أدلة تحريم الخمر، وحد شاربها، ومقدار هذا الحد
ومما لا شك فيه أن الخمرة حرام شربها، وكذا جميع أنواع الممارسات حولها، كالحمل، والاتجار، وغير ذلك، فالكل حرام.
وقد ثبت التحريم بكل من: الكتاب، والسنة المطهرة، وإجماع العلماء بلا خلاف، إلا ما كان من رأي ليس له قيمة، ومن ثم فلا ينبغي الالتفات إليه، ولا يستحق غير الإهمال والاستهجان.
أما الكتاب، فقول الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصَابُ وَالْأَزْلَامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (90) إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَعَنِ الصَّلَاةِ فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ} [المائدة: 90، 91].
حيث أفادت الآية، تحريم الخمر بالأمر الذي يفيد الوجوب، والمتمثل في قول الله تعالى: { فَاجْتَنِبُوهُ }؛ ولذلك عندما سمع عمر بن الخطاب هذه الآية، قال: “انتهينا انتهينا”، وكان دائمًا يناجي الحق -تبارك وتعالى-: “اللهم بين لنا في الخمر بيانًا شافيًا”، حتى نزل قول الله تعالى: { فَاجْتَنِبُوهُ }، فقال: “الآن انتهينا انتهينا”، فعُلم من هذه الآية، أن الخمر محرَّم بنص تلك الآية.
أما السنة المطهرة -كدليل على تحريم الخمر- فالأدلة فيها كثيرة ومستفيضة، وهي من الكثرة والاستفاضة ما يبلغ المتواتر في مستواه ومدلوله، ومن جملة الأدلة:
ما أخرجه أبو داود بإسناده عن ابن عمر، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((لعن الله الخمر، وشاربها وساقيها، ومبتاعها، وبائعها، وعاصرها، ومعتصرها، وحاملها، والمحمولة إليه)).
وفي حديث آخر عن ابن عباس رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ((أتاني جبريل، فقال: يا محمد إن الله لعن الخمر، وعاصرها، ومعتصرها، وشاربها، والمحمولة إليه، وبائعها، ومبتاعها، وساقيها، ومسقاها)) وغير ذلك من الأحاديث.
وآخرها على سبيل الذكر لا الحصر، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((ثلاثة حرم الله -تبارك وتعالى- عليهم الجنة: مدمن الخمر، والعاق، والديوث الذي يقر في أهله الخبث)) هذا هو الدليل من السنة على حرمة الخمر.
وقد انعقد الإجماع أيضًا، على أن الخمر حرام شربها، واستعمالها كيفما كان الاستعمال، وذلك مما علم من الدين بالضرورة، وهو لا يستحله إلا كافر بشرع الله، ومن ثم فينبغي أن يستتاب، وإلا قُتل.
حد شارب الخمر:
لقد أجمع العلماء على وجوب الحد على شارب الخمرة المأخوذة من عصير العنب إذا اشتد وقذف بالزبد، أما ما عداه من الأشربة المسكرة، فلا يخلو من خلاف، سوف نبينه في حينه إن شاء الله.
وعلى العموم، فإن الحد على الشارب، ثبت وجوبه من السنة ثبوتًا قطعيًّا، حتى عقب الفترة النبوية، أقام الخلفاء الراشدون الحد على الشاربين بعلم الصحابة وتأييدهم، ومن ثم كان ذلك إجماعًا.
أما الحد من السنة، فمنها ما أخرجه البخاري، بإسناده عن عقبة بن الحارث ((أن النبي صلى الله عليه وسلم أتي بابن نعيمان، وهو سكران، فشق عليه، وأمر من في البيت أن يضربوه، فضربوه بالجريد، والنعال، وكنت فيمن ضربه)) كذلك أخرج البخاري، بإسناده عن أبي هريرة رضي الله عنه: ((أتي النبي صلى الله عليه وسلم برجل قد شرب، قال: اضربوه، قال أبو هريرة: فمنا الضارب بيده، والضارب بنعله، والضارب بثوبه، فلما انصرف، قال بعض القوم: أخزاك الله، قال: لا تقولوا هكذا، لا تعينوا عليه الشيطان)).
أيضًا في حديث آخر: ((أن النبي صلى الله عليه وسلم أتي برجل قد شرب الخمر، فقال للناس: ألا اضربوه، فمنهم من ضربه بالنعال، ومنهم من ضربه بالعصا، ومنهم من ضربه بالجريدة الرطبة، ثم أخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم ترابًا من الأرض، فرمى به في وجهه)).
