أسباب الاستشراق وعلاقته بالاستعمار
هذه أيضًا نقطة تحتاج إلى شيء من التوضيح. تكلّمنا بشيء من الإيجاز عن أسباب ظاهرة الاستشراق. هذه الأسباب بعضها يرجع إلى أسباب سياسية، وبعضها يرجع إلى أسباب اقتصادية، وبعضها إلى أسباب استعمارية، وبعضها يرجع إلى أسباب دينية؛ لكن من المهمّ هنا: أن نبيِّن أهمّ هذه الأسباب، وأيُّها كان أكثر فاعلية وأكثر أثرًا في ظاهرة الاستشراق ونشاط هذه الظاهرة.
نركِّز على الأسباب الدينية باعتبارها أهمّ أسباب ظاهرة الاستشراق في الماضي وفي الحاضر، وستظل أهمّ هذه الأسباب في المستقبل أيضًا.
حقيقة؛ لا يمكن إرجاع هذه الظاهرة إلى سبب واحد أو إلى عامل اجتماعي واحد، لكن من أهمّ هذه الأسباب: السبب الدِّيني. نحن لا ننكر الأسباب الأخرى، ولكن كان للسبب الديني أثر واضح في نشاط هؤلاء المستشرقين، وفي تنشيط هذه الحركة على مرّ العصور. لماذا؟
نحن نجد أنّ أبرز أسماء المفكرين الذين مارسوا ظاهرة الاستشراق، وعاشوها علمًا وعملًا، وأفْنَوا حياتهم من أجْلها وفي سبيلها، كانوا رهبانًا في الكنائس. أيضًا كان أوّل من مارس هذه الظاهرة تاريخيًّا هم: رهبان يعملون في الكنائس. فكان للسبب الدِّيني ما يمكن أن أسمِّيه سيطرة كاملة على بقية الأسباب الأخرى. ربما ظهرت الأسباب الأخرى متأخِّرة، لكن سبب نشأة هذه الظاهرة وسبب استمراريّتها -بل أكثر من هذا- سبب اهتمام الدول الأوربية بتنمية هذه الظاهرة هو: سبب دينيّ، وسوف نبيِّن ذلك بالوثائق الرسمية فيما يلي.
لقد سلك المستشرقون وسائل شتّى لتحقيق هذا الهدف الديني، وكان من أخطر هذه الوسائل هو: التركيز على إثارة القضايا الخلافية في الفكر الإسلامي، والعمل على إحياء الآراء الشاذة للفِرَق المغالية، ليشغل المسلمون أنفسهم بها عن التفكير في عظائم الأمور. فعمدوا إلى إثارة الخلافات المذهبية بين الشِّيعة والسُّنة أحيانًا، وبين الصوفية وأهل السُّنة أحيانًا أخرى. بل أكثر من هذا: إن بعضهم قد تخصّص في التركيز على القضايا الخلافية فقط. ولعلّ أكبر من مارس هذه القضية: “هنري كوربان” الذي تخصّص في الدراسات الشيعيّة. نشَر الكثير من مخطوطاتها، ألّف الكثير من الكتب التي تتّصل بقضايا الصراع بين غلاة الشِّيعة وبين بقيّة الفِرَق الإسلامية. بعضهم تخصص في تاريخ الباطنية وكتب عنها كتابات كثيرة جدًّا، وركّز على القضايا الخلافية بين الباطنية وبين عقائد الإسلام. وبعضهم كتب عن القرامطة، وتخصّص في شرح وتوضيح وتفصيل دقائق عقائد القرامطة، واعتبرها حركة اجتماعية. وبعضهم تخصّص في الدراسات الصوفية، وركّز بالذات على الشخصيات الشاذة في تاريخ الفكر الصوفي. وبعضهم تخصّص في دراسة الحلاج. وبعضهم تخصّص في دراسة ابن عربي. وبعضهم كتب عن ابن الفارض. ويا ليتهم كتبوا عن الجوانب المضيئة في هذه الشخصيات، ولكنهم ركّزوا على الجوانب الشاذة في فكرهم، كقضيّة الحلول والاتّحاد، وقضية وحدة الوجود. وبعضهم تخصّص أيضًا في تاريخ الفلسفة الإسلامية، واعتبر الفلسفة الإسلامية صورة مشوّهة للفكر اليوناني. هذه كلّها أمور تؤكِّد لنا: أنّ السبب وراء ظاهرة الاستشراق يَكمن في العامل الدِّينيّ، وفي نفس الوقت لا نُلغي العوامل الأخرى.
