغيره أو المجنون, كل منهما مسئول عمن غصب أو أتلف من مال؛ لأن الأفعال لا حجر عليها، وإنما الحجر يكون على الأقوال، فالتصرفات القولية إما أن تصدر من غير مميز أو بمميز؛ إن صدرت من غير مميز فجميع تصرفاته تكون باطلة -وهي ما قبل سن السبع السنوات- لفقد أهلية الأداء وأهلية التصرف؛ لأنه لا عقل له، ولا تمييز فلا يعتبر له قصد، ولا يعتبر له رضا هنا؛ لأن رضاه كعدم رضاه، وقصده كلا قصد، فيبقى التصرف نافعًا له أو ضارًّا به، أو مترددًا بين النفع والضرر غير معتبر، فتصرفاته تعتبر كعدمها ولا يعتد بها.
إذا صدرت التصرفات القولية من مميز, فتنقسم إلى ثلاثة أنواع: تصرفات نافعة نفع محض، أي: تعود بالنفع المحض عليه, كقبول الهبة فيقبلها فتكون نافعة، أو يقبل الوصية، هذا نافذ ولا يتوقف على إجازة الولي. التصرف الضار, وفيه ضرر محض كأن يتبرع من ماله، أو يقرضه هذا ربما يعود إليه بالضرر, فهذا ضرر محض؛ لأنه إخراج مال من عنده فهذا تعتبر تصرفاته فيها باطلة ولا تنفذ، حتى إجازة الولي بعد ذلك لا تصحح هذا الباطل؛ لأن الإجازة لا تلحق الباطل، كما يقول علماء الأصول: التصرفات المترددة بين النفع والضرر كالبيع، والشراء، والإيجار، والاستئجار، وكل هذه الأمور وما في حكمها قد تكون نافعة، وقد تكون ضارة، والحكم هنا فيها والإجازة تكون للولي؛ قد يجيز وقد يبطل، فإذا لم يجز التصرف الصادر المتردد بين النفع والضرر يكون باطلًا، وإذا أجازه فهو أدرى بما فيه النفع يجيزه، وهكذا، فالرأي هذا بالنسبة للحنفية والمالكية.
الرأي الثاني: عند الشافعية والحنابلة, وقالوا بعدم التفرقة بين تصرفات المميز وغير المميز، أي: لم يلجئوا للتفرقة بين المميز وغير المميز هنا، وإنما قالوا: لا تصح تصرفات المميز وإن أذن له الولي عند الشافعية، لكن الحنابلة خفّفوا شيئًا ما، وقالوا: إن تصرفات المميز بإذن وليه تصح, وينفك عنه الحجر فيما يؤذن له فيه من الولي, كالتجارة وغيرها.
آراء الفقهاء في حكم تصرفات السفيه:
اتفق الفقهاء على سبيل الإجمال -لكن هناك خلافات داخلية- على أنه يُحْجَر على السفيه في تصرفاته كما يحجر على الصبي والمجنون، وفي معنى السفيه ذو الغفلة، والمغفل: هو الذي لا يهتدي إلى التصرفات الرابحة في البيع، ولا في الشراء لقلة خبرته وسلامة نيته.
وقبل أن نذكر حكم تصرفات السفيه عند الفقهاء, نقول: متى يبدأ الحجر على السفيه، وفي حكمه المغفل، ومتى ينتهي؟
الجمهور قالوا: الحجر على السفيه وذي الغفلة لا يثبت، أي: لا يبدأ، ولا يرفع إلا بحكم من القاضي بثبوته -أي: ببدايته- أو رفعه؛ لأن السفه نفسه والغفلة أمر غير محسوس كالجنون والعَتَه؛ لأن الجنون والعته يستدل عليهما من خلال التصرفات، لكن السفيه وذا الغفلة أمور اجتهادية تختلف حولها وجهات النظر، أي: ربما نرى هكذا، وربما نرى هكذا، فالسفيه وذو الغفلة عند جمهور الفقهاء لا يثبت الحجر أولًا، ولا يرفع بعد ثبوته إلا بحكم القاضي لرفع الخلاف، وأيضًا لمنع الضرر الذي قد يقع على من يتعامل معهما؛ لأن المتعاملين لا يعرفون حقيقتهما، وإنما يعلمون حقيقتهما من حكم القاضي.
