Top
Image Alt

أركان الوصية

  /  أركان الوصية

أركان الوصية

الوصية لا بد لتَكوينها من توافر الأركان التي هي أركان كل عقد عند الجمهور، فالجمهور دائمًا ما عدا الحنفية يذهبون إلى أن كل عقد فيه: عاقدان، وصيغة، ومعقود عليه, والوصية كذلك لا بد لتَكْوِينِها من توافر أركان هي:

المُوصِي, وهو الشخص الذي يريد أن يخرج شيئًا من ماله ينفذ بعد موته.

المُوصَى له, وهو الشخص الذي سينتفع, أو يأخذ ما أُوصي له به.

الموصَى به, وهو الشيء الذي أوصى به الموصي لغيره من مال أو منفعة أو أي شيء.

الصيغة, وهي التي يتم بها هذا العقد.

هذه الأركان بِهَذا التحديد عند الجمهور؛ لكن الحنفية يذهبون إلى أن ركن الوصية هو الإيجاب فقط كما هي عادتهم, أي: يرون أن الإيجاب والقبول في أغلب العقود يتم به العقد، وفي بعض العقود يقولون: ركن كذا هو الإيجاب، كما ذكرنا هناك في الهبة أنّ رُكن الهبة هو الإيجاب فقط عندهم، والقبول يكون من الموهوب له هنا أيضًا.

يقول الحنفية: إن ركن الوصية هو الإيجاب فقط من الموصي، فكأن الوصية تحققت بالإيجاب، بمعنى أن الشخص يقول: أوصيت لفلان بكذا ونحوه من الألفاظ. والقبول يكون من الموصى له، والقبول ليس ركنًا عندهم وإنما هو شرط، أي: شرط في لزوم الوصية, بمعنى أن الموصى له إذا قال: قبلتُ ما أوصى لي به فلان, فهذا القبول يجعل الوصية لازمة من جهة الموصي؛ فلا يرجع فيها، ويجعل ملك الموصى له ثابتًا على هذه الوصية.

فإذا ما أردنا التفصيل بالنسبة للأركان, نبدأ بالركن الأول وهو الموصي:

المُوصِي: اتفق الفقهاء جميعًا على أن الموصي -وهو الشخص الذي يُخرج من ماله شيئًا وينفذ هذا الإخراج عند الوفاة- لا بد أن يكون أهلًا للتّبرع؛ لأنّ الوَصية تبرع والتبرع لا يكون إلا من أهله، وذلك بأن يكون الشخص له الأهلية لملك ما أوصى به ملكًا صحيحًا، وبمعنى آخر: أن تكون له أهلية الأداء، أهلية أن يكون صالحًا لمباشرة سائر العقود والتصرفات.

ويترتب على ذلك أن يكون هذا الشخص متوافرًا فيه الصفات الآتية: أن يكون مميزًا عاقلًا مختارًا, فلا تصح وصية الصغير بأن يكون موصيًا، ولا يوصي بشيء من ماله الذي لم يميز، وكذلك المجنون والمعتوه.

كذلك لا تصح وصية المُكره وهو من أُكره على الوصية, والمُخطئ وهو من يسبق لسانه بالوصية دون أن يقصدها، والهازل وهو من ينطق بالوصية دون أن يقصد ترتب آثارها عليها.

فهؤلاء المذَكورون إمّا فاقدون لأهلية الأداء؛ كغير المميز وهو من لم يبلغ سن السابعة، والمجنون والمعتوه, وإما أن تكون أقوالهم غير مُعتبرة كالمُكره, فالذي أكره على الوصية وصيته غير معتبرة؛ لأنّ الإكراه يفسد الآثار المترتبة عليه، وكذلك المخطئ والهازل.

وإذا أردنا أن نتكلم عن بعض الأفراد المذكورين هنا، نقول: الصبي المميز, هل تصح وصيته أم لا؟

اختلف الفقهاء في ذلك, فذهب المالكية وجمهور الشافعية والحنابلة إلى صحة وصيته ما دام يعقل الوصية؛ لما روي أن صبيًّا من غسان له عشر سنين، أوصى بأموال له, فرفع ذلك إلى عمر رضي الله عنه فأجاز وصيته؛ لأنّ المالَ سيبقى على ملكه مدة حياته, فإنْ احتَاجَ إليه صرفه، وإن مات نفذت وصيته في ثلث ماله.

