أخذ الميثاق على بني إسرائيل وبيان جزاء اليهود الذين نقضوا الميثاق
1. صلة الآيات بما قبلها، ومعناها العام:
يقول ربنا: {وَلَقَدْ أَخَذَ اللّهُ مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَآئِيلَ وَبَعَثْنَا مِنهُمُ اثْنَيْ عَشَرَ نَقِيبًا وَقَالَ اللّهُ إِنِّي مَعَكُمْ لَئِنْ أَقَمْتُمُ الصَّلاَةَ وَآتَيْتُمُ الزَّكَاةَ وَآمَنتُم بِرُسُلِي وَعَزَّرْتُمُوهُمْ وَأَقْرَضْتُمُ اللّهَ قَرْضًا حَسَنًا لَّأُكَفِّرَنَّ عَنكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَلأُدْخِلَنَّكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ فَمَن كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ مِنكُمْ فَقَدْ ضَلَّ سَوَاء السَّبِيل * فَبِمَا نَقْضِهِم مِّيثَاقَهُمْ لَعنَّاهُمْ وَجَعَلْنَا قُلُوبَهُمْ قَاسِيَةً يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَن مَّوَاضِعِهِ وَنَسُواْ حَظًّا مِّمَّا ذُكِّرُواْ بِهِ وَلاَ تَزَالُ تَطَّلِعُ عَلَىَ خَآئِنَةٍ مِّنْهُمْ إِلاَّ قَلِيلاً مِّنْهُمُ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاصْفَحْ إِنَّ اللّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِين} [المائدة: 12- 13].
لعله من الواضح ونحن نتحدث عن وجه المناسبة أن هذه الآيات معطوفة بالواو على ما سبقها ذلكم أننا نقرأ: {وَلَقَدْ أَخَذَ اللّهُ مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَآئِيلَ}، ومعنى ذلك أن المسألة تشترك في قضية واحدة هي قضية الميثاق، الذي أخذه الله على المؤمنين من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم والميثاق الذي أخذه الله على بني إسرائيل، وأن الذي حدث من بني إسرائيل أمر يؤسف له؛ لأنهم لم يوفوا بما عاهدهم الله عليه وما عاهدوا الله عليه، وإنما كان من أمرهم أنهم نقضوا هذا الميثاق وحرفوا الكلم عن مواضعه، ونسوا قسمًا كبيرًا وحظًّا عظيمًا مما ذكروا به؛ فوقعوا في الضلالة العمياء والجهالة والبلاء، فليحذر المؤمنون من هذا المصير؛ لأن الله أنعم على المؤمنين من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم بهذه النعم، وأخذ منهم الميثاق أن يوفوا بما عاهدوا الله عليه.
يقول العلامة ابن كثير في وجه المناسبة هذا: لما أمر تعالى عباده المؤمنين بالوفاء بعهده وميثاقه الذي أخذه عليهم على لسان عبده ورسوله محمد صلى الله عليه وسلم وأمرهم بالقيام بالحق والشهادة بالعدل، وذكّرهم نعمه عليهم الظاهرة والباطنة فيما هداهم له من الحق والهدى، شرع يبين لهم كيف أخذ العهود والمواثيق على من كان قبلهم من أهل الكتابين اليهود والنصارى، فلما نقضوا عهوده ومواثيقه أعقبهم ذلك لعنًا منه لهم، وطردًا عن بابه وجنابه، وحجابًا لقلوبهم عن الوصول إلى الهدى ودين الحق، وهو العلم النافع والعمل الصالح فقال تعالى: {وَلَقَدْ أَخَذَ اللّهُ مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَآئِيلَ} إلى آخر هذه الآيات الكريمة.
ويبين في وضوح ذلك الإمام الفخر الرازي فيقول: “اعلم أن في اتصال هذه الآية بما قبلها وجوهًا:
الأول: أنه تعالى خاطب المؤمنين فيما تقدم فقال: {وَاذْكُرُواْ نِعْمَةَ اللّهِ عَلَيْكُمْ وَمِيثَاقَهُ الَّذِي وَاثَقَكُم بِهِ إِذْ قُلْتُمْ سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا} [المائدة: 7] ثم ذكر الآن أنه أخذ الميثاق من بني إسرائيل لكنهم نقضوه وتركوا الوفاء به، فلا تكونوا أيها المؤمنون مثل أولئك اليهود في هذا الخلق الذميم؛ لئلا تصيروا مثلهم فيما نزل بهم من اللعن والذلة والمسكنة”. وهو الذي ذكره العلامة ابن كثير وأشرنا إليه في بداية هذا الدرس.
“والثاني -أي: الوجه الثاني مما قاله العلامة والإمام الفخر: أنه لما ذكر قوله: {اذْكُرُواْ نِعْمَتَ اللّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ هَمَّ قَوْمٌ أَن يَبْسُطُواْ إِلَيْكُمْ أَيْدِيَهُمْ} وقد ذكرنا في بعض الروايات أن هذه الآية نزلت في اليهود، وأنهم أرادوا إيقاع الشر برسول الله صلى الله عليه وسلم، فلما ذكر الله تعالى ذلك أتبعه بذكر فضائحهم وبيان أنهم أبدًا كانوا مواظبين على نقض العهود والمواثيق.
أما الثالث -أي: الوجه الثالث: أن الغرض من الآيات المتقدمة ترغيب المكلفين في قبول التكاليف وترك التمرد والعصيان، فذكر تعالى أنه كلف من كان قبل المسلمين كما كلفهم؛ ليعلموا أن عادة الله في التكليف والإلزام غير مخصوصة بهم، بل هي عادة جارية له مع جميع عباده”.
