أدلة بطلان التفويض سمعًا وعقلًا
أود أن أذكر الأدلة على بطلان التفويض، وإذا بيَّنت بطلانه مع ما ذكرته في العنصر الأول من لوازم باطلة على مذهب التفويض، يظهر لطالب العلم أن سلف هذه الأمة يستحيل أن يقولوا بالتفويض، وسأتكلم في نقطتين:
النقطة الأولى: أدلة بطلان التفويض سمعًا:
وأقول في هذه النقطة: إن الله -تبارك وتعالى- تكفل بحفظ كتابه الكريم فقال: {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُون} [الحجر: 9] وحفظه يشمل حفظ لفظه من التحريف والتبديل والزيادة والنقصان، وهذا -بحمد الله- مشهور معلوم لا يتطرق الشك في ثبوته، ولا بحرف واحد من حروف المصحف، كما يشمل أيضًا حفظ معانيه، وذلك حتى يحفظ الله للأمة ما أراده منهم -سبحانه- بسبب إنزال كتابه.
ومن صور حفظ الله عز وجل لكتابه وأسرار صونه، أن أودع الله فيه من الأدلة ما يقطع به الطريق على من رمى العدول به عن وجهه، فإذا هَمّ مبطل بالاستدلال بآية من آياته على بدعته، ظلمًا وعدوانًا، وتمويهًا وتلبيسًا، لاحت له آية أخرى تقمع همته، وتنقض شبهته، وترد الحق إلى نصابه، بل إن الراسخين في العلم لا يستخرجون مما استدل به على باطله، دليلًا عليه.
وكذلك الحال في سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم فقد حفظها الله -تبارك وتعالى- حفظها لفظًا ومعنى، بما قيد لها من أهل العلم والفقه والرواية في كل جيل، وميَّزوا صحيحها من سقيمها.
وقد تضمنت النصوص الشرعية السمعية، ما يقضي على هذه البدعة من أصولها، ويجتث قواعدها من جذورها، وتنوعت دلالة الكتاب والسنة في ذلك تنوعًا كثيرًا، ومن ذلك النصوص الدالة على البيان. قال الله تعالى: {هَـذَا بَيَانٌ لِّلنَّاسِ} [آل عمران: 138] وقد ذكرت بعض الآيات في ذلك في العنصر الأول.
وكان النبي صلى الله عليه وسلم في غاية الفصاحة والبلاغة وحسن البيان، والله عز وجل لم يستثن شيئًا من كتابه، لم يتحقق فيه وصف البيان، وبالتالي فآيات الصفات سمعًا، أعني من الأدلة الشرعية نستدل، فآيات الصفات سمعًا يجب أن نتدبرها، وأن نعقلها، وأن نعرف معانيها.
أما الأمر الثاني أيضًا: فالنصوص الدالة على تعقل القرآن بوصفه قرآنًا عربيًا، وقد ذكرت في ذلك أيضًا بعض النصوص، والقرآن نزل بلغة العرب حتى نعرف معناه، ونتدبر ما جاء فيه، والله عز وجل في ذلك يقول: {وَكَذَلِكَ أَنزَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا وَصَرَّفْنَا فِيهِ مِنَ الْوَعِيدِ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ أَوْ يُحْدِثُ لَهُمْ ذِكْرًا} [طه: 113].
كما أن كونه عربيًّا يجعلنا نقول بأنه مفهوم المعنى، وهذا سبب لحصول العلم، قال تعالى: {كِتَابٌ فُصِّلَتْ آيَاتُهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لِّقَوْمٍ يَعْلَمُون} [فصلت: 3] وهذه الآيات وغيرها تدل دلالة قطعية على اختيار الله تعالى للغة العرب، بسبب ما أودع فيها من الخصائص البيانية في الدلالة على المعاني المرادة لتكون وعاء لكلام الله سبحانه، يعقله أهل هذا اللسان جريًا على ما هو معهود في لغتهم وتخاطبهم وأساليبهم وتراكيبهم المختلفة.