أما الحنفية وأهل الظاهر فقالوا بعدم صحة وصية الصبي المميز؛ لأنّه ليس من أهل التبرع, ولأنّ التّبرُّعات ضرر محض وإن كان يترتب عليها نفعٌ أحيانًا، أي: أحيانًا ما يكون فيها نفع؛ لأن هذه التصرفات تارة ما تكون نافعة نفعًا محضًا كقبول الهبة وقبول الوصية, وتارة ما تكون ضارة ضررًا محضًا، كإخراج الهبة أو التصدق بشيء من ماله, فهذا ضار لأنه إخراج.

وقد يَكونُ التصرف نافعًا من جهة وضارًّا من جِهة, أو يكون ذلك الأمر موقوفًا على من له الإشراف أو الولاية عليه، وذلك كالبيع؛ فقد يكون الصبي يعرف البيع, فالبيع قد يكون نافعًا وقد يكون ضارًّا, والأمر متروك لوصيه، إن رآه نافعًا أجازه وإن رآه ضارًّا رده، فهناك تصرفات دائرة بين النفع والضرر كالبيوع وغيرها من المعاملات والإجارة وغيرها.

والحنفية وأهل الظاهر لما قالوا بعدم صحة الصبي المميز؛ قالوا: لأنه ليس من أهل التبرع؛ لأن التبرعات ضرر محض، وحتى لو ترتب عليها نفعه أحيانًا, ومن ثم فلا وجه لاستثناء وصيته من جملة التبرعات التي يمنع منها، ويبدو -والله أعلم- أن هذا الرأي هو الراجح؛ لقوة دليله لأنه هو الذي أخذ به كثير، أو الذي تأخذ به بعض المحاكم كثيرًا, فحينما تحصل وصية ينظرون إلى أن التبرعات الصادرة من الصبي المميز تعتبر ضارة ضررًا محضًا؛ فلا يجيزونها, فهنا أخذوا برأي الحنفية وأهل الظاهر, ومن هنا جاء ترجيح هذا الرأي لما فيه من مصلحة.

أما السفيه وهو المبذر الذي لا يهتدي في تصرفاته إلى وجوه الخير، فالحَجْرُ عَليه لمصلحة نفسه لا لمصلحة غيره، وإنما الذي لمصلحة غيره هو المفلس فنحجر عليه لمصلحة دائنيه، لكن السفيه يظل ينفق حتى يفلس فنحجر عليه في تصرفاته؛ خوفًا على نفسه حتى يفيق، وحتى يحسن التصرف ويرشد.

ومع أن هذا السفيه لا يهتدي إلى وجوه الخير في التصرفات، إلا أن الجمهور قالوا بصحة وصيته؛ لأنّه بالغ عاقل، والحجر عليه يراعى فيه مصلحته بعدم تضييع أمواله، وكذلك يراعى مصلحة ورثته الذين تنتقل إليهم أمواله بعد وفاته، والوصية ليس فيها ما يتعارض مع ذلك؛ لأن الوصية لا تضر به ولا بورثته؛ لأنّ الوصية لا تنفذ إلا بعد موته وانقطاع حاجته إلى المال. ثم إنها لا تنفذ إلا في حدود ثلث التركة، فلا يترتب عليها إضرار بمصالح الورثة.

لكن الشافعية يذهبون إلى عدم صحة وصيته مُخالفين للجمهور؛ لكون هذه الوصية الصادرة من هذا السفيه من التبرعات, وهو ممنوع من التبرعات في الجملة، والرأي الراجح هنا هو رأي الجمهور؛ لأنه ما دامت لا تضر به ولا بورثته وتنفيذها لا يحدث إلا بعد موته، وبعد موته تنقطع حاجته إلى المال؛ يصير تنفيذها بعد موته لا ضرر فيه على أحد.

