Top
Image Alt

أدلة كل فريق على ما ذهب إليه من أقصى مدة الحمل

  /  أدلة كل فريق على ما ذهب إليه من أقصى مدة الحمل

أدلة كل فريق على ما ذهب إليه من أقصى مدة الحمل

أولًا: دليل الأحناف ومن معهم:

استدل الحنفية ومن معهم على أن أكثر مدة الحمل سنتان، بالأثر المروي عن عائشة -رضي الله تعالى عنها- وهو “الولد لا يبقى في البطن أكثر من سنتين، ولو لظل مغزِلٍ” وفي رواية عنها أيضًا: “لا تزيد المرأة في الحمل على سنتين قدر ما يتحول ظل عمود المغزل” وفي لفظ ثالث قالت رضي الله عنها: “لا يكون الحمل أكثر من سنتين”.

ووجه الدلالة من هذا الأثر: هو قول عائشة: هذا دليلٌ على عدم بقاء الجنين في بطن أمه أكثر من سنتين بأي حال من الأحوال؛ لأن قولها “ولو لظل مغزل” أي قدر هذه البرهة اليسيرة التي هي قدر ما يتحول ظل عمود المغزل، هذه كناية عن أن أقل شيء يُتصور في ضرب المثل لمثل هذه الحالة؛ حيث ورد في رواية أخرى: ولو بالسلكة مغزلٍ أي: بقدر دوران فلكة المغزل وهي رأسه، ثم يقول الأحناف: إن الظاهر أن السيدة عائشة رضي الله عنها لم تقل هذا وإلا وقد سمعته من النبي صلى الله عليه وسلم، فيكون في حكم الحديث المرفوع، وتثبت حجيته؛ لأن تحديد أقصى مدة الحمل بهذه المدة مما لا يدركه العقل، ويستدل ابن قدامة بأثر عائشة هذا للرواية المروية عن أحمد بتحديد أقصى مدة الحمل بسنتين فيقول: هو لأن التقدير إما أن يُعلم بتوفيقٍ أو اتفاق، ولا توقيف هنا ولا اتفاق، إنما هو على ما ذكرنا وقد وجد ذلك، فإن الضحاك بن مزاحم وهرم بن حيان، حملت أم كل واحدٍ منهما به سنتين.

ثانيا: دليل المالكية والشافعية والحنابلة ومن معهم:

استند المالكية والشافعية والحنابلة ومن معهم، إلى أن أقصى مدة الحمل أربع سنوات أو أكثر- استندوا في هذا إلى السماع؛ لوقوع مثل هذه الحالات، يقول ابن قدامة: إن ما لا نص فيه يُرجع فيه إلى الوجود، وقد وُجد الحمل لأربع سنين، وقد روى الوليد بن مسلم قال: قلت لمالك بن أنس: حديث جميلة بنت سعد عن عائشة: “لا تزيد المرأة على السنتين في الحمل”؟ قال مالك: سبحان الله! من يقول هذا؟! هذه جارتنا امرأة محمد بن عجلان تحمل أربع سنين قبل أن تلد، ويقول الشافعي: بقي محمد بن عجلان نفسه في بطن أمه أربع سنين، وقال أحمد: نساء بني عجلان يحملن أربع سنين، وامرأة عجلان حملت ثلاث بطون كل دفعة أربع سنين، ثم يقول ابن قدامة: إذا تقرر وجوده وجب أن يُحكم به ولا يُزاد عليه، وقد روي: “أن الضحاك بن مزاحم بقي في بطنه أمه أربع سنين” فولدته أمه قد نبتت ثناياه وهو يضحك فسُمي به لذلك، وهذه أيضًا هي وجهة الشيعة الإمامية في تحديدهم أقصى مدة الحمل بعشرة أشهر وهي السماع والمشاهدة.

ثالثًا: دليل ابن حزم:

يستدل ابن حزم على رأيه وهو أن أكثر مدة الحمل تسعة أشهر، لما روي عن سعيد بن المسيب قال: قال عمر بن الخطاب: “أيما رجل طلق امرأة فحاضت حيضة أو حيضتين، ثم قعدت فلتجلس تسعة أشهر، حتى يستبين حملها، فإن لم يستبن حملها في تسعة أشهر فلتعتد بعد التسعة أشهر بثلاثة أشهر عدة التي قعدت عن المحيض”، يقول ابن حزم: فهذا عمر لا يرى الحمل أكثر من تسعة أشهر.