هذا الهدف الديني إذا كنّا نتكلّم عنه بشيء من الاستنتاج، فإنّ المستشرقين أنفسهم قد صرّحوا به في أكثر من موقع قديمًا وحديثًا. والذي يهمّنا بالدرجة الأولى الآن: أن نطرح على حضراتكم بعض الوثائق الرسمية التي كتَبها شخصيّات استشراقية كبيرة لها سمعتها العلمية، وكان يشغل منصبًا دبلوماسيًّا في دولته، لأبيِّن لكم: أنّ الدول الغربية أفادت من الدراسات الاستشراقية، وأفادت من المستشرقين كأفراد، ليجمع المستشرق في عمله الوظيفي بين أمريْن: بين مهمّته كعالِم، ومهمّته كرجل دولة يرسم لدولته الخطط لتتعامل بأسلوبٍ سهل وميسور وعلميّ مع الدولة التي يعيش فيها.
هذه الشخصية التي اخترتُها لكم هي: شخصية فرنسية كانت تعمل في وزارة الخارجية الفرنسية في مطلع القرن العشرين، وهو: (هانوتو). هذا المفكر كان يعمل في وزارة الخارجية الفرنسية، ووضع خطابًا أو كتَب مقالًا صرّح فيه بما نُشير إليه الآن أنّ عمَلَه كمستشرق هو عمل دينيّ بالدرجة الأولى، وليس عملًا دبلوماسيًّا. وبعد أن طرحنا هذه الوثيقة على كثير من المفكّرين، أعتقد أنه لم يَعُد هناك مبرِّر للقول بأنّ الاستشراق ظاهرة علمية موضوعية، تكتب بموضوعية عن التاريخ الإسلامي وعن الحضارة الإسلامية! لا؛ هذا الكلام أصبح لا معنى له بعد أن صرّح المستشرقون أنفسُهم: أنّ هدفهم دينيّ، وأنّ هدفهم هو: القضاء على التاريخ الإسلامي والحضارة الإسلامية.
ماذا قال (هانوتو) في مقالِه الذي نُشر في مطلع القرن العشرين؟
لقد احتلّت فرنسا الجزائر كما هو معروف، وفي هذه الفترة في بداية احتلال فرنسا للجزائر، كتب هانوتو مقالًا تحت عنوان: “المسألة الإسلامية”. وكانت هذه العبارة بالخط الكبير جدًّا في المجلة التي نَشر فيها (هانوتو) هذا المقال. هذا المقال أيضًا من المهمّ أن نَعْلم أنه ترجم إلى اللغة العربية في جريدة “المؤيّد” المصرية. وتولى الرّد عليه في مطلع القرن العشرين مفكرّان كبيران جدًّا، هما: جمال الدين الأفغاني، والإمام محمد عبده.
يقول (هانوتو) في هذا المقال: “إنه لا يوجد مكان على ظهر الأرض إلّا وقد اجتاز الإسلام فيه حدودَه مُنتشرًا في جميع الآفاق. فهو الدين الوحيد الذي أمكن انتحال الناس له زُمَرًا وأفواجًا، جماعاتٍ وأفرادًا، وهو الدِّين الوحيد الذي تَفُوق شدةُ الميل إليه والتديّن به كلّ ميلٍ إلى اعتناق دِين آخَر. إنّ هذا الدِّين قائم الدعائم ثابت الأركان في أوربا عيْنِها. فلقد صارت فرنسا في كل مكان في صلة مباشرة مع الإسلام؛ بل صارت في صدر الإسلام وكبِده. ليس الإسلام في داخلنا فقط؛ بل هو خارج عنّا أيضًا، قريب منّا في مراكش، قريب منّا في طرابلس الغرب، قريب منّا في مصر. وهو شائع ومنتشر في بلاد آسيا كلّها، ولا يزال الهلال الإسلامي يمتدّ طرفاه من جهةٍ بمدينة القسطنطينية في تركيا، ومن جهةٍ أخرى في فاس في بلاد المغرب الأقصى معانقًا بذلك الغرب كلّه ومنه بلاد فرنسا”.