هل تصح وصية غير المسلم؟

تكلم الفُقهاء في هذه المسألة؛ فقالوا: تصح وصية غير المسلم في الجُملة في نظر جمهور الفقهاء، ما لم يوص بمحرم، أما إذا أوصى غير المسلم بأمر محرم في نظر الشريعة الإسلامية، فهذه الوصية غير جائزة. وكذلك لا تَصِحُّ وصيته بمعصية؛ لأنّ الوَصِيّة بالمعصية أو بالمُحرم لا تصح من مسلم، فإذا لم تصح من مسلم فكذلك هو من باب أولى.

وعلى هذا, إذا كانت وصية غير المسلم بأمر نافع فيجوز أن يوصي بها للمسلم؛ لأنه بعد الذمة بين المسلم وغير المسلم تساوى مع المسلم في المعاملات، ولهذا جاز التبرع بين الجانبين في حال الحياة، كأن يهب غير المسلم للمسلم أو العكس, وكذلك بعد الممات.

وصية المدين:

المدين إما أن تكون الديون مستغرقة لأمواله أو غير مستغرقة لها، ومعنى مُستغرقة: أنّ تكون هذه الديون أكثر مِمّا يَمْلِكُ من مال، أي: عليه ديون أكثر مما عنده من مال، وفي هذه الحالة لا تصح وصيته؛ لأنّها تبرع, وقضاء ما عليه من ديون واجب, والواجب يقدم على التبرع.

وهذا في حالة ما إذا لم يتنازل الدائنون عن ديونهم ويبرئوا المدين منها، فإن حَصَل ذلك صحت وصيته؛ هذا في حالة ما إذا استغرقت الديون أمواله وليس عنده مال؛ فهذه الديون أكثر مما يملك.

لكن إذا لم تكن الديون مستغرقة لماله, أي: عليه ديون ولكن أمواله التي عنده تزيد على الديون كثيرًا؛ فهو شخص في هذه الصورة كامل الأهلية، وتصرفاته ووصيته صحيحة ونافذة، ولا تتوقف على إذن أو إجازة من أحد.

فإذا أوصى يكون إخراج الدين أولًا إذا لم يبرئه منه الدائنون، وتنفذ الوصية فيما بقي بشروطها، ولا يُشترط للوصية هنا -كما بالنسبة للمدين- اتحاد الدين، بل تجوز من المُسلم لغيره وبالعكس لكن بشروطها، وعلى الجملة تجوز الوصية بين الشخصين ولو لم يكونا متحدين في الدين؛ أي: يوصي غير المسلم للمسلم, والمسلم يوصي لغير المسلم. هذا كل ما يتصل بالركن الأول وهو الموصي, أي: الذي يخرج المال.

الركن الثاني: الموصَى له, وهو الذي يقبل أو يأخذ الوصية، أو هو من تصدر الوصية لصالحه.

ويشترط في الموصى له أن يكون أهلًا للاستحقاق, ومعنى أهلية الموصى له للاستحقاق: أن تكونُ له أهلية التملك؛ لأنّه سوف يتملك الوصية، فيُشترط أن يكون أهلًا لتملك الوصية.

والذي يخرج بذلك الوصية للحيوان, فلا تصح إن قصد الموصي تمليك هذا الحيوان، بأن يقول مثلًا: أوصيت لهذا الحيوان بكذا، فالحيوان لا يصدر منه تمليك؛ لأنه ليس أهلًا لذلك، لكن لو كانت الوصية لنفعه مثلًا فهذه تصح، كما لو قال: أوصيت لحيوان بكذا إردب من العلف، أو بكذا كيلو من العلف.

كذلك تصح الوصية ببناء مسجد ونحوه، فلا يُشترط هذا الشرط؛ لأنّ الوصية كما تكون للشخص الطبيعي وهو الإنسان تكون للشخص الاعتباري؛ لأنّ المسجد والمستشفى وجهة البر، والفقهاء قالوا: لها شخصية اعتبارية أو لها شخصية تمثله، فالوقف له أهلية والمسجد له أهلية وهكذا, والذي يمثل هذه الأهلية في الشخص الاعتباري هذا هو القائم على أمره. إذًا شخصية الشّخص الطبيعي واضحة، وهو الإنسان, فهذا أهل للتملك.

