Top
Image Alt

أدلة إثبات صفة اليدين لله عز وجل

  /  أدلة إثبات صفة اليدين لله عز وجل

أدلة إثبات صفة اليدين لله عز وجل

وتشتمل على النقاط التالية:

أ. الأدلة من القرآن الكريم, على إثبات صفة اليدين تعالى:

بين رب العزة أن له يدَيْن، وقد أعلمنا بذلك في محكم التنزيل، حيث قال عز وجل لإبليس: {مَا مَنَعَكَ أَن تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ} [ص: 75]، وهذا تقرير واضح ودليل صريح في إثبات هذه الصفة لرب العزة والجلال.

ومن الأدلة أيضًا ما قاله ربنا سبحانه وتعالى تكذيبًا لليهود, حين قالوا: {يَدُ اللّهِ مَغْلُولَةٌ} [المائدة: 64]؛ فكذبهم ربنا سبحانه وتعالى في مقالتهم هذه وقال: {بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ يُنفِقُ كَيْفَ يَشَاء} [المائدة: 64].

كما أعلمنا ربنا في كتابه أن الأرض جميعًا قبضته يوم القيامة والسماوات مطويات بيمينه، وقال عز وجل: {يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ} [الفتح: 10]، وقال: {فَسُبْحَانَ الَّذِي بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُون} [يس: 83]، إلى غير ذلك مما ذكره رب العزة والجلال, مثبتًا لنفسه هذه الصفة كما يليق بجلاله سبحانه وتعالى وكماله.

ب. الأدلة من السنة النبوية, على إثبات صفة اليدين لله تعالى:

جاءت في السنة النبوية أحاديث كثيرة دلت على إثبات يد الله عز وجل, موافقة لما تلونا قبل قليل من تنزيل ربنا عز وجل في كتابه لا مخالفة، وقد نزه الله سبحانه وتعالى نبيه صلى الله عليه وسلم وأعلى درجته, ورفع قدره عن أن يقول إلا ما هو موافق لما أنزل الله عليه من وحيه؛ ولذلك سنذكر هنا -إن شاء الله تعالى- بعضًا من الأحاديث التي ثبتت عن النبي صلى الله عليه وسلم وفيها إثبات صريح لهذه الصفة.

ففي حديث عبد الله بن عمر رضي الله عنه قال: حدثني عمر بن الخطاب رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((التقى آدم وموسى، فقال موسى: أنت الذي خلقك الله بيده، وأسجد لك ملائكته، ونفخ فيك من روحه…)) إلخ الحديث.

وهذا الحديث بهذه الرواية قد ساقه ابن خزيمة في كتاب (التوحيد), كما أخرجه ابن أبي عاصم في كتاب (السنة) بسند آخر أيضًا إلى ابن عمر.

والشاهد من هذا الحديث قول موسى عليه السلام لآدم: ((أنت الذي خلقك الله بيده))، ولذلك في الحديث الذي أخرجه البخاري ومسلم وأبو داود عن أبي هريرة رضي الله عنه, أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((احتج آدم وموسى -عليهما السلام- فقال موسى: يا آدم, أنت أبونا, خيبتنا وأخرجتنا من الجنة؟ فقال آدم: يا موسى, اصطفاك الله بكلامه, وخط لك التوراة بيده, أتلومني على أمر قدره الله عليّ قبل أن يخلقني بأربعين سنة؟ قال: فحج آدم موسى، فحج آدم موسى -عليهما السلام))، أيضًا هذا الحديث بهذا النص صريح، وفيه أن موسى عليه السلام قال: ((يا آدم, أنت أبونا, خيبتنا وأخرجتنا من الجنة؟ فقال آدم: يا موسى, اصطفاك الله بكلامه، وخط لك التوراة بيده)).

فلا شك أن هذين الحديثين يدلان على ثبوت صفة اليد لله عز وجل, وقد ذكرهما -أي: الحديثين- نبيان من أنبياء الله سبحانه وتعالى.

وهناك أحاديث أخر كثيرة تؤيد هذا وتثبته، وقد ساقها ابن خزيمة -رحمه الله- في كتابه (التوحيد), ومعظمها في (صحيح البخاري) و(صحيح مسلم) وسائر كتب السنن، ومن ذلك ما رواه بإسناده من حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((لما خلق الله الخلق كتب بيده على نفسه: إن رحمتي تغلب غضبي)).

