Top
Image Alt

أساليب المستشرقين في محاربة لغة القرآن

  /  أساليب المستشرقين في محاربة لغة القرآن

أساليب المستشرقين في محاربة لغة القرآن

 هكذا يتبيّن موقف المستشرقين من اللغة العربية، ومحاولة استبدال العامية باللغة العربية، فتحلّ اللغات أو اللهجات المحلية في البلاد العربية محلّ اللغة الفصحى. وكنّا قد ألقيْنا بعض الضوء على أهمية اللغة كعامل من عوامل وحدة المسلمين، ولغة القرآن الكريم، وتمثل رمزًا من رموز الالتزام بالإسلام كدين وعقيدة. وأودّ أن أتناول هذه القضية بشيء من التفصيل؛ لأنها على جانب كبير من الأهمية؛ لأن المستشرقين قد أوصَوا الاستعمار العسكري -وهم حراس الاستعمار العسكري في العالَم العربي- بمخطّط لنشْر إمّا اللهجات المحلية، أو اللغة الرسمية للدولة المستعمِرة لتحلّ محلّ اللغة العربية الفصحى. واستخدموا في ذلك وسائل شتّى يمكن التعبير عنها بوسائل الترغيب والترهيب: الترغيب في تعلّم اللغة الاستعمارية القائمة، سواء كان المستعمِر إنجليزيًّا أو فرنسيًّا، والترهيب من اللغة العربية بوسائل متعدّدة.

وكان ممّا سلكوه في ذلك: أن جعلوا التعليم بلغة الشعب المستعمِر، بلغة الأمّة المستعمِرة: التعليم العامّ، وجعلوا ذلك أمرًا إجباريًّا في مختلف مراحل التعليم. ولا يغيب عن حضراتكم ما فعلتْه فرنسا في الجزائر من يوم أن استعمرتْها. وكان من أوائل ما فعلتْه فرنسا في الجزائر: إلغاء اللغة العربية من مراحل التعليم، إلغاء كتاتيب تحفيظ القرآن الكريم، تحويل المساجد إمّا إلى كنائس، أو إلى دواوين للموظفّين، ثم فرْض اللغة الفرنسية كلغة إجبارية في كلّ مراحل التعليم، وأرادوا بذلك أن يجعلوا من الجزائر ولاية فرنسية.

أيضًا، كان من الوسائل التي أوصى بها المستشرقون: إهمال اللغة العربية من الجدول الدراسي في المؤسسات التربوية -اللغة العربية التي هي اللغة الأمّ للبلاد- إهمالها إهمالًا كليًّا، أو جعْلها في المراحل الأولى للخطّة التعليمية كلغة ثانية، لا لغة أولى. ثم إذا نظرت في جدول اليوم الدراسي، تجدهم يضعون اللغة العربية إمّا في آخر حصة في اليوم الدراسي؛ بحيث يأتي إليها الطالب وقد كَلّ ذهنُه وتعِب جسده، ولم يكن عنده استعداد لا للفهم ولا للتحصيل، فيكْره اللغة ويكْره مدرِّس اللغة؛ وهذا واقع. وعليك أن تراجع الجدول الدراسي في الزمن الذي كان الاستعمار العسكري قائمًا في هذه البلاد.

وكان من الوسائل التي استعملها الاستعمار أيضًا: التنفير من اللغة العربية بطرح عبارات سخرية واستهزاء من قواعد اللغة، ومن معلِّم اللغة -كما أشرنا إلى ذلك- عن طريق المسرحيات، والعمليات الدرامية، وبعض البرامج الثقافية في أجهزة الإعلام المختلفة.

ثم إذا انتقلنا من التعليم إلى دواوين الحكومة والدواوين الرسمية ودواوين الموظفين، نجد أن الدولة المستعمِرة قد ألغت الكتابة الرسمية باللغة العربية تمامًا في هذه الدواوين، وحلّ محلها لغة المستعمِر لغة الدولة الغالبة جعلتها لغة رسمية في الدولة المغلوبة. وترتّب على هذا: أن الأعمال الوظيفية المهمة في الدولة؛ لكي يقوم بها فرد من أفراد الشعب لا بدّ أن يتعلّم أولًا اللغة التي يتعامل بها في هذا الديوان، سواء كانت لغة إنجليزية أو لغة فرنسية، مما ترتّب على ذلك: هجْر اللغة العربية في دواوين الحكومة، ودواوين الموظفين، وفي مراحل التعليم المختلفة.