هل تصح الوصية للميت؟

لا تصح الوصية للميت؛ لأنه ليس أهلًا للاستحقاق سواء علم الموصي بموته عند الوصية، أو لم يعلم عند جمهور الفقهاء؛ فإذا أوصى لفلان والموصي ما زال على قيد الحياة، وكان الذي أوصى له مات قبل ذلك، وعلم المُوصي بموته عند الوصية، أو لم يعلم الوصية, فلا تجوز عند جمهور الفقهاء. هذا هو الشرط الأول؛ أن يكون الموصى له أهلًا للاستحقاق.

الشرط الثاني: أن يكون معلومًا, فلو كان مجهولًا جهالة لا يمكن رفعها كانت الوصية باطلة؛ لأنها تمليك بعد موت الموصي, فلذلك كان لا بُدّ من العِلْم بالمُوصَى له، أي: أن يكونَ المُوصى له معلومًا, فلو لم يكن معلومًا أو مجهولًا جهالة لا يمكن رفعها، بأن يقول الموصي مثلًا: أوصيتُ لشخص من الناس؛ فهذه وصية مجهولة جهالة لا يمكن رفعها، فمن هو هذا الشخص من الناس؟ أو يقول: أوصيت لأحد هذين الرجلين، كذلك لم تصح وصية بجهالة الموصى له جهالة تمنع من التسليم؛ أي: من يتسلم من هذين الرجلين.

كذلك لا تَصِحُّ الوَصِيّةُ لمن لا يُحْصَونَ عَددًا, كأن يقول: أوصيتُ للمُسلمين، فالمسلمون وصلوا إلى أعداد كثيرة ولا يحصون. أما إذا كان في لفظ الوصية ما يُشعر بأنّ المُوصِي أراد فئة معينة, كأن يقول: أوصيت للفقراء، فصحيح أن الفقراء لا يحصون كثرة، لكن إذا أوصى لهم ينتقي الورثة من هم الفقراء، وتصح لهم الوصية في حدود ما أوصى به، أو إذا خرجت من الثلث تكون للفقراء في نطاق المكان الذي يعيشون فيه أو أي فقراء، فإنها تصح هنا لأنها وصية بالصدقة وهو إخراج المال لله تعالى، والله سبحانه وتعالى واحدٌ أحد معلوم, فيقع الموصى به لله, ثم يتملكها المحتاجون بتمليك الله لهم.

الشرط الثالث من شروط الموصى له: أن يكون الموصى له موجودًا عند الوصية, أي: يكون معينًا بالذات؛ لأنّ بتعيينه يكون شخصًا محل الاعتبار، فعندما يقول الموصي: أوصيت لمحمد ابن فلان، وهو يقصد هذا الشخص وتحديده بالاسم محل اعتبار عنده؛ لأنّه يَقْصِدُه لا يقصد غيره، وهذا يجعل الوصية تتعلق بذاته ولا يُمكن أن تَتَعَلّق بغيره.

فإذا لم يكن موجودًا حين نشأة الوصية تبطل هذه الوصية، سواء في ذلك ألا يكون الموصى له موجودًا أصلًا كما لو أوصى لشخص لم يوجد بعد، كأن يقول: أوصيتُ لابن عمي فلان، وليس له ابن عم مسمى بهذا الاسم، وعمه هذا ليس له ولد يحمل هذا الاسم الذي سماه؛ فهذا الموصى له غير موجود على وجه الأرض.

أو أوصى له وكان موجودًا, كأن يقول: أوصيت لابن عمي فلان، محمد أو أحمد وكان له فعل على قيد الحياة، ولكن مات قبل نشأة الوصية, وتنشأ الوصية بموت الموصي لأن التصرف في التركة مضاف لما بعد الموت، وتكون الوصية أحد متعلقات التركة.

فإذا لم يكن موجودًا أصلًا كما ذكرنا في التمثيل بابن عم لم يوجد، أو كان موجودًا ولكنه مات قبل نشأة الوصية؛ هنا تبطل الوصية في كل من الحالتين لانعدام الموصى له، فهو معدوم عند نشأة أو حدوث الوصية؛ ولكِنّه كان موجودًا عند قول الموصي: أوصيت لفلان. هذا رأي جمهور الفقهاء إذا لم يعين الموصى له بذاته، لكن إذا عينه بذاته, فهذا لا شك فيه ولا لبس الوصية تكون له؛ لأن محل اعتباره أن يكون عينه الموصي بذلك.