عليك أن تتخيّل معي هذا التصور. (هانوتو) يقول لساسَة فرنسا: “إن الهلال الإسلامي يمتد من الأستانة في بلاد الشرق إلى فاس في بلاد المغرب العربي، ويحتضن هذا الهلال بين دفّتيْه دوَل أوربا كلها ومنها دولة فرنسا”. بل كان يشير هذا الرجل إلى البحر الأبيض المتوسط، ويُسمِّيه: “البحيرة الإسلامية”، إثارةً لحفائظ أو لحفيظة أوربا كلِّها ضد الإسلام.
يقول (هانوتو) أيضًا: “إن هذا الدين قائم في الأستانة؛ حيث عجزت الشعوب المسيحية عن استئصاله هناك من هذا الركن المنيع الذي يحكم منه على البحار الشرقية، ويفصل الدول الغربية بعضها عن بعض شطريْن”. ثم يعلن (هانوتو) صراحةً: “إنه لا بد من العمل على تفكيك تلك الرابطة التي تجمع بين المسلمين شرقًا والمسلمين غربًا على سطح المعمورة، فتجعل منهم أمّةً واحدة.
هذه الرابطة هي: رابطة الدين، هي: رابطة الإسلام، هي: العقيدة التي يَدين بها المسلم. هي العقيدة التي يضحِّي المسلم بروحه ونفسه ومالِه من أجْلها. لا بد من العمل على إضعاف هذه الروح السائدة التي تحرّك المسلمين مِن سُباتهم”. ثم يشير (هانوتو) إلى قضيّة خطيرة جدًّا، إلى رمز وحدة المسلمين في شعيرة الحج.
نحن نعلم: أنّ مكة -حرسها الله- تمثِّل رمزًا لمسلمي العالَم كله شرقِه وغرْبه، خاصةً في شعيرة الحج؛ حيث يلتفّ المسلمون حول الكعبة المشرّفة يطوفون حولها تأديةً لشعيرة الحج والعمرة، لا فَرق بين مسلم صينيّ ومسلم مصريّ، لا فرق بين غني وفقير. في هذه المنطقة تذوب الفوارق بين الطبقات، والفوارق بين العناصر والأجناس، والفوارق بين اللغات، لينصهر الكل في بوتقة واحدة مهلِّلين مكبِّرين موحِّدين: “لا إله إلا الله، محمد رسول الله”.
(هانوتو) يشير إلى قضية خطيرة جدًّا تتعلق بالبيت الحرام وبمكة وبالكعبة وبشعيرة الحج، يقول (هانوتو): “إن المسلمين متى اقتربوا من الكعبة، متى اقتربوا من البيت الحرام، متى اقتربوا من ماء زمزم المقدّس، متى اقتربوا من الحجر الأسود، وحقّقوا بأنفسهم أمنيتهم العزيزة التي استحثّتهم على ترْك بلادهم في أقصى مُدن العالم شرْقه وغرْبه للفوز بجوار الخالق في بيت الله الحرام، اشتعلت جذوة الحميّة الدينيّة في قلوبهم. إن رابطة الإخاء التي تجمع بين أفراد المسلمين في شعيرة الحج كفِيلَة بأن تجعل المسلم في شرق الأرض وغرْبه يهبّ لنصرة المسلم في أيّ مكان كان. هذا العامل ينبغي أن يكون عاملًا مؤرقًا لفرنسا كلِّها في المستعمرات التي تخضع لها”.
هذا كلام (هانوتو)، وهذه إشارة (هانوتو) إلى وضع مكة، ووضْع الكعبة، ووضْع الحجر الأسود بالنسبة للتخطيط الاستعماري، وبالنسبة لأوراق العمل التي يرسمها المستشرقون لأصحاب القرار السياسي في أوربا المعاصرة.
ما زال الخطاب موجودًا. ومن هنا يقول (هانوتو): “فإن العمل على إضعاف هذه الرابطة بين المسلمين كانت ولا زالت تمثِّل هدفًا ينبغي أن يَضَعه أصحاب القرار السياسي في أجِنْدَتهم اليومية، ولا يغمضوا أعينهم عنها”. هذا ما كتبه (هانوتو) في مطلع القرن العشرين.