2. الميثاق الذي أخذه الله على بني إسرائيل:
والميثاق صادق على كثير من المواثيق التي أخذها الله على بني إسرائيل، ومنها ما نقرؤه في قول الله تعالى في سورة البقرة: {وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ لاَ تَعْبُدُونَ إِلاَّ اللّهَ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً وَذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَقُولُواْ لِلنَّاسِ حُسْناً وَأَقِيمُواْ الصَّلاَةَ وَآتُواْ الزَّكَاةَ ثُمَّ تَوَلَّيْتُمْ إِلاَّ قَلِيلاً مِّنكُمْ وَأَنتُم مِّعْرِضُون * وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ لاَ تَسْفِكُونَ دِمَاءكُمْ وَلاَ تُخْرِجُونَ أَنفُسَكُم مِّن دِيَارِكُمْ ثُمَّ أَقْرَرْتُمْ وَأَنتُمْ تَشْهَدُون} [البقرة: 83- 84].
وفي سورة النساء يقول ربنا: {وَرَفَعْنَا فَوْقَهُمُ الطُّورَ بِمِيثَاقِهِمْ وَقُلْنَا لَهُمُ ادْخُلُواْ الْبَابَ سُجَّدًا وَقُلْنَا لَهُمْ لاَ تَعْدُواْ فِي السَّبْتِ وَأَخَذْنَا مِنْهُم مِّيثَاقًا غَلِيظًا * فَبِمَا نَقْضِهِم مِّيثَاقَهُمْ وَكُفْرِهِم بَآيَاتِ اللّهِ وَقَتْلِهِمُ الأَنْبِيَاء بِغَيْرِ حَقًّ وَقَوْلِهِمْ قُلُوبُنَا غُلْفٌ بَلْ طَبَعَ اللّهُ عَلَيْهَا بِكُفْرِهِمْ فَلاَ يُؤْمِنُونَ إِلاَّ قَلِيلا * وَبِكُفْرِهِمْ وَقَوْلِهِمْ عَلَى مَرْيَمَ بُهْتَانًا عَظِيمًا} [النساء: 154- 156]. إلى آخر ما جاء في بيان ما كان من أمر هؤلاء في نقضهم لميثاقهم مع الله عز وجل، فالله سبحانه وتعالى يخبرنا بأنه أخذ ميثاقًا -أي: عهدًا- مغلظًا قويًّا موثقًا على بني إسرائيل أن يؤمنوا به وحده، وأن يلتزموا بشرعه، وأن يهتدوا بهديه، وأن يتخلّقوا بالأخلاق الربانية، وأن يحملوا هذه الرسالة إلى غيرهم، وأن يكونوا مثلًا لورثة الأنبياء وحملة الرسالات، فلم يكونوا أُمناء على هذا الميثاق.
3. النقباء الذين بعثهم الله:
ويقول ربنا: {وَبَعَثْنَا مِنهُمُ اثْنَيْ عَشَرَ نَقِيبًا} بعث من بني إسرائيل اثني عشر نقيبًا؛ لأنهم كانوا اثني عشر سبطًا من الأسباط، فاختار من كل سبط من بني إسرائيل واحدًا يكون مسئولًا عنهم وشاهدًا عليهم، ووسيلة وواسطة بين موسى عليه السلام وهؤلاء؛ ليحمل هؤلاء النقباء الرسالة إلى قومهم، وليشرفوا عليهم، وليرفعوا لموسى عليه السلام مطالبهم، فهذا النقيب هو شاهد عليهم، ومبلغ للرسالة لهم، والمسئول عن مصالحهم وعن أمورهم، لكن هذا النقيب وهؤلاء النقباء بعثهم الله عز وجل حيث أمر نبيه موسى أن يختار منهم هذا العدد، فهل هؤلاء النقباء كانت مهمتهم كما ذكرنا أن يكونوا مشرفين على من يتبعهم من بني إسرائيل؛ ليكونوا واسطة بينهم وبين موسى عليه السلام يعلمونهم ويفقهونهم ويرفعون شكايتهم، ويبحثون عن مصالحهم، فهم رؤساء على قومهم، أو أن هؤلاء النقباء اختارهم الله سبحانه وتعالى بتكليف موسى أن يختارهم؛ ليرسلهم ليعرفوا حقيقة من يقيمون في بيت المقدس.
4. جزاء من وفى بعهده وعاقبة من خان:
{وَقَالَ اللّهُ إِنِّي مَعَكُمْ لَئِنْ أَقَمْتُمُ الصَّلاَةَ وَآتَيْتُمُ الزَّكَاةَ وَآمَنتُم بِرُسُلِي وَعَزَّرْتُمُوهُمْ وَأَقْرَضْتُمُ اللّهَ قَرْضًا حَسَنًا} وقال الله لهم: إني معكم أي: معكم بحفظي وتأييدي وتسديدي إن أديتم الأمانة وحملتم الرسالة، ومعنى ذلك أن قول الله تعالى: {وَقَالَ اللّهُ إِنِّي مَعَكُمْ} هذا خطاب للنقباء من أن الله سبحانه وتعالى بعثهم، وقال لهم: إني معكم بتأييدي وحفظي، وأيضًا يمكن أن يكون هذا خطابًا لبني إسرائيل: {وَلَقَدْ أَخَذَ اللّهُ مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَآئِيلَ وَبَعَثْنَا مِنهُمُ اثْنَيْ عَشَرَ نَقِيبًا وَقَالَ اللّهُ} لبني إسرائيل {إِنِّي مَعَكُمْ}.