وفي رواية أيضًا عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((لما خلق الله الخلق, كتب كتابًا وجعله فوق العرش: إن رحمتي تغلب غضبي)).

وكذلك أيضًا مما يدل على ثبوت هذه الصفة من السنة حديث أبي هريرة رضي الله عنه, وفيه يقول: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((يقبض الله الأرضَ يوم القيامة, ويطوي السماء بيمينه، ثم يقول: أنا الملك، فأين ملوك الأرض؟)).

وقد ذهب أهل السنة والجماعة -رحمهم الله- إلى مقتضى هذه الأحاديث وما تدل عليه، وهو إثبات صفة اليدين لله على الحقيقة كما يليق بجلال ربنا سبحانه وتعالى وكماله، وقد عقد الإمام البخاري -رحمه الله- في صحيحه في كتاب “التوحيد” بابًا بعنوان: باب قول الله تعالى: {لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ} [ص: 75].

قال ابن حجر -رحمه الله- في شرحه: قال ابن بطال: في هذه الآية إثباتُ يدين لله, وهما من صفات ذاته.

2. تأويل المعطلة لليدين، والرد عليهم:

ويشتمل هذا العنوان على ما يلي:

أ. ذكر قول المعطلة في ذلك:

وهذا أمر مهم؛ لأننا بعد أن بيّنّا الصواب من القرآن والسنة, لا بد أن نتعرض لمنهج المخالفين ونرد عليهم؛ حتى لا يأتي أحد منهم بعد ذلك فيُدخل على الناس بعضًا من هذا الكلام المفترى.

ذهب نُفاة الصفات إلى تأويل ما ورد في الآيات السابقة والأحاديث كذلك، فقالوا: إن المراد باليد النعمة أو القدرة. وهذا باطل, وقد رد عليهم في ذلك أئمة أهل السنة والجماعة.

ب. إبطال أهل السنة والجماعة لتأويلات النفاة:

نبدأ بهذا الرد القوي لإمام من أئمة أهل السنة والجماعة, وهو الإمام أبو الحسن الأشعري -رحمه الله- وبدأنا بردّه؛ لأن بعض المنتسبين إليه اليوم لا يقولون بقوله الأخير والصحيح في هذه المسألة، وهو -رحمه الله- قد أثبت صفة اليدين لله عز وجل في كتابه (الإبانة) وفي (مقالات الإسلاميين) في ذكر جملة من أقوال أهل الحديث، أو ما عليه أهل السنة والجماعة، وكذلك في “رسالته إلى أهل الثغر”.

ومما قال في كتابه (الإبانة): قال تعالى: {بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ} وجاء عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: ((كلتا يديه يمين))…, وليس يجوز في لسان العرب ولا في عادة أهل الخطاب أن يقول القائل: عملت كذا بيديَّ ويعني به النعمة، وإذا كان الله عز وجل إنما خاطب العرب بلغتها, وما يجري مفهومًا في كلامها ومعقولًا في خطابها، وكان لا يجوز في خطاب أهل اللسان أن يقول القائل: فعلت بيدي ويعني النعمة -بطَلَ أن يكون معنى قوله تعالى: {بِيَدَيَّ} النعمة؛ وذلك أنه لا يجوز أن يقول القائل: لي عليه يديَّ, بمعنى: لي عليه نعمتيَّ.

ومن دافعنا عن استعمال اللغة -أي: لم يوافقنا ودفع قولنا- ولم يرجع إلى أهل اللسان فيها, دُوفع عن أن تكون اليد بمعنى النعمة؛ إذ كان لا يمكنه أن يتعلق في أن اليد النعمة إلا من جهة اللغة، فإذا دفع اللغة لزمه ألا يفسر القرآن من جهتها، وألا يثبت اليد نعمة من قبلها -وهذا إلزام قوي لهؤلاء- لأنه إن رُوجع في تفسير قوله تعالى: {بِيَدَيَّ} نعمتيّ، فليس المسلمون -على ما ادعى- متفقين، وإن روجع إلى اللغة فليس في اللغة أن يقول القائل: بيديَّ يعني نعمتيّ، وإن لجأ إلى وجه ثالث -بعد أن فقد اللغة والتفسير الصحيح- سألناه عنه ولن يجد له سبيلًا.