الرأي الراجح في تحديد أقصى مدة الحمل: بعد عرضِ آراء الفقهاء وأدلتهم في هذه المسألة “أقصى مدة الحمل” نجدهم جميعًا قد اختلفت آراؤهم في تحديد هذه المسألة، وتباينت تباينًا كبيرًا، مما يجعل النفس لا تطمئن إلى الأخذ بأحدها شرعًا، في أمرٍ هكذا له شأنه وخطره من الناحية الشرعية، كما يترتب عليه من أحكام فقهية وآثارٍ مالية ونَسَبية، ويمكن أن يرد على كل منها بالآتي:

أولًا: الرد على الحنفية وأحمد في روايته:

يُرد على الأحناف بنفس تفسيرهم الأثر المروي عن عائشة رضي الله عنها، والذي استدلوا به، فقد قالوا عنه:

أولًا: أن الظاهر أن السيدة عائشة لم تقل هذا، إلا وقد سمعته من النبي صلى الله عليه وسلم.

ثانيًا: قولهم: فيكون في حكم الحديث المرفوع وتثبت حجيته.

ثالثا: قولهم: إن تحديد أقصى مدة الحمل بهذه المدة مما لا يدركه العقل.

نقول في الرد عليهم بنفس الترتيب: أولًا وثانيًا وثالثًا.

1- الرد على أولًا: والظاهر أيضًا أو يُحتمل، أن هذا إنما هو رأي السيدة عائشة رضي الله عنها، ومما يرجح هذا الاحتمال أنها لم ترفعه إلى النبي صلى الله عليه وسلم.

2- الرد على ثانيًا: ومن ثم لا يأخذ حكم الحديث للشك فيه ولا تثبت به حجة، هذا بالإضافة إلى ما رَد به ابن حزم على الحنفية في استدلالهم بهذا الأثر حيث قال: إن هذا الأثر عن جميلة بنت سعد عن عائشة، وجميلة بنت سعد مجهولة لا يدري من هي.

3- الرد على ثالثًا: كون تحديد أقصى مدة الحمل بهذه المدة، مما لا يُدركه العقل، فثبت أذى بالسماع والمشاهدة، فليس بلازم أن تكون سنتين؛ حيث ثبت بالسماع والمشاهدة غير ذلك، فإن الإمام مالكًا رضي الله عنه أنكر قول السيدة عائشة رضي الله عنها لما سمعه، وأثبت بالسماع والمشاهدة خلافه بامرأة محمد بن عجلان في رأيه.

الرد على المالكية والشافعية والحنابلة ومن معهم:

يُرد على الجمهور بأن ما استندوا إليه فيما قالوه هو السماع وحكايات الناس، ولم يكن لديهم دليل من الكتاب والسنة، أو حتى من غالب ما يقع ويشتهر، بل هي حكايات سمعوها عن بعض النسوة قليلة، بل نادرة لا تقوم بها حجة، ولا يثبت بها حكم شرعي، هكذا.

الرد على ابن حزم والشيعة الإمامية:

يُرد على ابن حزم والشيعة الإمامية بأن ما قالوه وإن كان قريبا من الواقع والغالب إلا أنه لا يفيد الاستقراء التام، لأنهم قالوا ما قالوه بناء على السماع والمشاهدة أيضًا، ولا يثبت بهما حكمٌ شرعي قاطع في مثل هذا الأمر، فقد يتخلف السماع والمشاهدة في بعض الحالات، وقول عمر الذي احتج به ابن حزم لا يفيد أن التسعة أشهر هي أقصى مدة الحمل، بل هي لاستبانته فقط، بدليل قوله -أي عمر: فلتجلس تسعة أشهر حتى يستبين حملها، فإن لم يستبن حملها في تسعة أشهر فقد ذكر أن التسعة أشهر هي لاستبانة الحمل فقط، لا لبلوغ أقصاه.