قلنا بأن: {وَقَالَ اللّهُ إِنِّي مَعَكُمْ} تصلح أن تكون خطابًا للنقباء كما تصلح أن تكون خطابًا لكل بني إسرائيل، والظاهر أن الضمير يعود كما يقولون إلى أقرب مذكور، وأقرب مذكور هم النقباء، وقال الله للنقباء: {إِنِّي مَعَكُمْ لَئِنْ أَقَمْتُمُ الصَّلاَةَ وَآتَيْتُمُ الزَّكَاةَ} إلى آخر هذه الأمور المذكورة في الآية، لو أننا تدبرنا لوجدنا أنها تتكون من خمسة أمور: إقامة الصلاة، إيتاء الزكاة، الإيمان بالرسل، نصرة هؤلاء الرسل، إقراض الله قرضًا حسنًا.
يترتب على ذلك وعد الله لمن قام منهم بهذا الأمر من أنه يكفِّر عنهم السيئات ويدخلهم الجنات التي تجري من تحتها الأنهار، ثم يكون الوعيد لمن كفر وأنكر وتنكر ولم يلتزم بعد هذا البيان من أنه ضل سواء السبيل، ومن ضل سواء السبيل فقد خسر خسرانًا مبينًا، ومصيره -كما يعرف بنو إسرائيل من كتابهم ومن رسولهم أن مصيره- إلى النار وبئس القرار.
فانظروا معي في هذه الأمور الخمسة والتي تبدأ بقوله: {لَئِنْ أَقَمْتُمُ الصَّلاَةَ وَآتَيْتُمُ الزَّكَاةَ}، فهذا قسم من الله سبحانه وتعالى يُقسم بما له من صفات القدرة والعظمة، في مقسم به محذوف تقديره مثلًا: وعزتي وجلالي لئن أقمتم الصلاة وآتيتم الزكاة، وذكر هنا أول ما ذكر إقامة الصلاة، وقد وقفنا عند الفرق بين: “لئن صليتم” وقوله: {لَئِنْ أَقَمْتُمُ الصَّلاَةَ} يمكن للإنسان أن يؤديها حسبما تيسر له، فهي مسألة فردية يؤديها الإنسان المؤمن، لكن الإقامة أمر زائد على مجرد الصلاة، وهذا الأمر هو المقصود معنا في الآية؛ لأن الإقامة تعني بالإضافة إلى أداء الصلاة كاملة الأركان والشروط والآداب، أن تؤدى في جماعة، وكونها تؤدى في جماعة تحتاج إلى إمام وإلى مكان للصلاة يهيّأ، وإلى منظومة متكاملة في بناء المساجد ورفع اسم الله فيها، وألوان من الاستعداد لتخريج أئمة هذه المساجد، وتثقيف الناس بشريعة الله من طباعة، ومن إذاعة، ومن إعلام، ومن أحاديث، ومن أشياء، ومن ألوان من التربية، وإلى كل ما يؤدي إلى أن تقام الصلاة التي هي العمود الأساسي لهذا الدين.
ولهذا جاء التعبير بإقامة الصلاة، والذي لا بد أن نلفت النظر إليه كلما جاءنا مثل هذا التعبير تأكيدًا لهذه الحقيقة، وأن إقامة الصلاة أمر يحتاج إلى تضافر الجهود حتى نبني على هذا المنهج أمة تقيم الصلاة حقًّا كما أراد الله أن تكون، فأول جزء وأول بند في هذا العهد وفي هذا الميثاق هو إقامة الصلاة.
أما الأمر الثاني: فهو إيتاء الزكاة، إيتاء الزكاة المفروضة والزكاة كالصلاة؛ فرضها الله سبحانه وتعالى في كتبه المنزلة على الأمم التي أرسل الله لها الأنبياء؛ لأن الصلاة إصلاح للعلاقة بين العبد والرب، والزكاة في إيتائها إصلاح لعلاقة الناس بعضهم ببعض، وإذا استقامت علاقة الناس بربهم، وعلاقة الناس بعضهم ببعض، فقد انتظم حال هذا الإنسان وأدى رسالته على وجه التمام والكمال، وكان جديرًا بأن يكون خليفة في هذه الأرض؛ ولهذا نرى أن الزكاة تأتي غالبًا بعد إقامة الصلاة، ولا يتسع المقام لذكر ما جاء في ذلك في شرائع الأنبياء، لكن هذا كما نرى في شريعة موسى عليه السلام وفي الميثاق الذي أخذه الله على بني إسرائيل من إقامة الصلاة وإيتاء الزكاة، إيتاء الزكاة دفعُها إلى من يستحقها، وهذا يعني أن الزكاة جزء يقتطع من المال يُعطى لمن يستحقه كما شرع الله عز وجل، ونلاحظ هنا أنه عبّر عن دفع هذا المال بالزكاة؛ لأنه إعلاء وتزكية وتطهير للفرد وللجماعة، وهذا التطهير وهذا المال لا يبقى مع من يريد أن يدفعه، ومن وجب عليه إنما يجب أن يعطيه لمن يستحقه.
أما الأمر الثالث: {وَآمَنتُم بِرُسُلِي} آمنتم برسلي هذا مما يلفت النظر؛ لأنه لم يقل: وآمنتم برسولي وهو موسى عليه السلام وإنما آمنتم برسلي، وهذا يعني أنه لا يكتمل دين هؤلاء إلا بالاعتراف الكامل بمن أرسلهم الله عز وجل رسلًا إلى أقوامهم من آدم عليه السلام إلى محمد صلى الله عليه وسلم.