والذي يترتب على هذا الرأي: أن نفاذ التصرفات قبل صدور الحكم بالحجر تعتبر نافذة؛ لأننا قلنا: يثبت الحجر ويرفع بحكم القاضي، فما لم يثبت تصرفاته قبل الثبوت أو قبل الحكم يعتبر نافذًا وثابتًا ويجوز، وهذا هو الرأي الراجح في نفوذ تصرفات كل من السفيه وذي الغفلة قبل ثبوت الحجر عليهما بحكم القاضي, عند جمهور الفقهاء.
وذهب بعض الفقهاء كبعض الحنفية والمالكية إلى أن الحجر يثبت على السفيه, وعلى المغفل بمجرد ظهور أمارات السفه والغفلة، ويزول بزوالهما دون توقف على صدور حكم القاضي.
ويترتب على هذا الرأي عكس ما ترتب في الأمر السابق, أو في الحالة السابقة: أن تصرفات كل منهما لا تصح ولا تنفذ بمجرد ظهور الأمارات، أمارات السفه والغفلة، ويعتبر كل منهما محجورًا عليه بمجرد ظهور هذه الأمارات, حتى ولو لم يحكم القاضي أنهما محجورٌ عليهما -أي: السفيه وذي الغفلة.
ما حقيقة السفه؟
السفه عند الحنفية: هو تبذير المال وتضييعه على خلاف مقتضى الشرع، فالسفيه هو البالغ العاقل الذي فسد رأيه، وساء تدبيره لغلبة الهوى عليه؛ لأنه مسرف في النفقة، ويتصرف لا لغرض في التصرف، أو يتصرف لا لغرض مشروع كالذي يدفع ماله للمغنين، وفي سائر أبواب اللهو، وهذا اختلف فيه عند الحنفية؛ فقال أبو حنيفة: لا يحجر على الحر البالغ بسب السفه؛ لأنه قال: إذا حجرنا على هذا البالغ يعتبر هذا نوعًا من الإهدار لآدميته، والإلحاق له بالبهائم، وهذا أشد ضررًا من التبذير, فلا نتركه يبذر ولا نحجر عليه، ويظل تصرفه في ماله جائزًا، وإن كان مبذرًا متلفًا يتلف ماله.
لكنه قال: الصغير إذا بلغ غير رشيد -أي: غير مصلح- لماله, لا يسلم ماله إذا كان له مال حتى يبلغ خمسًا وعشرين سنة؛ لقول الله تعالى: {وَآتُواْ الْيَتَامَى أَمْوَالَهُمْ وَلاَ تَتَبَدَّلُواْ الْخَبِيثَ بِالطَّيِّبِ} ، والمراد به: بعد البلوغ، فإذا بلغ عند أبي حنيفة خمسًا وعشرين سنة سلم إليه ماله، وإن لم يؤنس منه الرشد؛ لقوله تعالى: {فَإِنْ آنَسْتُم مِّنْهُمْ رُشْدًا}، لكن هذا الرأي غير مفتًى به عند الحنفية، وإنما الرأي المفتى به عند الحنفية الذي ذهب إليه صاحبا أبي حنيفة أبو يوسف ومحمد، وهو المتفق مع رأي الجمهور: أنه يحجر على السفيه، وكذلك المغفل؛ صيانة لأموالهما، ومنع ضررهما على الغير؛ لأن كلًّا منهما يضيع ماله على خلاف مقتضى العقل والشرع.
إذًا: رأي أبي يوسف ومحمد موافق لرأي الجمهور, فهما مع الجمهور في هذا، ولذلك كان هو المفتى به عند الحنفية.
ويترتب على هذا الرأي: أن كل تصرفات السفيه المحجور عليه تكون كحكم الصبي المميز في التصرفات الدائرة بين النفع والضرر، والتصرفات التي قبل ذلك لها حكمها، وأنه ما دام قد ذكرنا: أن تصرفات الصبي المميز في أشياء تصح منه كوصيته بمقدار الثلث، أي: كتصرفات غيره، فالصبي المميز تصرفاته بينا أحكامها، وتجب عليه زكاة ماله؛ لأن السفه لا يبطل حقوق الناس. هذا موجز لوجهة نظر الحنفية في حقيقة السفه.