وهذا الوصف -أعني بأنه عربي مبين- رد بليغ على دعاة التفويض الذين جعلوا بعض كلام الله المنزل باللسان العربي المبين، بمنزلة الألفاظ الأعجمية، والحروف التي لا يدرك منها إلا الصورة والصوت فحسب، أما ما تضمنته هذه الآيات من المعاني من أوصاف جليلة، ومعان شريفة، لا حظ لها عندهم.
أمر آخر أيضًا نستدل به على بطلان التفويض سمعًا؛ وهو: النصوص الدالة على تيسير القرآن الكريم.قال الله تعالى في كتابه: {وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِن مُّدَّكِر} [القمر: 17].
قال الإمام ابن جرير -رحمه الله تبارك وتعالى- في تفسيره لهذه الآية: “ولقد سهلنا القرآن، بيناه وفصلناه للذكر، لمن أراد أن يتذكر ويعتبر ويتعظ، وهوّناه، ولو كان في القرآن المجيد ألفاظ لا يدرك معناها، بيسر وسهولة لما حصل به التذكر والاتعاظ، فكيف بمن زعم بأن ما فيه، أو بأن فيه ما لا يدرك معناه أصلًا، ولا سبيل إليه عقلًا وفهمًا وعلمًا؟ إن ذلك والله لهو عين العسر المنافي لما أخبر الله به في كتابه”.
ولذلك قال الإمام ابن القيم -رحمه الله – عن القرآن وأخبر أنه يسره للذكر، وتيسيره للذكر يتضمن أنواعًا من التيسير:
- تيسير ألفاظه للحفظ.
- تيسير معانيه للفهم.
- تيسير أوامره ونواهيه للامتثال.
ومعلوم أنه لو كان بألفاظ لا يفهمها المخاطب لم يكن ميسرًا له، بل كان معسرًا عليه، فهكذا إذا أريد من المخاطب أن يفهم من ألفاظه ما لا يدل عليه من المعاني، أو يدل على خلافه، فهذا من أشد التعسير، وهو مناف للتيسير، وقد يسر الله عز وجل ألفاظه، ليتيسر فهم معانيه لكافة فئات الأمة، وهذا واضح ومعلوم، ومن قال غير ذلك فقد افترى على رب العالمين سبحانه وتعالى جل في علاه.
وأيضًا من الأدلة السمعية التي تدل على بطلان التفويض والذهاب إليه: النصوص الدالة على التدبر؛ فالله عز وجل أمرنا بتدبر كتابه، ووصف المشتغلين بذلك، وصفهم بأنهم أولو الألباب، قال تعالى : {كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِّيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُوْلُوا الأَلْبَاب} [ص: 29].
قال ابن جرير -رحمه الله تبارك وتعالى: “ليدبروا حجج الله عز وجل التي فيه، وما شرع فيه من شرائعه، فيتعظوا، ويعلموا، ويعملوا به”.
وقد قال الله عز وجل كما ذكرت آنفًا: {أَفَلاَ يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا} [محمد: 24]، والله عز وجل إذا كان قد حض الكفار والمنافقين على تدبره، فكيف لا يكون ذلك لأهل الإيمان، وهذه النصوص تدل على خلاف ما ذهب إليه أهل التفويض.
ومن هنا، نجد أن سلف هذه الأمة اعتنوا بكتاب الله -تبارك وتعالى- عناية فائقة، اعتنوا به تلاوة، وحفظًا، وفهمًا، وتدبرًا، وعملًا. وهذه العناية -والله- كانت لا تفوقها عناية، وكانوا يتعبدون الله تعالى، بتدارسه والبحث فيه كما رغبهم بذلك نبيهم صلى الله عليه وسلم بقوله: ((وما اجتمع قوم في بيت من بيوت الله تعالى، يتلون كتاب الله عز وجل ويتدبرونه بينهم، إلا نزلت عليهم السكينة، وحفتهم الرحمة، وغشيتهم الملائكة، وذكرهم الله فيمن عنده)).
النقطة الثانية: أدلة بطلان التفويض عقلًا:
تداعت النصوص الشرعية على إبطال مذهب التفويض ورفضه، لكونه منهجًا غريبًا دخيلًا على المنهج الإيماني الواضح الصريح المؤسس على العلم والإيمان، ولما كان العقل الصريح السالم من الشبهات والشهوات، يعكس دلالة النقل الصحيح كما تعكس المرآة الصقيلة الصورة.