أما الأمر الرابع في هذا الميثاق وفيما أخذه الله عز وجل: فهو ما جاء في قوله تعالى: {وَعَزَّرْتُمُوهُمْ} فماذا يعني هذا التعزير؟ وهل هو والنصرة سواء؟
يقول الزجاج: العزر في اللغة: الرد، وتأويل عزرت فلانًا أي: فعلت به ما يرده عن القبيح ويزجره عنه؛ ولهذا قال الأكثرون: معنى قوله: {وَعَزَّرْتُمُوهُمْ} أي: نصرتموهم؛ وذلك لأن من نصر إنسانًا فقد رد عنه أعداءه، إذن فمعنى التعزير ليس مجرد النصرة، إنما هي نصرة يبذل فيها المحب والمؤمن بالنبي وبالرسول المرسل إليه كل ما في وسعه من أجل رد أعدائه عنه، كما يقول الرسول محمد صلى الله عليه وسلم: ((ولا يؤمن أحدكم حتى أكون أحب إليه من نفسه وولده ووالده والناس أجمعين)). والنبي أولى بالمؤمنين من أنفسهم، فالتعزير إذن هو جهاد متواصل وعمل مستمر من أجل نصرة النبي وشريعته ورسالته؛ ولهذا اختار كلمة عزرتموهم دون أن يقول: ونصرتموهم؛ ولهذا جاء في القرآن: {إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا * لِتُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُعَزِّرُوهُ وَتُوَقِّرُوهُ وَتُسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلاً} [الفتح: 8- 9].
أما الأمر الخامس: فهو قوله تعالى: {وَأَقْرَضْتُمُ اللّهَ قَرْضًا حَسَنًا} سمى ما يعطيه العبد من الصدقات لله رب العالمين، سمى هذا قرضًا له؛ دفعًا وحثًّا للمتصدقين أن يجودوا وأن يعلموا أن الله سبحانه وتعالى هو الذي يتولى جزاءهم؛ ولذلك تجود نفوسهم وقلوبهم وتفيض أيديهم بالمال؛ لأنهم يدركون أن هذا المال يرجع إلى الله رب العالمين؛ ولذلك قال عز من قائل: {مَّن ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللّهَ قَرْضًا حَسَنًا فَيُضَاعِفَهُ لَهُ أَضْعَافًا كَثِيرَةً وَاللّهُ يَقْبِضُ وَيَبْسُطُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُون} [البقرة: 245] فما أكرم إلهنا!
ويبقى هنا سؤال: {وَأَقْرَضْتُمُ اللّهَ قَرْضًا حَسَنًا} أليست داخلة في قوله: {وَآتَيْتُمُ الزَّكَاةَ} فلماذا أفردها؟ هل هذا من باب التأكيد؟ أو أن نقول: بأن الأول في الزكاة المفروضة والثاني في الصدقات المندوبة، ويكون في ذكر ذلك إعلاء لقيمة هذه الصدقات؛ لأن في المال حقًّا سوى الزكاة، فالزكاة قد لا تكفي حاجات الفقراء والمحتاجين والمساكين، ولا بد إذن أن يجود الخيرون بأموالهم وهذه هي الصدقات المندوبة، صدقات التطوع التي يخرجها أهل الخير، ومن وسع الله عليهم في أرزاقهم؛ جبرًا لكسر أمتهم وأخذًا بيد المحرومين من هؤلاء الفقراء والمساكين.
يبقى لنا في هذه الأمور أن نتساءل لماذا أخر الإيمان بالرسل عن إقامة الصلاة وإيتاء الزكاة، مع أن إقامة الصلاة وإيتاء الزكاة لا يكونان إلا بعد الإيمان بالرسل؟
والجواب عن ذلك: أن اليهود كانوا مقرين بأنه لا بد في حصول النجاة من إقامة الصلاة وإيتاء الزكاة، إلا أنهم كانوا مصرين على تكذيب بعض الرسل، فذكر بعد إقامة الصلاة وإيتاء الزكاة أنه لا بد من الإيمان بجميع الرسل حتى يحصل المقصود، وإلا لم يكن لإقامة الصلاة وإيتاء الزكاة تأثير في حصول النجاة بدون الإيمان بجميع الرسل. بهذا أجاب العلامة الفخر الرازي عن هذا السؤال.
والسؤال الثاني: هو في قوله: {وَأَقْرَضْتُمُ اللّهَ قَرْضًا حَسَنًا} وصف هذا القرض بالحُسن فما معنى أن يكون القرض حسنًا؟
القرضُ لا يكون حسنًا إلا إذا كان قد أقيم على الإخلاص، ولم تَشُبْهُ شائبة الرياء، وألا يكون على طريقة اليهود الذين بدلوا وحرفوا واخترعوا ما يسمى بالربا، فمن أقرض قرضًا وجرّ عليه نفعًا فقد ارتكب جريمة منكرة؛ لأنه أصبح مرابيًا، والذي يرابي لا يتقبل الله منه كما قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللّهَ وَذَرُواْ مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا إِن كُنتُم مُّؤْمِنِين * فَإِن لَّمْ تَفْعَلُواْ فَأْذَنُواْ بِحَرْبٍ مِّنَ اللّهِ وَرَسُولِهِ وَإِن تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُؤُوسُ أَمْوَالِكُمْ لاَ تَظْلِمُونَ وَلاَ تُظْلَمُون} [البقرة: 278- 279].
فلا بد ليكون القرض قرضًا حسنًا أن يؤسس على أساس من الإيمان الصادق الذي لا رياء فيه ولا سمعة، وألا يكون فيه منّ، وأن يكون القصد منه شيئًا حلالًا طيبًا، وألا يكون من ورائه نفع في زيادة مال يأخذه المقرض من المقترض، فهذا قوله: {وَأَقْرَضْتُمُ اللّهَ قَرْضًا حَسَنًا}.