ثم قال بعد ذلك -رحمه الله-: مسألة: ويقال لأهل البدع: ولمَ زعمتم أن معنى قوله تعالى: {بِيَدَيَّ} نعمتي؟ أزعمتم ذلك إجماعًا أو لغةً؟ فلا يجدون ذلك إجماعًا, ولا في اللغة.

وإن قالوا: قلنا ذلك من القياس, قيل لهم: ومن أين وجدتم في القياس أن قوله تعالى: {بِيَدَيَّ} لا يكون معناه إلا نعمتيّ؟ ومن أين يمكن أن يعلم بالعقل أن تفسير كذا كذا, مع أنا رأينا الله عز وجل قد قال في كتابه العزيز, الناطق على لسان نبيه صلى الله عليه وسلم: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِن رَّسُولٍ إِلاَّ بِلِسَانِ قَوْمِهِ} [إبراهيم: 4]؟ نحن رأينا ذلك وعلمناه من كتاب ربنا، وقد ذكر ربنا سبحانه وتعالى كثيرًا من الآيات حول هذا المعنى كقوله: {لِّسَانُ الَّذِي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِيٌّ وَهَـذَا لِسَانٌ عَرَبِيٌّ مُّبِين} [النحل: 103]، ولو كان القرآن بلسان غير العرب لما أمكن أن نتدبره، ولا أن نعرف معانيه إذا سمعناه، فلما كان من لا يحسن لسان العرب لا يحسنه، وإنما يعرفه العرب إذا سمعوه على أنهم إنما علموه؛ لأنه بلسانهم نزل، وليس في لسان القوم المؤولة ما ادعوه.

ثم قال -رحمه الله-: وقد اعتل معتل بقول الله تعالى: {وَالسَّمَاء بَنَيْنَاهَا بِأَيْدٍ} [الذاريات: 47]، قالوا: الأيد: القوة؛ فوجب أن يكون معنى قول الله تعالى: {ﯤ} بقدرتي.

قيل لهم: هذا التأويل فاسد من وجوه:

منها: أن “الأيد” ليس جمعًا لليد؛ لأن جمع يد “أيدي”، وجمع اليد التي هي نعمة “أيادي”، وإنما قال الله تعالى: {لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ}؛ فبطل بذلك أن يكون معنى قول الله تعالى: {بِيَدَيَّ} هو معنى قوله سبحانه وتعالى: {بَنَيْنَاهَا بِأَيْدٍ}.

وأيضًا, فلو كان أراد القوة لكان معنى ذلك بقدرتيّ، وهذا ناقضٌ لقول مخالفنا وكاسر لمذهبهم؛ لأنهم لا يثبتون قدرة واحدة، فكيف يثبتون قدرتين -وهذه لفتة علمية جميلة من أبي الحسن الأشعري -رحمه الله- وهو يبطل قول الجهمية والمعتزلة ومَن سلك سبيلهم في تأويل الصفات, فهو يقول للجهمية والمعتزلة: أنتم لا تثبون قدرة صفة لله عز وجل, فكيف تؤولون اليدين بالقدرتين, وأنتم لا تثبتون قدرة أصلًا؟

ثم قال بعد ذلك -رحمه الله-: وأيضًا فلو كان الله تعالى عنى بقوله: {لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ} القدرة؛ لم يكن لآدم صلى الله عليه وسلم على إبليس مزية في ذلك، والله تعالى أراد أن يُرِيَ إبليس فضلَ آدم صلى الله عليه وسلم عليه, إذ خلقه بيديه دونه، ولو كان خالقًا لإبليس بيديه كما خلق آدم صلى الله عليه وسلم بيده، لم يكن لتفضيله عليه بذلك وجه، وكان إبليس يقول محتجًّا على ربه: فقد خلقتني بيديك كما خلقت آدم صلى الله عليه وسلم بهما، فلما أراد الله تعالى تفضيله عليه بذلك, وقال الله تعالى موبخًا له استكبارَه على آدمَ صلى الله عليه وسلم أن يسجد له: {مَا مَنَعَكَ أَن تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ أَسْتَكْبَرْتَ أَمْ كُنتَ مِنَ الْعَالِين} [ص: 75]، دل على أنه ليس معنى الآية القدرة، إذ كان الله تعالى خلق الأشياء جميعًا بقدرته، وإنما أراد إثبات يدين, ولم يشارك إبليس آدم صلى الله عليه وسلم في أن خلق بهما -وهذا غاية في الوضوح والبيان.

