Top
Image Alt

أحكام تصرفات المضارب، وحكم يده على المال

  /  أحكام تصرفات المضارب، وحكم يده على المال

أحكام تصرفات المضارب، وحكم يده على المال

المضارب: هو العامل الذي يقوم بالتجارة في المال، ولا تخرج تصرفات المضارِب عن أقسامٍ أربعة:

القسم الأول: ما له عمله من غير نص عليه: فإنه إذا لم يعين رب العمل للمضارب العمل، أو المكان، أو الزمان، أو صفة العمل، أو من يعامله، بل قال له: هذا المال مضاربة على كذا، فللعامل البيع، والاستئجار، والتوكيل، والرهن، والإحالة، وسائر ما يتعامل به التجارُ عادةً.

ولا خلاف بين الفقهاء في جوازِ البيع حالًا، لكن في جواز البيع في هذه الحالة نسيئةً، روايتان عن الإمام أحمد بن حنبل -رحمه الله-: رواية تجيز، ورواية تمنع.

وأجاز له بعض الفقهاء شراء المعيب إن رأى ذلك، فقد يكون الربح فيه كما قد يكون الربح في النسيئة، معلوم: أن البيع نسيئة قد يكون الربح فيه أكثر، كذلك قد يكون شراء المعيب، وبيعه يكون الربح فيه أكثر من السليم، صحيح الربح.

واختلفوا في سفر المضارب بمال المضاربة المطلقة، فقول جمهور أهل العلم: الجواز؛ لأن الإذن المطلق ينصرف إلى ما جرت به العادة والعرف -أعني عادة التجار وعرفهم- والعادة جرت بين التجار بالسفرِ والحضر؛ ولأن الربح مع السفر أكثر، ولأن المعاملة مأخوذة من الضرب في الأرض، والمراد به السفر.

كيف لا يسمح للمضارب بالسفر إلا بإذن صاحب المال، يعني: الصحيح عند الشافعية لا يجوز له السفر بمال المضاربة، إلا بإذن صاحب المال، يعني: لا تجوز المضاربة المطلقة وأن يأخذ المال ويسافر عند الشافعية؛ لأن السفر مظنة الخطر، يعني: يأخذ المال ويسافر به، هذه مظنة الخطر على المال، فقد يسرق وقد يضيع، وقد يتلف، وقد يغتصب… إلخ.

واتفقوا على ألا يسافر بالمال عن طريق البحر، إلا بإذن رب المال، يقول: أنا سأسافر به إلى المكان الفلاني، وأركب البحر، ما لم يأذن له صاحب المال من البداية بالتجارة في بلد -يحدد له هذا البلد- ولا يكون هناك طريق لهذا البلد، إلا عن طريق البحر، كأن يقول له مثلًا: تاجر في البلد الفلاني، وهذا البلد عبارة عن جزر أرخبيل في وسط البحار، يعني: يتعذر الوصول إلى هذا البلد إلا عن طريق البحر؛ فلا يستأذن العامل رب المال مرةً أخرى؛ لأنه لما أَذِنَ له، أو قيده بالتجارة في بلد لا يمكن الوصول إليه إلا عن طريق البحر، فكأنَّهُ قد أجاز له أن يسافر بالمال عن طريق البحر.

القسم الثاني: ما ليس للمضارب عمله إلا بالنص عليه في العقد:

وينتظم هذا النوع من التصرفات، التصرفات التي لا تقع من التجار عادة، يعني تقع على سبيل الاستثناء، ولا يشمَلُهُ، ولا ينتظمه عقد المضاربة بإطلاقه كعقد كمضاربة، وذلك مثلًا: الاستدانة على المضاربة، بشراء المضارب شيئًا، أو أشياء بثمن يكون دينًا، وهذا الدين ليس في يده شيء من جنسه؛ فإن فعل فهو دين عليه، يعني: على المضارب في ماله الخاص، وإذا أذن له جاز، وما يستدينه في هذه الحالة يكون بينهما؛ لأن الاستدانة معناها أن تشغل ذمة صاحب المال، ولا تشغل ذمة أيَّ إنسان إلا بإذنه.

وكذلك ليس للعامل أن يشتري بما لا يتغابن الناس في مثله، يعني لا يشتري بثمن مرتفع، لا يدخل تحت تقويم التجار؛ لأنه في هذه الحالة لا يمكن أن يأذن له صاحب المال في هذا، وليس داخلًا في عادة التجارة، ولا العقد أصلًا، وقد أجيز من أجل التغابن الذي هو تغابن فاحش؛ لا يدخل تحت تقويم التجار، وليس للعامل أن يشتري بأكثر من رأس المال وربحه، إلا بإذن صاحب المال.