وليعلم من يقرض ومن يخرج ماله طواعية واختيارًا صدقة يؤديها، أنه بذلك يضع هذه الصدقة في يد الإله الكريم الذي يتولى تنمية هذه الصدقة ويربيها كما يربي الواحد منا فرسه الصغير، أو يجعل هذا المال ينمو حتى يراه في الميزان أثقل من جبل أحد، من فعل هذا والتزم ببنود هذا الميثاق كان جديرًا بهذه البشارة التي جاءت في قوله تعالى: {لَّأُكَفِّرَنَّ عَنكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَلأُدْخِلَنَّكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ} فما حقيقة هذا الوعد الكريم؟
أمران وردا في وعد الله عز وجل لمن التزم هذا الميثاق وما جاء به وما جاء فيه، أول الأمرين: وهو تكفير السيئات: {لَّأُكَفِّرَنَّ عَنكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ} السيئة وجمعها سيئات الأمر والعمل السيئ الذي يخالف ما جاء به شرع الله وهدي الله، وكم للإنسان في فترات ضعفه من سقطات وهفوات، منها الكبائر ومنها الصغائر إلا الإشراك بالله رب العالمين، فمن فعل ذلك ومن ورد إلى ربه وهو مرتكب لهذه السيئات، فإن الله يكفر عنه هذه السيئات، فما معنى أنه يكفرها عنه؟
الكفر هو التغطية والستر، ومن هنا سمي الكافر كافرًا، وسمي الزارع الذي يبذر البذر في الأرض ثم يغطيه بالتراب سمي كافرًا، كما جاء في قول الله تعالى: {أَعْجَبَ الْكُفَّارَ نَبَاتُهُ} [الحديد: 20] أي: الزراع، ومعنى ذلك أن الله سبحانه وتعالى يستر هذا الإنسان بين يديه فلا يفضحه بذنوبه وسيئاته على رءوس الأشهاد، وقد سبق أن قلنا: بأنه قد ورد في الحديث: ((من أن الله يدني عبده يقرره بذنوبه يقول له: عبدي فعلت كذا في يوم كذا؟ يقول: نعم يا رب. فعلت كذا في يوم كذا؟ فيقر العبد بكل ذنوبه، ثم يقول له ربه: هأنذا سترتها عليك في الدنيا، وهأنذا أسترها عليك في الآخرة))، فنسأل الله أن يستر ذنوبنا وأن يكفر عنا سيئاتنا، فإذا ما عفا الله سبحانه وتعالى عن هذه السيئات والتي جاء بها العبد يحملها إلى ربه كانت المرحلة التالية أنه يفوز بالرضا والرضوان، يدخله الله عز وجل جنات تجري من تحتها الأنهار.
وتأملوا معي في هذا التعبير القرآني: {وَلأُدْخِلَنَّكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ} الخطاب كما رأينا يتجه إلى بني إسرائيل الملتزمين بهذا الميثاق تشريفًا لهم وتكريمًا، وهو خطاب متواصل بدأه ربنا بعد أن قال: {وَقَالَ اللّهُ} أي: لهم {إِنِّي مَعَكُمْ} بدءًا من قوله: {لَئِنْ أَقَمْتُمُ الصَّلاَةَ وَآتَيْتُمُ الزَّكَاةَ وَآمَنتُم بِرُسُلِي وَعَزَّرْتُمُوهُمْ وَأَقْرَضْتُمُ اللّهَ قَرْضًا حَسَنًا} كله خطاب لهؤلاء المخاطبين تشريفًا -كما قلنا- وتكريمًا؛ ليفهموا عن الله مراده وليعلموا أنهم في محل العناية والرعاية من ذي العزة والجلال.
يبقى {فَمَن كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ مِنكُمْ فَقَدْ ضَلَّ سَوَاء السَّبِيل}؛ ليكون الترهيب بعد الترغيب، فمن كفر بهذه المبادئ وبهذه الأخلاق وبهذه التعاليم، من كفر بالله عز وجل بعد هذا البيان من هؤلاء الذين اصطفاهم الله وفضلهم على العالمين وبعث منهم النقباء، فقد ضل سواء السبيل، وما أعظم هذا التعبير وما أجمله في بيان جزاء من كفر بعد أن تبين له الطريق، فقد انحرف انحرافًا خطيرًا عن وسط الطريق، ومعنى ذلك أنه سار في طرق الشيطان وتخطفته الشياطين فأضلته وأعمته ولعبت به، وهذا كله سوف يؤدي إلى هلاكه ودماره في الدنيا، ثم يبقى له ما يكون هناك في الآخرة من سوء العذاب.
5. تفصيل جزاء الناقضين للميثاق:
يقول ربنا: {فَبِمَا نَقْضِهِم مِّيثَاقَهُمْ لَعنَّاهُمْ وَجَعَلْنَا قُلُوبَهُمْ قَاسِيَةً يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَن مَّوَاضِعِهِ وَنَسُواْ حَظًّا مِّمَّا ذُكِّرُواْ بِهِ وَلاَ تَزَالُ تَطَّلِعُ عَلَىَ خَآئِنَةٍ مِّنْهُمْ إِلاَّ قَلِيلاً مِّنْهُمُ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاصْفَحْ إِنَّ اللّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِين * وَمِنَ الَّذِينَ قَالُواْ إِنَّا نَصَارَى أَخَذْنَا مِيثَاقَهُمْ فَنَسُواْ حَظًّا مِّمَّا ذُكِّرُواْ بِهِ فَأَغْرَيْنَا بَيْنَهُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاء إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَسَوْفَ يُنَبِّئُهُمُ اللّهُ بِمَا كَانُواْ يَصْنَعُون} [المائدة: 13- 14].