وبدأ في اتّجاه آخَر: العمل على نشر اللهجات المحلية أو اللغة العامية في شتّى أنحاء الوطن العربي. لو تصفّحنا العالَم العربي بلدًا بلدًا أو قطرًا قطرًا، لا نجد قطرًا عربيًّا -إلا نادرًا- يخلو من الكتابة، والدعوة، وإثارة العواطف، وإثارة القوميات نحو استعمال اللهجة المحلية لهذا البلد أو ذاك محلّ اللغة العربية الفصحى. وعلى سبيل المثال وليس على سبيل الحصر، وجدْنا أنّ مِن أوائل مَن دعا وألّف ونشر الدعوة إلى اللغة العامية لتحلّ محلّ اللغة العربية الفصحى: موظّف في دار الكتب المصرية اسمه: “الهلموسبيتا” كان مديرًا لدار الكتب المصرية في النصف الأخير من القرن التاسع عشر. بمجرد أن احتلت إنجلترا مصر 1882م، بدأ هذا الرجل في وضع كتاب سمّاه: (قواعد اللغة العربية العامية في مصر)، وأورد في هذا الكتاب كلّ ما أراد أن يقف عليه من عوامل ووسائل التنفير من اللغة الفصحى، والدعوة إلى اللغة العامية؛ حتى إنه يقول: “إن التزامكم -يعني: يا شعب مصر- الكتابة باللغة العربية الكلاسيكية القديمة -التي هي العربية الفصحى- لا يمكن أن ينمو في ظلها -في ظل هذه اللغة الفصحى- أدب حقيقي، أو يتطور العلم؛ لأن الطبقة المتعلِّمة القليلة العدد هي وحْدها التي يمكن أن يكون الكتاب في متناول يدها، أما بالنسبة إلى جماهير الناس فالكتاب شيء لا يعرفونه بتاتًا. فإذا احتاج رجل عادي من عامّة الشعب إلى كتابة خطاب أو تنفيذ وثيقة، فعليه أن يضع نفسه وهو غامض العينيْن تحت يدي كاتب محترف”.

أتروْن المغالطة؟! الرّجل العامي أصلًا لا يكتب لا باللغة العامية ولا باللغة الفصحى. إذا كان يقرأ ويكتب، فهو ليس بأمّي، فهو يقرأ الفصحى؛ لماذا ندعوه إلى كتابة وقراءة العامية؟ وهل حقيقة أن اللغة الفصحى تعوق نموّ الأدب وتطوّره؟ ألم يقف هذا الرجل على الأدب الجاهلي قبل الإسلام، الأدب العربي في عصوره المختلفة في العصر الأموي والعباسي: القصة، والشعر، وفنون الأدب المختلفة، كيف نمت وتطورت في ظل اللغة العربية الفصحى. هذه الأكاذيب التي روّج لها هذا الرجل في كتابه وَجَدت من يتبنّاها تحت سمع وبصر الاستعمار الإنجليزي في مصر. وربما من المفيد أن نعلم: أن هذا الكتاب كان له أثر كبير في إقامة كثير من الندوات والمؤتمرات حول مقارنة اللغة العربية الفصحى بالعامية تحت دعوى: صعوبة الفصحى وسهولة العامية، وأن الفصحى لا تتّسع للُغة العلم وتضيق عنها، أمّا اللغة العامية فتتّسع لها.

في هذه المعركة قال شاعر النِّيل حافظ إبراهيم قصيدته المعروفة: “اللغة العربية تنعي حظّها”، وقال فيها: إن اللغة العربية تتّسع للُغة العلْم كما اتّسعت للُغة القرآن الكريم:

وسعتُ كتابَ الله لفظًا وآيةً

*وما ضِقْتُ عن آيٍ به وعِظاتِ

فكيف أضيق اليومَ عن وصْفِ آلةٍ

*وتنسيقِ ألفاظٍ لمختَرَعاتِ؟!

هذا ما قاله حافظ إبراهيم ليُفنِّد به دعوى هؤلاء الذين يتّهمون العربية بالجمود، وعدم مسايرة لغة العلْم.

وبعد “الهلموسبيتا” هذا، جاء أيضًا اللورد “دوفرين” ووضع تقريرًا أراد أن يبيِّن فيه: أنه لا أمل يُرجى لتقدّم مصر إلا إذا هجرت العربية الفصحى، وأحلّتْ محلّها اللغة العامية المصرية. وقال: “إنّ أمَل التّقدم ضعيف في مصر، طالما أنّ العامة تتعلم اللغة الفصيحة العربية، لغة القرآن الكريم -كما هو في الوقت الحاضر- ولكي يتقدّموا لا بد أن يَهجروا الفصحى”.