إذًا هذا القسم ليس للمضارب عمله إلا بالنص عليه في العقد.

القسم الثالث: وهو ما للمضارب عمله إذا قيل له: اعمل برأيك.

وهذا نوع من التفويض للمضارب حتى ولو لم يأذن ولو لم يستأذن؛ لأنه قد فوضه صاحب المال، حيث قال له: اعمل برأيك، فإذا لم ينص عليه في العقد، جاز، وذلك إذا لم يكن من عادة التجار أيضًا جاز، وذلك كأن يدفع مال المضاربة إلى غيره مضاربة، يعني: المضارب يضارب إذا قال له: اعمل برأيك، جاز هذا، وإلا فلا يجوز إلا بإذن صاحب المال.

وكذلك إذا أراد أن يشارك غيره في مال المضاربة، يعني: أن يبقى المال شركة -يدفعه شركة عنان- أو أن يخلط مال المضاربة بمال نفسه، مال المضاربة مائة ألف، ومعه عشرون ألفًا فخلطها، لا يجوز إلا إذا قال له: اعمل برأيك، فإذا قال: اعمل برأيك؛ جاز هذا، وليس له أن يعمل شيئًا من ذلك ما لم يقل له المالك: اعمل برأيك.

وله أن يبيع بالنَّساء عند الحنابلة، قيل: لا يجوز، وقيل: يوقف ذلك على إجازةِ المَالِكِ، وليس له في هذه الحالة أن يبيع بأقلِّ من ثمن المثل، ولا يشتري بأكثر من ثمن المثل، مما لا يتغابن الناس بمثله، وفي بيعه بغير نقد البلد، على روايتين عند الإمام أحمد، وهي الجواز؛ إذا رأى المصلحة في هذا.

والثانية: لا يجوز حتى ولو رأى المصلحة في ذلك، فإن قال له: اعمل برأيك؛ جاز له ذلك كله.

القسم الرابع: ما ليس للمضارب عمله أصلًا:

وذلك مثل شراء الميتة، والدم، ولحم الخنزير؛ لأن المضاربة تتضمن الإذن بالتصرف الذي يحصل منه الربح، والربح لا يحصل إلا بالشراء، والبيع، وما يُمْلَكُ بالشراء، ويكون هو السائدُ يجوز، أما ما يملك بالشراء، ولكن لا يقدر على بيعه، ولا يحصل به الربح فلا يجوز، لكن لا بد أن يقدر على بيعه، ولحم الخنزير، والميتة، وما إلي ذلك ممنوع شرعًا، والخمر، والمخدرات؛ فهذه الأشياء الممنوع بيعها لا يجوز المضاربة فيها؛ فإن اشترى شيئًا من ذلك؛ اشترى خمرًا، أو اشترى مخدرات، أو اشترى ميتة، فهذا يكون من ماله الخاص، وليس من مال المضاربة، وإلا كان تصرفُهُ تصرفًا غيرَ مأذونٍ فيه من صاحب المال؛ إذا خسر يضمن أصل رأس المال.

وقد ذهب الفقهاء بالنسبة ليد المضارب: إلى أن يد المضارب على رأس مال المضاربة الأصل إنها يد أمانة، يعني: لا يضمن إلا إذا قصر، أو أهمل، أو تسبب، فلا يضمن المضارب إذا تَلِفَ المال، أو هلك، إلا بالتعدي، أو التفريط، كالوكيل تمامًا؛ لأن يد المضارب على مال المضاربة هي يد أمانة، والأصل أن الأمين لا يضمن إلا بالإهمال أو بالتعدي، أما إذا لم يهمل ولم يتعدّ،َ وتلف شيء من المال فإنه لا يضمنه؛ لأن الأمين كالوكيل في هذه الحالة لا يضمن.

أحكام صاحب المال:

اختلف الفقهاء في معاملة المالك للمضارب، إذا عامل المالك المضارب عامله، يعني: اشترى منه أو باع له، فالبائع في هذه الحالة، وهو العامل سيبيع بمال المضاربة، الذي هو في الأصل مال المشتري في هذه الحالة.

فالحنفية والمالكية والمنقول عن أحمد: أنه يجوز معاملة كل منهما للآخر، بالبيع والشراء؛ لأن ملك كل منهما في المال كملك الأجنبي؛ لأن المالك صاحب المال يملك رقبةَ المال، لكنه لا يملِكُ التصرفَ فيه، والمضارِبُ على العكس بعد عقدِ المضاربة، يملك التصرف في المال، لكنَّهُ لا يملك رقبة المال، فصارا كالأجنبيين.