يبين الله سبحانه وتعالى لنا ما آل إليه حال بني إسرائيل بعد أن نقضوا عهودهم وخانوا الأمانة، وفعلوا ما قصه الله عز وجل من غدرهم وفجورهم وقتلهم الأنبياء بغير حق، والله سبحانه وتعالى حين يذكر لنا ذلك، يريد أن يقدم للأمة الشاهدة أمة محمد صلى الله عليه وسلم الدرس العملي الواقعي الذي تستبين فيه طريقها، ولتعلم أن الله عز وجل لا يكرم أمة لنسبها أو لحسبها أو لموقعها في الأرض، أو لشرف أهلها ورجالها فيما يعرفه الناس من ألوان الشرف من المفاخر ونحوها، إنما يكرم الله من يكرم ويفضل من يفضل بالالتزام بعهد الله عز وجل.
فهؤلاء اصطفاهم الله عز وجل -كما ذكر في كتابه- واختارهم على العالمين وأنزلهم منازل عالية، لكنهم لم يقدّروا هذا ولم يلتزموا بهدي الله، ولا بكتاب الله، ولا بما جاءهم به رسولهم، ولا بما أخذ عليهم من العهود فخانوا ذلك كله فانتقم الله منهم.
قوله: {فَبِمَا نَقْضِهِم مِّيثَاقَهُمْ لَعنَّاهُمْ وَجَعَلْنَا قُلُوبَهُمْ قَاسِيَةً} أي: بسبب نقضهم لميثاقهم، فهؤلاء نقضوا هذا الميثاق المؤكد، والله سبحانه وتعالى حين يبدأ بهذا السبب إنما يُبين أن هذا وحده في حد ذاته يستحق عليه هؤلاء أن يلعنوا وأن تكون قلوبهم قاسية، والنقض معناه: أن هؤلاء أخذوا يحلون عرى هذا الميثاق عروة عروة إلى أن تم نقض هذا الميثاق بالكامل، وتأمل معي هذا التعبير القرِآني في قوله: {نَقْضِهِم} فالمسألة إذن هنا مسألة تعمُّدٍ، ومسألة إجرام وافتراء واعتداء من لون عجيب؛ لأنه لم يكتف بأن يحل عروة واحدة، وإنما أخذ يومًا بعد يوم وساعة بعد ساعة ووقتًا بعد وقت يحل هذه العقد التي عُقدت كل عقدة منها تمثل جانبًا من جوانب هذا الميثاق.
ولهذا قال: {لَعنَّاهُمْ} أي: أبعدناهم وطردناهم من رحمتنا، والويل لمن طُرد من رحمة الله؛ لأنه سوف يمضي حياته ولحظات عمره شقيًّا، تعسًا، محرومًا من توفيق الله ومن فضل الله ومن خير الله، ولعلنا في هذا نستطيع أن ندرك سر تعبيرات السلف عن معنى اللعنة، فيقول عطاء: {لَعنَّاهُمْ}: طردناهم وأبعدناهم من رحمتنا عقوبة لهم. وعن ابن عباس رضي الله عنهما: {لَعنَّاهُمْ} أي: عذبناهم بضرب الجزية عليهم. أو كما يقول مقاتل: المعنى مسخناهم قردة وخنازير. ولكن يبدو أن ما قاله عطاء هو أولى بالقبول، وأن اللعن يعني: الطرد والإبعاد من رحمة الله سبحانه وتعالى.
{وَجَعَلْنَا قُلُوبَهُمْ قَاسِيَةً} قسوة القلب تنشأ من انحلال الإنسان المؤمن الذي آمن في أي دين من الأديان عبر مراحل الرسالات إلى أن خُتمت هذه الرسالات بمحمد صلى الله عليه وسلم، تقسو القلوب بتركها لما أخذ الله عليها من العهود، بتفريطها في حدود الله وشرع الله وهدي الله، ففي كل يوم تجف هذه القلوب ويغيض فيها معين الإيمان حتى تصل إلى مرحلة من التكلس والتيبس، فتكون لذلك قاسية، لا تتأثر بموعظة ولا ينفع فيها حديث.
وانظر إلى حال أناس يذكرون بالله عز وجل أو يتلون كلام الله سبحانه وتعالى، فلا تهتز فيهم شعرة ولا يتحرك فيهم وجدان {وَجَعَلْنَا قُلُوبَهُمْ قَاسِيَةً}، يقول ابن عباس رضي الله عنهما: قاسية أي: يابسة غليظة تنبو عن قبول الحق ولا تلين. وقيل: المراد سلبناهم التوفيق واللطف الذي تنشرح به صدورهم؛ حتى ران على قلوبهم ما كانوا يكسبون. وقرأ حمزة والكسائي: “وجعلنا قلوبهم قسية”. ومعنى “قسية”: قاسية، أو بمعنى أنها “رديّة” من قولهم: درهم قسي إذا كان مغشوشًا، وهو أيضًا من القسوة؛ لأن المغشوش فيه يبس وصلابة.
{يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَن مَّوَاضِعِهِ} نقول: بأن هذا هو أخطر ما يُبتلى به أو ما ابتلي به هؤلاء، في أنه نظرًا لقسوة قلوبهم، وعدم انصياعها لأوامر الله ونواهيه، وعدم تأثرها بأي موعظة لم يمتنعوا عن تحريف الكلم عن مواضعه.