أما المالكية والشافعية والحنابلة فقالوا: السفه عندهم هو صرف المال في غير ما يُرَاد له شرعًا، والسفيه هو المبذر لماله إما بإنفاقه تبعًا لهواه، أو لقلة معرفته بمصالحه حتى ولو كان صالحًا في دينه, لكن الشافعية كان لهم وجهة نظر، فتصرفات السفيه الذكر البالغ, الذي لا ولي له ولا وصي وهو المهمل عند المالكية, إذا كان سفهه محققًا نرجع إلى ما قلنا، فتصرفاته تكون نافذة على الراجح عندهم إلا إذا ظهر منه سفه، وكذلك الشافعية يقولون في السفه والحنابلة: إنه تبذير المال وإتلافه في غير حكمه، أي: لو كان ينفق المال في حكمة كهذه لا يعتبر مسرفًا، لكن إذا ضيعه في أمور الشر كجمع الفساق والإنفاق عليهم، أو في المعاصي، فهذا يعتبر تبذيرًا، لكن الشافعية قالوا: إذا أنفق السفيه ماله في الخير وإن كثر كالصدقة مهما تصدق، وباقي أوجه الخير، والمطاعم، والملابس حتى لو كانت لا تليق بحاله، بمعنى: أنه متوسط الحال ولكن يلبس ملابس زائدة, ففي حاله هذا يعتبر ليس تبذيرًا؛ لأن له في الصرف غرضًا، وهم يقولون: لا صرف في الخير، ولا خير في الصرف، بخلاف ما قاله الحنفية؛ حيث إن الحنفية يقولون: إن الشخص لو أنفق جميع ماله في بناء مسجد, من غير حاجة إلى هذا المسجد يعتبر سفيها، ويستحق الحجر عليه.
ومذهب الحنفية يوافقون فيه الحنابلة, بأن في مجمل التعريف للسفه عندهم هو عدم إحسان التصرف في المال، وهذا ينطبق على ما قاله المالكية، وعلى ما قاله الشافعية، لكن لا بد للحجر عليه كما يذهب سائر الفقهاء من حكم القاضي بذلك، ورفع الحجر عنه يحتاج إلى ذلك أيضًا، وقالوا: يستحب للقاضي أن يظهر الحكم بذلك ويشهد عليه؛ حتى يجتنب الناس معاملته؛ لأن القاضي لما يقول: هذا محجور عليه, فالناس المتعاملون معه يتوقفون ولا يتعاملون معه.
أما عن حكم تصرفات السفيه عندهم, فلا يصح عندهم نكاح السفيه إلا بإذن وليه وبغير إذنه إذا احتاج إليه، كما قال الحنفية؛ لأن النكاح مصلحة محضة، ولكن يتقيد بمهر المثل لا يزيد عليه؛ لأن الزيادة تبرع وهو ليس من أهل التبرع، وقالوا أيضًا: يصح طلاقه؛ لأن الطلاق ليس بتصرف في المال، كما يصح خلعه لزوجته، ولكن لا يدفع إليه بدل الخلع الذي تدفعه له الزوجة، وإنما يؤتى لوليه أو يسلم لوليه، وتصح وصيته كما قال سائر الفقهاء، ويجوز له أن يقرّ بما يجب عليه حدًّا أو قصاصًا؛ لأن ذلك ليس بمال، وهكذا.
إذًا: الخلاصة من مجموع ما قلناه في تصرفات السفيه, وحكمها عند الحنفية والمالكية والشافعية والحنابلة: أن تصرفات السفيه بالبيع والشراء, ونحوهما من كل ما فيه نفع محتمل، وضرر محتمل -أي: هو متردد بين النفع والضرر- متوقفة على إجازة وليه عند الحنفية والمالكية، وهذه التصرفات باطلة ولو بإذن الولي عند الشافعية، وهذه التصرفات باطلة بغير إذن الولي ولكنها تصح وتنفذ بإذنه عند الحنابلة على الرأي الراجح عندهم، والله أعلم.