أما المالكية فيقولون: إذا لم يعين الموصى له بذاته، سواء كان غير معين أصلًا, أو كان مُعَيّنًا بالجنس أو بوصف يشمله ويَشْمَل غيره؛ فإن الوصية تكون صحيحة، حتى ولو لم يكن الموصَى له موجودًا وقت نشأة الوصية أو عند موت الموصي، أي: وقت نشأة الوصية, فهم يرون أن نشأة الوصية عند قول الموصي: أوصيت.

ويتعلق بشرط وجود الموصى له عند الوصية وجود الشخص مستقبلًا, فهناك موصى له يكتفى بإمكان وجوده مستقبلًا كما قال المالكية؛ فيجوز الإيصاء له، مثل الوصية للحمل؛ كأن يوصي شخص لحمل امرأة في بطنها جنين.

ويُشترط لصحة الوصية للحمل ثلاثة شروط, هي:

الأول: أنْ يَكُونَ الحَمْلُ موجودًا في بطن أمه عند إنشاء الوصية؛ لأنه يأخذ هنا حكم الموصى له المعين، وهذا يُشترط وجوده وقت إنشاء الوصية بأن يقول الموصى: أوصيت لهذا الحمل. ولو ثبت أنه لم يكن حملًا أو كان انتفاخًا في بطن الأم؛ فالوصية تُعتبر باطلة, أو إذا كان هناك حمل ولكن لم يكن قد ثبت وجوده وقت إنشاء الوصية.

ويكون ذلك بالتحقق من وجود الحمل وقت إنشاء الوصية, ويتم التحقق من ذلك إذا ولد خلال المدة المعينة من تاريخ الوصية، وهذه المُدّة تختلف بحسب ما إذا كان الموصي قد أقر بوجود الحمل في بطن أمه عند الوصية، أو لم يكن قد أقر بوجوده، أي: إن شرط صحة الوصية أن يولد هذا الحمل لـ 365 يومًا على الأكثر من تاريخ الوصية، وهي السنة الميلادية الكاملة؛ لأنّ أهل الطب قالوا: إنها أقصى مدة ممكنة للحمل وإن كان هذا قليلًا، لكن تصح الوصية في هذه المدة إذا وُلد هذا الجنين الذي في بطن أمه حينما أقر الموصي بالوصية له، وولد هذا الحمل على أقصى تقدير بعد 365 يومًا, أي: كأنه كان موجودًا في هذه الفترة في بطن أمه.

لكن إن وُلِدَ بعد هذه المُدّة بيوم واحد, أي: لو أنه قال: أوصيت لما في بطن هذه المرأة بكذا, أي: بمبلغ من المال أو بشيء كذا, ولكن لم يكن قد أقر بوجوده وقت الوصية, فقال للحمل ولم يقل الحمل الموجود؛ فإذا ولد بعد هذه المدة بيوم واحد وهي الشهور التسعة التي تساوي 270 يومًا, حيث ولد بعد 271 يومًا فالوصية باطلة؛ لغلبة الظن بأن الحمل حدث بعد إنشاء الوصية, فتعتبر باطلة لهذا السبب.

الشرط الثاني: أن يُولد الجنين حيًّا حياة مستقرة، والقانون أخذ برأي أنه لا بُدّ من انفصاله عن أمه حيًّا حياة مستقرة -كما هو عند جمهور الفقهاء- وتُعرف هذه الحياة المستقرة بظهور علامة الحياة، وعلامة الحياة بأن يستهل صارخًا، أو بالعطاس، أو تحريك الأعضاء، أو مص ثدي أمه، ونحو ذلك.