{الْكَلِمَ} هو كلام الله سبحانه وتعالى، وتحريفه عن مواضعه: إما بحذفه، أو باستبداله بكلمات أخرى، أو بتأويله تأويلًا فاسدًا، وهؤلاء قد صنعوا ذلك كله، حرفوا الكلم عن مواضعه، غيروه وبدلوه، وأخفوه ولم يظهروه، وأولوه تأويلًا فاسدًا، وأُضيف إلى هذا أنهم نسوا حظًّا مما ذكروا به أي: تركوا نصيبًا وافيًا مما ذكروا به على لسان رسولهم، ومما أوحاه الله إلى رسولهم، ومما قاله المخلصون فيه، فهم نظرًا لقسوة قلوبهم لم يلتفتوا إلى ما ذكروا به؛ ولذلك قال: {وَنَسُواْ حَظًّا} والنسيان معناه عدم التذكر، ومعنى هذا أنهم تركوا ما ذكِّروا به، وهذا الترك كأنهم وصلوا إلى مرحلة من النسيان والسهو والغفلة لا يلتفتون إلى الوعاظ، وإلى الكلمات النورانية التي يأتي بها الوحي، وإلى ما يقوله الأنبياء من دعوتهم لهؤلاء لسعادتهم في الدنيا والآخرة.
ولعلك تلقى أناسًا كثيرين تحدثهم فيما ينفعهم في دينهم، وفي دنياهم فيُخيّل إليك أنك تحدث قومًا وقعوا في السكر إلى نهايته، وهم كأنهم مغيبون لا يسمعون، وإن سمعوا وتأثروا فإنما هو تأثر مؤقت ما هي إلا لحظات أو أوقات لا تطول؛ حتى ينتكسوا وحتى يرتكسوا وحتى يعودوا إلى ما كانوا فيه من عصيان الله ومخالفة أمره، فهم على حال من السهو والغفلة يؤدي بهم هذا إلى أن يرتكبوا الكثير مما يغضب الله سبحانه وتعالى.
فالتعبير هنا بالنسيان تعبير له دلالته ومعناه ومغزاه؛ لأن هذا النسيان هو سبب البلاء، هذا النسيان هو الذي يؤدي إلى ترك أوامر الله وعدم الالتزام بهدي الله، لكن لو أن الإنسان الذي ذُكِّر بقي ذاكرًا لما يذكر به، بقي هذا الذي يستمع إليه يعتمل في نفسه وقلبه وشعوره وفؤاده ويحرك كوامن خوف الله فيه، فيرنو إلى ما يصلحه، ويرى أن ما ذكر به فيه الخير كل الخير سوف يبقى عاملًا بما دُعي إليه من التزام بهدي الله وهدي رسوله، هؤلاء بنو إسرائيل حرفوا الكلم عن مواضعه، ونسوا حظًّا مما ذكروا به فألقوه ولم يعملوا به ولم يلتفتوا إليه؛ ولهذا لا تستعجب إذا ما رأيت هؤلاء على حال من الخيانة.
يقول ربنا: {وَلاَ تَزَالُ تَطَّلِعُ عَلَىَ خَآئِنَةٍ مِّنْهُمْ إِلاَّ قَلِيلاً مِّنْهُمُ} [المائدة: 13]. بعدما ذكر من حال هؤلاء في تحريفهم للكلم عن مواضعه ونسيانهم لحظ عظيم كبير مما ذكروا به؛ دلالة على أن هذا الأمر استمر فيهم جيلًا بعد جيل، وانتقل من أسلافهم من بعد موسى عليه السلام بل في عهد موسى عليه السلام، وتواصل عبر الأجيال والقرون إلى أن كان هؤلاء المعاصرون لرسول الله صلى الله عليه وسلم فعاشوا أيضًا يحرفون الكلم عن مواضعه، ويخفون كلام الله، ويبدلون كلام الله، ولم يرتدعوا بما يذكرون به، ولم ينظروا بعين الإنصاف إلى هذا الرسول الكريم محمدٍ صلى الله عليه وسلم وهم يرون صدق لهجته وصدق حديثه، وما يشع به وجهه الشريف من نور النبوة بكل ما يعنيه ذلك من سعادة لبني الإنسان.
لكن هؤلاء ساروا على طريق أسلافهم، فكان حالهم كما ذكر الله عز وجل: {وَلاَ تَزَالُ تَطَّلِعُ عَلَىَ خَآئِنَةٍ مِّنْهُمْ إِلاَّ قَلِيلاً مِّنْهُمُ} أي: أن هؤلاء مستمرون على خيانتهم وغدرهم، والله عز وجل يطلع نبيه صلى الله عليه وسلم على خيانة هؤلاء.
{وَلاَ تَزَالُ تَطَّلِعُ عَلَىَ خَآئِنَةٍ مِّنْهُمْ} أي: لا تزال تطلع على جماعة خائنة منهم، أو ولا تزال تطلع على خيانة عظيمة رهيبة من هؤلاء القوم، وهذا هو الذي يذكره التاريخ، فهؤلاء مكروا وغدروا برسول الله صلى الله عليه وسلم وتمالئوا على الفتك به والتخلص منه.