وسيأتي -إن شاء الله تعالى- أيضًا ذكر شيء مما قاله الإمام ابن القيم -رحمه الله- وهو قريب من هذا، ولكننا ذكرنا قولَ هذا الإمام؛ ليعلم أتباعه اليوم أن هذا هو معتقد أبي الحسن الأشعري، وأنه هو نفسه هو الذي يرد على المبتدعة المؤولة المعطلة، ويبطل قولهم، فما بال أتباعه اليوم ينصرفون عن قوله الصحيح، ويأخذون بالقول المبتدع الذي أبطله هو هذا الإمام, ورد عليه -رحمه الله-؟!

وأيضًا مما قاله أبو الحسن -رحمه الله- ردًّا به على الجهمية, والمعتزلة المؤولة لهذه الصفة الجليلة: فصل: وليس يخلو قوله تعالى: {لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ} أن يكون معنى ذلك إثبات يدين نعمتين، أو يكون معنى ذلك إثبات يدين جارحتين -تعالى الله عن ذلك- أو يكون معنى ذلك إثبات يدين قدرتين، أو يكون معنى ذلك إثبات يدين لَيْسَتَا نعمتين ولا جارحتين ولا قدرتين, لا توصفان إلا كما وصف الله تعالى.

فلا يجوز أن يكون معنى ذلك نعمتين؛ لأنه لا يجوز عند أهل اللسان أن يقول القائل: عملت بيدي وهو نعمتيّ.

ولا يجوز عندنا ولا عند خصومنا أن نعني جارحتين، ولا يجوز عند خصومنا أن يعني قدرتين، وإذا فسدت هذه الأقسام الثلاثة صح القسم الرابع, وهو أن معنى قول الله تعالى: {بِيَدَيَّ} إثبات يدين ليستا جارحتين ولا قدرتين ولا نعمتين، ولا يوصفان إلا بأن يقال: إنهما يدان ليستا كالأيدي، فالله عز وجل كما أثبت لنفسه يدين، نقول بذلك، ونقول بأن يدي رب العزة والجلال ليستا كالأيدي؛ لأنه سبحانه وتعالى: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} [الشورى: 11]، كما أخبر عن نفسه، فما اتصف به سبحانه وتعالى يليق بجلاله وكماله عز وجل.

وننتقل الآن إلى الإمام ابن القيم -رحمه الله- في رده على هؤلاء المعطلة المؤولة، وقد تعرض لهذه الصفة في كتابه (الصواعق المرسلة), وفي (المختصر) الذي اختصره الموصلي -رحمه الله- يقول:

قال الله تعالى: {مَا مَنَعَكَ أَن تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ} وقال: {بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ} ثم قال: قالت الجهمية: مجاز في النعمة أو القدرة -أي: اليد الواردة في هذه الآيات مجاز في النعمة أو القدرة- ثم قال -رحمه الله-: وهذا باطل من وجوه:

أحدها: أن الأصل الحقيقة، فدعوى المجاز مخالفة للأصل.

الثاني: أن ذلك خلاف الظاهر؛ فقد اتفق الأصل والظاهر على بطلان هذه الدعوى.

الثالث: أن مدعي المجاز المعين يلزمه أمور:

الأول: إقامة الدليل الصارف عن الحقيقة, إذ مدعيها -مدعي الحقيقة- معه الأصل والظاهر، ومخالفها مخالفٌ لهما جميعًا.

الثاني: بيان احتمال اللفظ لما ذكره من المجاز لغةً, وإلا كان منشئًا من عنده وضعًا جديدًا.

الثالث: احتمال ذلك المعنى في هذا السياق المعين، فليس كل ما احتمله اللفظ من حيث الجملة يحتمله هذا السياق الخاص.

كذلك أيضًا من الردود على هؤلاء الناس؛ كي نبطل قولهم ما قاله لهم أيضًا الإمام ابن القيم -رحمه الله-: إن اطراد لفظها في موارد الاستعمال -أي: لفظ اليدين- وتنوع ذلك وتصريف استعماله، يمنع المجاز، ألا ترى إلى قوله تعالى: {خَلَقْتُ بِيَدَيَّ} وقوله: {بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ} [المائدة: 64], وقوله: {وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالأَرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّماوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُون} [الزُّمَر: 67]، فلو كان مجازًا في القدرة والنعمة لَم يستعمل منه لفظ يمين -وهذه لفتة أيضًا جيدة، وحجة قوية على هؤلاء الناس- وقوله صلى الله عليه وسلم في الحديث: ((المقسطون عند الله على منابر من نور عن يمين الرحمن، وكلتا يديه يمين))، فلا يقال: هذا يد النعمة والقدرة؛ لأن النعمة والقدرة لا يقال بأن لها يمينًا.