واشترط المالكية صحة القصد أيضًا، يعني: أن يكون قصدهما صحيحًا شرعًا.

وقال الشافعية وزفر: لا يعامل المالكُ المضاربَ بمال المضاربة، أي: لا يبيعه إياه؛ لأنه في هذه الحالة كمن يبيع مالَ نفسه لنفسه، لكن يجوز بغيرِ مالِ المضاربة، كأن يكون المال الخاص للمضارب، أو مال صاحب مال آخر، والعامل يضارب لهما؛ فيجوز أن يبيع مال هذا لهذا، ومال ذلك لهذا.

وقال الكاساني: تجوز المرابحة بين رب المال والمضارب: بأن يشتري ربُّ المال من مضاربه، فيبيعه المضارب مرابحةً، يقول: والله أنا اشتريت هذه السلعة بكذا -بمائة- وأبيعها لك لأربح فيها عشرة في المائة، فهذه مرابحة، أو العكس، بأن يشتري المضارب من رب المال مرابحة، يعني: إذًا صاحب المال سيبيع بسعر أقل لكن يبيعه بأقل حتى تكون هذه مرابحة على أقل الثمنين، إذَا بَيَّنَ له، يعني: يقول له اشتريت بمائة، وسأبيعه لك، وأنت العامل عندي بتسعين، أضع لك عشرة في المائة، أو عشرة، ويبين له ذلك، باع كيفما شاء.   

إنما كان ذلك كذلك -كما يقول الكاساني- يعني: في حالة بيع صاحب المال للمضارب يبيعه مرابحة فينقص؛ لأن هذا التصرف مخالفٌ للقياس، إنما جوزْنَاهُ استحسانًا؛ لتعلق حق المضارب بالمال، وهو ملك التصرف فيه.

واتفق الفقهاء على أن لرب المال -صاحبه- أن يضارب أكثر من عامِل كل منهم على حدَه، يعني: يقول له مثلًا: مائة ألف؛ فيضارب عشرة، كل واحد على عشرة آلاف؛ يجوز بأن يسلم كل منهم مالًا يتصرف فيه وحده دون غيره، أي: دون أن يشرك معه غيره في هذا المال، مثلًا: مائة ألف نقسمهم على عشرة، نعطى كل واحد عشرة آلاف، أو واحد خمسة، وواحد خمسة عشر، لا بأس بذلك، ما دام كل منهما حر التصرف فيما أسند إليه التصرف فيه من مال.

واتفق الفقهاء كذلك على أنه يجوز أن يضارب رب المال أكثر من عامل مجتمعين، بأن يسلم إليهم مالًا يشتركون في تحريكه في البيع، ويقول لهم: أنتم شركاء، تصرفوا في هذا المال مضاربة.

لكن اشترط المالكية في هذه الحالة: أن يأخذ كل واحد من هؤلاء العمال قدرًا من الربح على قدر عمله.

وذهب جمهور الفقهاء: إلى أنه يجوز أن يتعدد في المضاربة الواحدة رب المال، يعني يكون العامل واحد يأخذ من هذا عشرة، ومن هذا عشرة، ومن هذا عشرة، وهذه فكرة البنك في الواقع -المصرف- بأن يضارب أكثر من واحد من أرباب المال عاملًا واحدًا، وهذا جائز، كأن نعرف مثلًا أن فلان من الناس تاجر ماهر أنت تعطيه عشرة آلاف، وأنا أعطيه عشرين ألفًا، وزميلي يعطيه ثلاثين ألفًا، لا بأس بهذا، وهي فكرة لو تطورت على يد المسلمين؛ لوصلنا إلى اختراع هذه المصارف؛ ولصارت على الطرق الشرعية.

ويرى جمهور الفقهاء: إلى أن نصيب كل عامل من الربح إذا تعدد العمال حسب الشرط في العقد، لكن المالكية قالوا: يأخذ من كل منهم على حسب عمله.

وذكر الإمام الماوردي صورة ثالثة للمضاربة: كأن يتعدد طرفا العقد، صاحب المال، والعمال، أو المضاربون؛ فيكون لدينا مال كثيرٌ من عشرة، أو خمسة أو أكثر، أو أقل، فيعطون هذا المال شركة مضاربة واحدة، لمجموعة من العمال كل منهم يعطي شخصًا، أو كلهم يعطون أشخاصًا؛ فيكون العمال شركاء، ويكون أصحاب الأموال شركاء أيضًا.

error: النص محمي !!