وما زلنا نذكر موقفهم حين ذهب إليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم بحكم العهد الذي بينه وبينهم أن يكونوا معه في دفع دية قتيلين قتلهما عبد الله بن الحضرمي، وهو لا يعلم أن مع هذين الرجلين عهد أمان من رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا: هذه فرصة وتواصوا فيما بينهم أن يصعد واحد منهم إلى أعلى المنزل، أو البيت الذي يجلس بجوار حائطه رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد أن رحبوا به كل الترحيب، وأظهروا له استعدادهم لأن يشاركوه في ذلك، على أن يلقي واحد منهم حجرًا عظيمًا على رسول الله صلى الله عليه وسلم ليقتله، وبذلك يتخلصون من رسول الله صلى الله عليه وسلم ولكن الله ما كان ليترك رسوله صلى الله عليه وسلم لهؤلاء الغادرين، فأخبره بما دبر القوم، فتركهم وانصرف ولحق به أصحابه، وكان أن أعلنهم بالخروج من المدينة. وهذا الحدث هو الذي نزلت فيه آيات سورة الحشر التي تحفظ.
{فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاصْفَحْ إِنَّ اللّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِين} فما معنى العفو؟ وما الفرق بينه وبين الصفح؟ العفو: عدم مقابلة الإساءة بمثلها، أما الصفح: فهو ترك اللوم والمعاتبة؛ ولذلك قالوا بأن الصفح أعلى رتبة من العفو؛ لأن العفو ترك المقابلة بالمثل ظاهرًا، أما الصفح فهو يتناول السماحة النفسية، واعتبار الإساءة كأن لم تكن في الظاهر والباطن، لكن من المراد بهؤلاء الذين أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بأن يعفو عنهم وأن يصفح؟
يرى بعضهم أن المراد بهم القلة اليهودية التي أسلمت، واستثناها الله بقوله: {إِلاَّ قَلِيلاً مِّنْهُمُ}، وهذا الرأي -كما ترى- رأي مردود وغير مقبول؛ لأن الإسلام يجبّ ما قبله فلا حاجة بعد إسلامهم إلى عفو وإلى صفح، وإنما يمكن أن يقال: بأن العفو والصفح هو من أعظم أخلاق الإسلام في أن هذا العفو والصفح هو الإجابة العملية لمكر هؤلاء الماكرين.
وهناك من يقول: بأن هذا إنما كان مؤقتًا، وقد نسخ بقول الله تعالى: {قَاتِلُواْ الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِاللّهِ وَلاَ بِالْيَوْمِ الآخِرِ وَلاَ يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللّهُ وَرَسُولُهُ وَلاَ يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ حَتَّى يُعْطُواْ الْجِزْيَةَ عَن يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُون} [التوبة: 29] وإما بقوله: {وَإِمَّا تَخَافَنَّ مِن قَوْمٍ خِيَانَةً فَانبِذْ إِلَيْهِمْ عَلَى سَوَاء إِنَّ اللّهَ لاَ يُحِبُّ الخَائِنِين} [الأنفال: 58].
ولكن نحن لا نلجأ للنسخ إلا إذا تعذّر الجمع، والجمع هنا ممكن في أن الإسلام هو دين السلام إذا كان الأمر قاصرًا على مجرد الحقد والحسد وتدبير المؤامرات دون أن يخرج هذا في واقع عملي، هنا يكون العفو ويكون الصفح ويكون الإحسان، فلعل العفو والصفح والإحسان، لعل هذه الأمور تكون من الوسائل التي تدعو هؤلاء وأمثالهم إلى الاحتماء بحمى هذا الدين والانضواء تحت رايته، وبهذا استطاع الإسلام أن يغزو الأرض كلها وأن ينتشر في ربوع الدنيا، ويبقى أنه إذا لم يكن الأمر مجرد حقد وحسد وخيانة وآلام نفسية تعتمل في نفوس الأعداء، وأصبح الأمر عدوانًا وتعطيلًا ووقوفًا في وجه نور الله ودعوة الله -هنا لا يصلح العفو والصفح والإحسان، إنما لا بد من قول الله تعالى: {قَاتِلُواْ الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِاللّهِ وَلاَ بِالْيَوْمِ الآخِرِ} إلى آخر ما جاء في هذا التوجيه القرآني.
هذا توجيه كما ترى من توجيهات الإسلام لرسول الله صلى الله عليه وسلم، ولمن بعده من أئمة المسلمين وعامة المسلمين وخاصتهم، أن الأمر إذا كان مجرد خلاف وخيانة خاصة بهم لم يتعدَّ أثرها إلا مجرد أمر كانوا قد دبروه، ولم يترتب عليه ضرر، فهؤلاء لا بد أن نتجمل معهم بأخلاق الإسلام من العفو والصفح والإحسان؛ حتى نكون أمثلة عظيمة لهذا الدين.
ختام الآية بقوله: {إِنَّ اللّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِين} يسوقها الله هنا قضية عامة شاملة في أن الله سبحانه وتعالى يحب المحسنين، ومحبة الله للمحسنين بمعنى أن هذا الحب صفة تليق بذات الله وجلاله وكماله وبما يترتب على هذا الحب من الإكرام، فنحن إذن أيها الإخوة نثبت لله سبحانه وتعالى ما وصف به نفسه من المحبة ولا نؤول ذلك بأن نقول: بأن الله يحب المحسنين أي: يكرمهم، وإنما نقول: الله يحبهم حبًّا كما يليق بذاته بجلاله وكماله دون تأويل ولا تعطيل ولا تشبيه ولا تمثيل، وفي الوقت نفسه نثبت لله لازم هذه المحبة من إكرام من يحبهم.
أخبرنا المولى عز وجل بأنه يحب المحسنين، والمحسنون بمعنى: الذين بذلوا قصارى جهدهم في الوصول بأقوالهم وأفعالهم وأحوالهم إلى أعلى قدرات الطاقة البشرية؛ عبودية لله وطاعة لله، وقد جاء في الحديث: ((ما الإحسان؟ قال: أن تعبد الله كأنك تراه فإن لم تكن تراه فإنه يراك)).