الشرط الثالث لصحة الوصية للحمل: إذا كان الموصِي قد نسب الحمل لشخص معين، بأن يقول: أوصيت لهذا الحمل الذي في بطن المرأة الفلانية, أو أوصيت لهذا الجنين ابن فلان أو بنت فلان؛ فيجب أن يثبت ذلك النسب شرعًا، فإذا قال: أوصيته لحمل فلانة من زوجها، فيُشترط لصحة الوصية أنْ يَثْبُت نسب هذا الجنين الذي ولد من ذلك الشخص، وإذا لم يثبت نسبه من ذلك الشخص بأن لاعن الزوج زوجته لينفي هذا الحمل منها، وحكم بقطع النسب الموجود؛ لأنه قال: أوصيتُ لفلان من هذا الزوج، وهذا الزوج لم يثبت أنه أبوه بالملاعنة وألحق بأمه بسبب الملاعنة؛ تبطل الوصية.

وهناك كلام في الوصية للوارث على ما يلي:

يُشترط ألا يكون الموصى له وارثًا؛ لنص حديث النبي صلى الله عليه وسلم: ((لا وصية لوارث)), وفي رواية أخرى: زيادة ((إلا إذا أجازها الورثة)). والوارث هنا الذي نتكلم في حكم الوصية له هو من استحق الإرث بالفعل وقت وفاة الموصي، ولو انتفى عنه سبب الإرث وقت الوصية.

حكم الوصية لوارث:

اختلف أهل العلم في حكم الوصية للوارث، فذهب بعض العلماء إلى عدم صحة الوصية للوارث مطلقًا حتى لو أجازها الورثة, وذهب إلى ذلك الإمام مالك والشافعي في أحد قوليهما، وبعض أصحاب الإمام أحمد والظاهري.

والبعضُ الآخر ذهب إلى أنها صحيحةٌ مُتوقفة على إجازة الورثة؛ فإن أجازوها نفذت وإن رَدُّوها بطلت، وإن أجازها البعض دون البعض فمن أجازها من الورثة يعطى نصيبه على اعتبار تنفيذ الوصية؛ فينقص نصيبه بنسبة ما أجازه في الوصية، ومن لم يجز من الورثة يعطى نصيبه كاملًا ولا يتأثر بما أجازه غيره، وهذا ذهب إليه الحنفية والظاهر من مذهب الحنابلة، والقول الآخر للشافعي؛ لأن الشافعي له قول آخر وهو عدم صحة الوصية لوارث, حتى لو أجازها الورثة.

وأساس الخلاف بين الفقهاء في هذه المسألة هو الروايتان الواردتان؛ ما ورد من قوله صلى الله عليه وسلم: ((إن الله أعطى لكل حق حقه؛ فلا وصية لوارث)) مع ورود الرواية الأخرى للحديث والتي بها الزيادة، وهي قوله صلى الله عليه وسلم: ((إلا أن يجيزها الورثة))، أي: يجيزون الزيادة.

فالذين منعوا من صحة الوصية لوارث مطلقًا, سواء أجازها الورثة أو لم يجزها، وهم الإمام مالك والشافعي في أحد قوليه، وأصحاب أحمد والظاهري قالوا: السبب في ذلك المنع أنها مسألة تعبدية, يجب الوقوف فيها عند حدّ النص وتسليم الأمر للحكم الشرعي, فلا تجوز وإن أجازها الورثة.

ومن قال بالمنع لحق الورثة، أجازها إذا أجازها الورثة، أي: المنع ليس تعَبُّديًّا عند هؤلاء, وعللوا ذلك المنع بأن إيثار بعض الورثة على بعض يوغر الصدور, ويورد الحقد والضغينة؛ فمنع الشارع الوصية التي تؤدي إلى ذلك.

فإن أجازها الورثة الآخرون صحت؛ لأنه يظهر من ذلك أنهم راضون بها، واحتجوا أيضًا بالزيادة الواردة في بعض روايات الحديث, وهي: ((إلا أن يجيزها الورثة)).

وعلى هذا يمكن أن نقول بأن المعنى المستخلص من الحديث الأول والحديث الثاني الذي وردت به الزيادة: أن الوصية للوارث لا تنفذ مطلقًا, مهما كان مقدار الموصى به إلا بإجازة الورثة، فإن أجازها نفذت وإن لم يجزها بطلت، وإن أجازها بعضهم دون البعض نفذت في حق المجيز، وبطلت في حق من لم يجز؛ لأن المجيز ولايته على نفسه وليست له ولاية على غيره، وهذا شرط لنفاذ الوصية باتفاق الفقهاء.

error: النص محمي !!