وكذلك ما جاء أيضًا في الحديث الصحيح, في قول النبي صلى الله عليه وسلم: ((يقبض الله سمواته بيده والأرض باليد الأخرى، ثم يهزهن، ثم يقول: أنا الملك))، فهنا هَزَّ وقَبَضَ، وذكر يدين، والنبي صلى الله عليه وسلم لما أخبرهم بذلك جعل يقبض يديه ويبسطهما, تحقيقًا للصفة لا تشبيهًا لها بحال من الأحوال -أي: لا يشبه الله بخلقه- كما قرأ: {وَكَانَ اللّهُ سَمِيعًا بَصِيرًا} [النساء: 134]، ووضع يَدَيْهِ على عينيه وأذنيه؛ تحقيقًا لصفة السمع والبصر، وأنهما حقيقة لا مجاز.

وأضعاف أضعاف ذلك من النصوص الصحيحة الصريحة, في ثبوت هذه الصفة لرب العزة والجلال، وقد سبق أن ذكرنا بعضًا من الآيات القرآنية والأحاديث النبوية في ذلك، ومنها مثلًا: ((إن الله يبسط يدَه بالليل؛ ليتوب مسيء النهار))، وقوله: ((تقبلها الله بيمينه))، يعني: صدقة المتصدق, والشاهد: أن كل هذا التصريف, وهذا التنوع والاستعمال يدل على أنها يد حقيقةً.

وختامًا لهذه الردود التي ذكرناها، وقد تركنا أيضًا الكثيرَ منها؛ خشيةَ التطويل في ذلك، وذكرنا أهم ما يمكن أن يستند إليه وأن يعرف في هذا الأمر؛ حتى يُعرف الحق والصواب من الباطل -نقول: قد كان أكثر قسم النبي صلى الله عليه وسلم إذا أقسم أن يقول: ((لا, والذي نفس محمد بيده))، فهل يليق أن تكون اليد هنا بمعنى النعمة؟ وقول النبي صلى الله عليه وسلم يصدق كتاب الله سبحانه وتعالى, ولو حاولنا أن نذكرَ كلامَ السلف في ذلك لطال جدًّا، ويكفي ما ذكرنا من كلمات للإمام أبي الحسن الأشعري -رحمه الله- وما ذكره الإمام ابن القيم، وقد ذكر غيرهما ردودًا كثيرة على هؤلاء المعطلة، ونأمل بعد ما ذكرنا وأشرنا وتحدثنا أن يتأمل هؤلاء الناس فيما ذكرناه من ردود، ويفقهوا أن قولهم بأن المراد باليد النعمة، كَلَامٌ بَاطِلٌ لا أَصْلَ له بحالٍ مِن الأحوالِ.

ج. بيان خطأ أهلِ التأويل في التنظير بين قول الله تعالى: {لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ}، وبين قوله سبحانه وتعالى: {مِمَّا عَمِلَتْ أَيْدِينَا أَنْعَامًا} [يس: 71].  

الذي يدفعنا إلى بيان الفرق بين قوله سبحانه وتعالى: {لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ} وبين قوله: {مِمَّا عَمِلَتْ أَيْدِينَا} أن المعطلة المؤولة قالوا بأن {لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ} مثل: {مِمَّا عَمِلَتْ أَيْدِينَا أَنْعَامًا} أي: إنها بالقوة أو بالقدرة، وقد رد عليهم أئمة أهل السنة والجماعة في ذلك، ومن هؤلاء الإمام ابن القيم -رحمه الله- في (الصواعق المرسلة).