من خلال تلك الأحاديث، يتبين لنا مما لا مجال للشك فيه، أن هناك حدًّا للشرب، وأن السنة النبوية المشرفة دلت على هذا بسنة قولية، وبسنة فعلية.
إذن لا مجال للشك في أن للشرب حدًّا، ولكن ما مقدار هذا الحد؟ وهل هناك اتفاق في ذلك، أو لا؟
الواقع أن هناك قولين للعلماء في قدر الحد للشارب.
القول الأول: وقد ذهب من قال به: إلى أن حد الشارب ثمانون جلدة، واستدلوا لذلك بإجماع الصحابة -رضي الله تبارك وتعالى عنهم- فقد أخرج (الموطأ)، أن عمر بن الخطاب، استشار في الخمر يشربها الرجل، فقال له علي بن أبي طالب: “أرى أن تضربه ثمانين جلدة، فإنه إذا ما شرب سكر، وإذا سكر هذي، وإذا هذي افترى”، أو كما قال في الحديث، فجلده عمر في الخمر ثمانين جلدة.
كذلك أخرج البخاري، ومسلم، عن أنس بن مالك رضي الله عنه: ((أن النبي صلى الله عليه وسلم أتي برجل قد شرب الخمر، فجلده بجريدة نحو أربعين))، قال: وفعله أبو بكر، فلما كان عمر استشار الناس، فقال عبد الرحمن: أخف الحدود ثمانين، فأمر به عمر، وكان ذلك على مشهد من الصحابة، فلم يخالفه أحد، فكان ذلك إجماعًا.
وهذا الرأي، قال به فقهاء الحنابلة، والحنفية، والمالكية، وانتهوا إلى أن حد الشارب ثمانون جلدة بإجماع الصحابة رضي الله عنهم.
أما القول الثاني: وهو للشافعية، فقد قالوا: الأصل في حد الشارب هو أربعون جلدة، لكن الإمام له أن يزيد في العدد إلى ثمانين، إن رأى أن ذلك أبلغ في الزجر، وأشد في ترهيب الفساق والعصاة الذين لا يردعهم عن فعلتهم المحظورة هذه إلا أن يذوقوا الإيلام والإيجاع.
وقالوا: كان عمر إذا أتي بالرجل القوي المنهمك في الشرب جلده ثمانين، وإذا أتي بالرجل الضعيف الذي كانت منه الزلة جلده أربعين، فهو بذلك يوجب العقوبة تبعًا لحال الشارب من القوة والضعف، أو تبعًا لحاله من الإفراط في المعصية أو الإقلال منها، كما لو كانت زلة قارفها مرة واحدة.
ومن ثم قالوا: إن الحد أربعون، أما ما زاد على الأربعين كان على سبيل التعزير، وهذا أمر منوط بالإمام، أو بحاكم المسلمين له أن يقدر في العقوبة التعزيرية ما يراه، فقد يرى أن شخصًا ما ينزجر بأربعين جلدة، وقد يرى آخر لا ينزجر إلا بثمانين جلدة.
فهذا أمر منوط بالإمام، يقدره حسب ما يرى من المصلحة، وفي هذا أخرج البخاري، بإسناده عن السائب بن يزيد، قال: “كنا نؤتى بالشارب على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم وإمرة أبي بكر، وصدرًا من خلافة عمر، فنقوم إليه بأيدينا ونعالنا وأرديتنا، حتى كان آخر إمرة عمر فجلد أربعين، حتى إذا فسقوا وعتوا جلد ثمانين”.
كذلك أخرج أبو داود: ((أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أتي بشارب خمر، فحسا في وجهه التراب، ثم أمر أصحابه فضربوه بنعالهم، وما كان في أيديهم حتى قال لهم: ارفعوا))، ثم جلد أبو بكر في الخمر أربعين، ثم جلد عمر صدرًا من إمارته أربعين، ثم جلد ثمانين في آخر خلافته، وجلد عثمان الحد ثمانين، وأربعين، ثم أثبت معاوية الحد ثمانين.
هذا هو مقدار الحد بناءً على القول الثاني الذي يجعله في أربعين، وما زاد عن ذلك، فهو عقوبة تعزيرية يقدرها الحاكم أو القاضي حسبما يرى من المصلحة؛ ولذلك نجد البعض يقول: “إن فعل النبي صلى الله عليه وسلم حجة، ولا يجوز تركه بفعل غيره من الصحابة”.
فنقول: لم يقل أحد بترك فعل النبي صلى الله عليه وسلم ولكن نقول به، وما ورد من زيادة عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه فتحمل على أنها تعزير، يجوز للإمام أن يفعله على سبيل الاجتهاد.