أقول: تساندت إذًا الأدلة العقلية على إبطال مذهب التفويض، ونقض أسسه ومقدماته، ومن ذلك:
أولًا: استحالة كونه صلى الله عليه وسلم ترك تعليم أمته أسماء الله وصفاته. إن حجر الأساس في مذهب أهل التجهيل، هو منع العلم بدلالة أسماء الله وصفاته، ولما كان العلم بذلك إنما ينال عن طريقه صلى الله عليه وسلم بوصفه رسول رب العالمين، ومعلم الأمة الأول، فقد درجوا على القول بأنه صلى الله عليه وسلم قد ترك هذا الباب دون بيان، واكتفى بإبلاغ الأمة لفظ القرآن، وحدّث ما حدّث به من صفات الباري -جل وعلا- دون أن يفهم الناس بأن مراده بذلك الإثبات، بل هي نصوص تعبدية تلقتها الأمة منه، كما تلقت أعداد الركعات في الصلوات.
وفي الحقيقة هذا كلام باطل نقده كثير من أهل العلم، ومن ذلك ابن تيمية عندما قال: “من المحال في العقل والدين أن يكون السراج المنير الذي أخرج الله به الناس من الظلمات إلى النور، وأنزل معه الكتاب بالحق، ليحكم بين الناس فيما اختلفوا فيه، وأمر الناس أن يردوا ما تنازعوا فيه من أمر دينهم، إلى ما بُعث به من الكتاب والحكمة، وهو يدعو إلى الله وإلى سبيله بإذنه على بصيرة، وقد أخبر الله بأنه أكمل له ولأمته دينهم، وأتم عليهم نعمته.
محال مع هذا أن يكون قد ترك باب الإيمان بالله والعلم به، ملتبسًا مشتبهًا، ولم يميِّز بين ما يجب لله من الأسماء الحسنى والصفات العليا، وما يجوز عليه وما يمتنع عليه، ومن المحال أيضًا أن يكون النبي صلى الله عليه وسلم قد علم أمته كل شيء حتى الخراء، وقال: ((تركتم على المحجة البيضاء، ليلها كنهارها، لا يزيغ عنها بعدي إلا هالك))، وقال فيما صح عنه أيضًا: ((ما بعث الله من نبي إلا كان حقًّا عليه أن يدل أمته على خير ما يعلمه لهم، وينهاهم عن شر ما يعلمه لهم)).
وقال أبو ذر رضي الله عنه: لقد توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم وما طائر يقلِّب جناحيه في السماء، إلا ذكر لنا منه علمًا. ومحال مع تعليمهم كل شيء لهم فيه منفعة في الدين وإن دقت، أن يترك تعليمهم ما يقولونه بألسنتهم، ويعتقدونه في قلوبهم، في ربهم ومعبودهم رب العالمين، الذي معرفته غاية المعارف، وعبادته أشرف المقاصد، والوصول إليه غاية المطالب، بل هذا في الحقيقة هو خلاصة الدعوة النبوية، وزبدة الرسالة الإلهية.
فكيف يتوهم من في قلبه أدنى مسكة من إيمان وحكمة، ألا يكون بيان هذا الباب قد وقع من الرسول على غاية التمام والكمال صلى الله عليه وسلم وإلى هذا الحد، ثبت امتناع كونه صلى الله عليه وسلم ترك تعليم أمته أسماء الله وصفاته، فكيف لم يقع هذا العلم للأمة؟
إن الواسطة بين الرسول صلى الله عليه وسلم والقرون المتعاقبة من أمته، هم أصحابه رضي الله عنهم وهل يمكن أن يكون الصحابة رضي الله عنهم قصروا في هذا الباب؟.
وفي هذا أيضًا يجيب ابن تيمية -رحمه الله- فيقول: ثم إذا كان قد وقع ذلك منه –يعني: من النبي صلى الله عليه وسلم ولم يبيِّن، قال: فمن المحال أن يكون خير أمته وأفضل قرونها، قصروا في هذا الباب، ثم من المحال أيضًا أن تكون القرون الفاضلة، القرن الذي بعث فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم الذين يلونهم، ثم الذين يلونهم، كانوا غير عالمين وغير قائلين في هذا الباب بالحق المبين؛ لأن ضد ذلك إما عدم العلم والقول، وإما اعتقاد نقيض الحق، وقول خلاف الصدق، وكلاهما ممتنع.