وبعد عرض أقوال الفقهاء وآراء ووجهة كلٍّ فيما ذهب إليه في تحديد أقصى مدة الحمل، فإن النفس لا تطمئن إلى الأخذ بأيٍّ منها لعدم استدلال أحد بالكتاب الكريم أو السنة النبوية المطهرة أو بالغالب المشتهر، وأيضًا لعدم سلامتها لما ورد عليها جميعا من اعتراضات، ولعدم توافق أقوال فقهاء بعض المذاهب فيما بينهم كما هو الحال عند المالكية، فالحنفية استندوا إلى الأثر المروي عن عائشة رضي الله عنها وجعلوه في حكم الحديث المرفوع وهو ليس كذلك، بل هو رأي لها رضي الله عنها بدليل أنها لم ترفعه إلى النبي صلى الله عليه وسلم، كما أثبتناه في موضعه، وذهب المالكية والشافعية والحنابلة إلى حكايات بعض النسوة القليلة أو النادرة الواقعة، والتي لا تكاد أن تصدُق لعدم مطابقتها للواقع والمشاهد، ولعدم استدلال الظاهرية والشيعة الإمامية بدليل معتبر شرعًا في هذا الشأن، بل إن أقوال بعض المذاهب يتضارب بعضها مع بعض، فمثلا الضحاك يقول الحنفية إنه مكث في بطن أمه سنتين وذلك لأن مذهبهم أن أقصى مدة الحمل سنتان، وقد ذكر هذا ابن قدامة أيضًا في استدلاله بالرواية المنسوبة إلى الإمام أحمد بسنتين، بينما يقول المالكية والشافعية والحنابلة وغيرهم: إن الضحاك مكث في بطن أمه أربع سنين حسب مذهبهم أيضًا في أقصى مدة الحمل، فأين الحقيقة؟ هل كان حمل أمه به سنتين أم أربع أم غير ذلك؟ الله أعلم.

الواقع أن الفقهاء -رضوان الله عليهم جميعًا- لما لم يجدوا نصًّا قاطعًا في كتاب الله ولا في سنة رسوله صلى الله عليه وسلم ولا قولًا مجمعًَا عليه من الصحابة رضي الله عنهم اجتهدوا في هذه المسألة واستندوا إلى ما سمعوه عن بعض النسوة: أنهن يلدن لأربع سنين، وهذه أخبار غير صحيحة، وعلى فرض صحتها فهي قائمة على الوهم أو التخمين أو الخطأ في الفهم؛ إذ يبدو أن هؤلاء النسوة كن ممتدات الطهر عقب الولادة ثم حملنا عقب هذا الطهر دون أن يتخلل حيضٌ بن الطهر والحمل، وهذا يحدث لبعض النسوة ولا غرابة فيه، فظنن -هؤلاء النسوة- أنهن حوامل طوال هذه المدة، لعدم الفصل بحيضة بين الطهر الأخير والحمل، أو بحيضة بين الولادتين كما هو الشأن لمعظم النساء.

ولعل أبا عبيد -رحمه الله- قد حسَم القول في هذه المسألة حينما قال: ليس لأقصى مدة الحمل وقت يُوقف عليه، وما دام الأمر كذلك؛ وحيث إن النفس فيها شيء من هذه الأطوار كلها فلنترك أقوال الفقهاء إذن مع احترامنا لأقوالهم ولآرائهم، ولنذهب إلى أهل الذكر، وأهل الذكر في هذا المجال هم الأطباء الأخصائيون في علم الأجنة، وفي أمراض النساء والتوليد، فهم يبنون أقوالهم ويؤيدون آراءهم بواقع علميٍّ سليم على تجارب تقع بالفعل وتصل إلى حدِّ الاستقراء التام؛ حيث التجارب الفعلية المخبرية على آلاف الحالات بل الملايين، هذا وقد ذكر الأطباء أن أكثر مدة الحمل هي عشرة أشهر، فإذا زاد الجنين في بطن أمه عن شهرٍ بعد مدته الطبيعية فإنه يموت، ولا يتسنى له البقاء حيًّا في بطن أمه، وما زاد عن ذلك فإنما هو نتيجة خطأ في حساب بداية الحمل وبعد التجاوز ووضع الاحتمالات والاحتياطات للنادر والشاذ فإن الأطباء يقررون استحالة استمرار الحمل أكثر من سنة شمسية أي ثلاثمائة وخمسة وستين يومًا، وهذا قريبٌ من رأي محمد بن الحكم من فقهاء المالكية، بتحديده بسنة قمرية عددها ثلاثمائة وأربعة وخمسين يومًا فالفرق بينهما إذا يسير وهو أحد عشر يومًا فقط، وبذلك يكون أهل الذكر -وهم الأطباء- قد اتفق رأيهم مع بعض الفقهاء ويكون هذا القول هو ما تطمئن إليه النفس، فيكون هو الأولى بالأخذ والاعتبار، على أنه الحد الأقصى للحمل الذي لا نزيد عليه.

error: النص محمي !!