ولكي نبين الفرق بين قوله تعالى: {لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ} وبين قوله: {مِمَّا عَمِلَتْ أَيْدِينَا}, وأن كل آية لها معنًى يختلف عن الآخر، نقول: لفظ اليد جاء في القرآن الكريم على ثلاثة أنواع: جاء مفردًا, وجاء مثنًّى, وجاء مجموعًا، فالمفرد كقوله تعالى: {بِيَدِهِ الْمُلْكُ} [المُلك: 1], والمثنى كقوله: {خَلَقْتُ بِيَدَيَّ}, والمجموع كقوله: {عَمِلَتْ أَيْدِينَا}, فحيث ذكر اليد مثناةً أضاف الفعل إلى نفسه بضمير الإفراد، وعَدَّى الفعل بالباء إليهما، فقال: {خَلَقْتُ بِيَدَيَّ}, وحيث ذكرها مجموعة أضاف العمل إليها ولم يعدّ الفعل بالباء، فهذه لا شك ثلاثة فروق.

فلا يحتمل قوله تعالى: {خَلَقْتُ بِيَدَيَّ} من المجاز أبدًا ما يحتمله قوله: {مِمَّا عَمِلَتْ أَيْدِينَا}, ولا يفهم كل أحد أن قوله تعالى: {لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ} هو مثل قول الله سبحانه وتعالى: {مِمَّا عَمِلَتْ أَيْدِينَا} ومثل هذا قوله سبحانه: {فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ} [الشورى: 30].

أما قوله عز وجل: {خَلَقْتُ بِيَدَيَّ} فلو كان المراد منه مجرد الفعل فقط، لم يكن لذكر اليد بعد نسبة الفعل إلى الفاعل معنى، فكيف وقد دخلت عليها الباء؟ فكيف إذا ثنيت؟! إذًا: هناك فروق ودلالات تدل عليها: {خَلَقْتُ بِيَدَيَّ} تختلف عن قوله: {مِمَّا عَمِلَتْ أَيْدِينَا}.

وسر الفرق في ذلك: أن الفعل قد يُضاف إلى يد ذي اليد, والمراد الإضافة إليه -أي: الفعل قد يضاف إلى من له يد, ويضاف إلى يد ذي اليد والمراد الإضافة إليه- كقول الله تعالى: {بِمَا قَدَّمَتْ يَدَاكَ} [الحج: 10]، أو {فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ}.

وأما إذا أضيف إليه الفعل، ثم عُدي بالباء إلى يده, مفردة أو مثناة، فهو ما باشرته يده بالحقيقة؛ ولهذا قال عبد الله بن عمرو: إن الله عز وجل لم يخلق بيده إلا ثلاثًا: خلق آدم بيده، وغرس جنة الفردوس بيده، وذكر الثالثة وهي: كتب التوراة بيده.

فلو كانت اليد هي القدرة لم يكن لها اختصاص بذلك, ولا كانت لآدم عليه السلام فضيلة بذلك على شيء مما خُلق بالقدرة، وقد أخبر النبي صلى الله عليه وسلم ((أن أهل الموقف يأتونه يوم القيامة فيقولون له: يا آدم أنت أبو البشر, خلقك الله بيده، ونفخ فيك من روحه، وأسجد لك ملائكته، وعلمك أسماء كل شيء؛ فاشفع لنا إلى ربك))، فذكروا أربعة أشياء كلها من خصائص آدم عليه السلام.

وهذا التخصيص إنما فهم من قوله سبحانه وتعالى: {مَا مَنَعَكَ أَن تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ}، فلو كانت {خَلَقْتُ بِيَدَيَّ} مثل قول الله تعالى: {مِمَّا عَمِلَتْ أَيْدِينَا}؛ لكان هو وجميع المخلوقات, ومنها الأنعام والحشرات والحيوانات في ذلك سواء، فلما فهم المسلمون أن قوله سبحانه: {مَا مَنَعَكَ أَن تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ} موجب له تخصيصًا وتفضيلًا, بكونه مخلوقًا باليدين على من أُمر أن يسجد له، وفهم ذلك أهل الموقف حين جعلوه من خصائصه عليه السلام كانت التسوية بينه وبين قوله تعالى: {أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا خَلَقْنَا لَهُمْ مِمَّا عَمِلَتْ أَيْدِينَا أَنْعَامًا} [يس: 71] خطأً مَحْضًا، فليس هناك تسوية بين قوله تعالى: {خَلَقْتُ بِيَدَيَّ} وبين قوله تعالى: {مِمَّا عَمِلَتْ أَيْدِينَا}، بل بينهما فرق، وقول المعطلة بأنه لا فرق بينهما كلام باطل ليس عليه دليل، وهذه لغة العرب تؤكد ذلك وتبينه.

error: النص محمي !!