أما الأول فلأن من في قلبه أدنى حياة وطلب للعلم، أو نهمة في العبادة، يكون البحث عن هذا الباب والسؤال عنه ومعرفة الحق فيه، هي أكبر مقاصده وأعظم مطالبه، وليست النفوس الصحيحة إلى شيء أشوق منها إلى معرفة هذا الأمر، وهذا أمر معلوم بالفطرة، فكيف يتصور مع قيام هذا المقتضي الذي هو من أقوى المقتضيات أن يتخلف عنه مقتضاه في أولئك السادة في مجموع عصورهم؟! هذا لا يكاد يقع في أبلد الخلق، وأشدهم إعراضًا عن الله، وأعظمهم إكبابًا على طلب الدنيا، والغفلة عن ذكر الله، فكيف يقع في أولئك؟!”.
وأستنتج من هذا الكلام أن شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله- في هذا الباب، بيَّن أن الصحابة رضي الله عنهم عرفوا الحق، ولم يسكتوا عنه؛ لأن السكوت يقع لأحد سببين: الجهل أو كتمان العلم، وكلاهما ممتنع، أو أنهم ليسوا، وأن الصحابة أيضًا ليسوا قائلين بالباطل؛ لأن القول بالباطل يقع أيضًا لأحد سببين: إما الجهل بالحق وإما إرادة ضلال الخلق، وكلاهما ممتنع في حق الصحابة، فلم يبق إلا أن يكونوا قائلين بالحق، وهذا هو المطلوب، فالصحابة رضي الله عنهم هم أشرف طبقة عرفوا معاني القرآن الكريم، وعبدوا ربهم به.
أيضًا من أدلة بطلان التفويض عقلًا: امتناع تأخير البيان عن وقت الحاجة؛ مذهب التفويض في الحقيقة، قام ويقوم على أن المعنى الظاهر من النصوص ليس مرادًا، وفي الحقيقة لا يمكن أبدًا أن يكون النبي صلى الله عليه وسلم يقرأ هذه الآيات، ويُعلِّم أمته هذه النصوص، ثم بعد ذلك ينصرف عن بيان المعنى المراد صلى الله عليه وسلم.
بل إن النبي صلى الله عليه وسلم كان يعرف ما يقول، ويعني ما يقول، ويُعلِّم أصحابه رضي الله عنهم الامتثال لكلام الله، ولكلامه صلى الله عليه وسلم وقد أثنى الله عز وجل على الصحابة، الذين يستمعون القول فيتبعون أحسنه، والنبي صلى الله عليه وسلم لم يكن يفرق في تبليغ الرسالة بين فئة وفئة، أو طبقة وأخرى.
ومن المحال أن يكتم البيان، أو أن يؤخر معاني هذه الكلمات، على هذه الأمة، عن أصحابه رضي الله عنهم.
وفي ذلك يقول الشيخ مرعي بن يوسف الكَرْمي -رحمه الله- ويتحدث عن صفة العلو: “ويجد الناظر في النصوص الواردة عن الله ورسوله في ذلك، نصوصًا تشير إلى حقائق هذه المعاني، ويجد الرسول صلى الله عليه وسلم تارة قد صرح بها مخبرًا بها عن ربه، واصفًا له بها، ومن المعلوم أنه -عليه السلام- كان يحضر في مجلسه الشريف، العالم والجاهل، والذكي والبليد، والأعرابي الجافي، ثم لا يجد شيئًا يُعقب تلك النصوص، مما يصرفها عن حقائقها.
لم يقل صلى الله عليه وسلم سوى ما ذكره، وما أثر عنه صلى الله عليه وسلم في معاني هذه الكلمات، قالها لجميع أمته، وأعلمها لصحابته رضي الله عنهم ولم يكن يحذِّر الناس من الإيمان بما يظهر من كلامه في صفته لربه، من الفوقية، واليدين، ونحو ذلك”.
ونحن علينا أن نلتزم ببيان رسول الله صلى الله عليه وسلم.