ثم جاء بعده “كارل فولرس” ووضع كتابًا أيضًا عن أهمية اللهجة العربية الحديثة في مصر. وتوالت المؤلّفات التي تبنّت الدعوة إلى هذه القضية؛ فوجدنا مثلًا “ولمور” الذي كان قاضيًا في المحاكم الأهلية بالقاهرة. نحن نعلم أنّ الإنجليز لما أتوا مصر ألغَوا المحاكم الشرعية -وهذا أثر من آثار الاستعمار- وأتَوا مكانها بمحاكم تسمّى: المحاكم المختلطة. كان هذا الرجل يعمل قاضيًا في المحاكم الأهلية بمصر، ووضع كتابًا في سنة 1901م سمّاه: (العربيّة المحكيّة). “المحكيّة” يعني: اللغة العامية الدارجة على اللسان. وقارن بين سهولتها وصعوبة العربية الفصحى. وتوالت القضية أيضًا.

لم تكُفّ أقلام المستشرقين عن اتّهام الفصحى، والدعوة إلى العامِّيّة. وكان من أخطر ما وُضع في هذه المرحلة: كتاب المستشرق الإنجليزي: “وليم ويل كوكس”. هذا الرجل كان مهندسًا للرّيّ في القاهرة -لا موظفًا في دار الكتب، ولا قاضيًّا؛ وهذا يدلّكم على أنّ هذه المهمة -قضية اللغة الفصحى- كانت تشغل كل العاملين في مصر من الإنجليز. ولكي تعلموا النشاط الاستشراقي: هذا الرجل كان يعمل مهندس ريّ، وفي نفس الوقت كان مستشرقًا مهتمًّا بتهجين الثقافة المصرية بالثقافة الإنجليزية. هذا الرجل وضع كتابًا عن اللهجة المحلية، ومقارنتها باللغة العربية الفصحى أيضًا. ثم ألقى محاضرة في نادي الأزبكية في أواخر القرن 19 -للأسف الشديد- على مسامع المصريِّين. في هذه المحاضرة، كان يخاطب عرب مصر، ويدعوهم ألا يتقيّدوا بالعربية الفصحى. وكان ممّا قاله في هذه المحاضرة -وهي وثيقة من أخطر الوثائق التي تُدين الاستشراق وموقفه من القرآن ومن الإسلام، ومن الفصحى.

ماذا يقول هذا الرجل؟ إنه ربط في هذه المحاضرة انحطاط قوة الاختراع والإبداع في عقلية العرب بتقيّدهم وتأليفهم بالعربية الفصحى. وحاول أن يبعد أو يلفت أنظار المستمعين، أو يربط بين تخلّف المنطقة وكتابتها للفصحى وقراءتها للقرآن، بدلًا من أن ينبِّههم ويرشدهم إلى أنّ التخلف سببه عدم الأخذ بالمنهج العلمي، وعدم توظيف العلْم. لا، بل يقول لهم: سبب تخلّفكم هو: اللغة والقرآن.

وكانت هذه المحاضرة من أخطر المحاضرات التي ابتدأ بها الاستعمار في القرن العشرين نشاطه في تحويل ولفت أنظار المثقّف المصري عن اللغة العربية. وهذا الرجل أيضًا لم يَأْلُ جهدًا عن الدعوة إلى العامية. فنجده في سنة 1926م وهذه السنة هي السنة التي وضع فيها علي عبد الرازق كتابه عن (الإسلام وأصول الحكم)، وهي نفس السنة التي وضع فيها طه حسين كتابه عن (الشعر الجاهلي)، وهي السنة التي أعلن قبلها بعاميْن اثنيْن فقط سقوط الخلافة العثمانية. في هذه السنة ألّف “ولكوكس” رسالة أو كتابًا بعنوان: (سوريا ومصر وشمال إفريقيا). هذه البلاد تمثِّل محورًا مهمًّا على البحر الأبيض المتوسط، أو تمثّل المنطقة الجغرافية المسلمة المطلّة على البحر الأبيض المتوسط. وبيّن في هذه الرسالة: أن هذه المنطقة لكي تلحق بأوربا الواقعة في شمال البحر الأبيض المتوسط، لا بدّ أن تتخلّى عن أمريْن اثنيْن: عن لغتها، وعن دِينها.

أرأيتم أثر الاستشراق في دعْوته إلى هجر اللغة الفصحى، وربطه بين التمسك بالفصحى، والتخلف؟ وصارت هذه القضية تمثّل عدوى على ألْسنة بعض المثقفّين -للأسف الشديد- العرب؛ فوجدْنا لويس عوض في مصر، وجدنا أنيس فريحة وسعيد عقل في بيروت، وجدْنا طه حسين في (مستقبل الثقافة في مصر) وغيرهم، يتبنَّوْن الدعوة إلى العامية، ووجوب تقليد أوربا في كل ما تذهب إليه من مناح ومناهج ثقافية.

error: النص محمي !!