وهذه القضية نفسها قد صرّح بها وكتب عنها المستشرق الفرنسي (كيمون) في كتاب أسماه “أنثولوجيا الإسلام”. كتب عن الإسلام، وعن الرسول صلى الله عليه وسلم يصرِّح بمثل ما صرّح به (هانوتو) وأكثر من ذلك؛ حيث وصف الرسول صلى الله عليه وسلم بصفات يخجل القلم عن تسطيرها. وركّز بصفة عامة على العوامل التي توحِّد المسلمين، وكيف يوجِّهون سهامهم إليها لكي ينحلّ هذا العقد -عقد الوحدة- بين المسلمين.
أعتقد بعد هذه الوثيقة، وبعد ظهورها وترجمتها إلى اللغة العربية، نقول ونصرِّح مطمئنِّين جدًّا إلى أنّ الأسباب الدينية وظاهرة العداء للإسلام وللمسلمين، كانت أهمّ الأسباب وأهمّ الدوافع وراء ظاهرة الاستشراق قديمًا. وأعتقد أنها ستظل إلى وقت ليس بالقريب تمثّل هاجسًا مهمًّا جدًّا في موقف المستشرقين من الإسلام والمسلمين.
إذا أضفنا إلى هذا السبب: أنّ أوّل من اشتغل بعلوم الشرق بحثًا ودراسةً كان راهبًا وقسيسًا، ثم عمل بعد ذلك بابا لروما فيما بعد. كما أن معظم المشتغلين بعلوم الشرق من رجال الكهنوت المسيحي واليهودي. لا يمكن أن نتصوّر هؤلاء مجرَّدين من عواطفهم الدينية أبدًا؛ بل إنهم كانوا مدفوعين إلى هذا اللون من الدراسة بدافع الانتصار لدِينهم. إنّ هذه النوايا التي عبّرت عنها نصوص (هانوتو) و(كيمون) تجعلنا نثِق في صدْق سيطرة السبب الديني، وهيمنته على الأسباب الأخرى، وفي نفس الوقت لا نستبعد أن تكون هناك أسباب اقتصادية كما يقول البعض، وأسباب عسكرية كما يقول البعض. ولذلك تنوّعت الدراسات الإسلامية عند المستشرقين. وإذا كان السبب الدِّينيّ هو أهمّ هذه الأسباب كما رأينا، فأنا لا أستبعد أن يكون وراء ظاهرة الاستشراق أسبابٌ استعماريةٌ؛ لأن الاستعمار الذي ظهر في القرن الثامن عشر قد استغل الدراسات الاستشراقية استغلالًا سيئًا، وأفاد من الدراسات التي كتبها المستشرقون حول العالم الإسلامي شرْقه وغرْبه.
ولعلَّ مما يجعل الأسباب الاستعماريَّة لظاهرة الاستشراق لها شيء من الوجاهة: أنَّ أوربا كلّها لم تغفل يومًا ما عن أنَّ صلاح الدين قد هزَمَهم في بيت المقدس، وظلَّ الأمل يراود أوربا طيلة هذه العصور المتتالية على تخليص بيت المقدس من أيدي المسلمين. ومَن يقرأ تاريخ العلاقة بين الشرق والغرب بعد الحروب الصليبية، يوقن تمامًا أنّ أوربا ومفكِّري أوربا لم تغمض أعينهم إطلاقًا عن الشرق. وسوف أحيل القارئ الكريم إلى كتاب مهمّ جدًّا كتبه أمير البيان العربي شكيب أرسلان تحت عنوان “التعصب والتسامح بين أوربا والإسلام”.
في هذا الكتاب، بيّن شكيب أرسلان: أن أوربا قد وضعت مائة مشروع لتقسيم العالم الإسلامي، وللسيطرة على خيرات العالم الإسلامي، وللسطو على الحضارة الإسلامية. مائة مشروع. تعاون في وضع هذه المشاريع كلّها مفكرو أوربا بلا استثناء، ابتداء من فرنسا وإسبانيا، مرورًا بألمانيا وإيطاليا وبلجيكا. معظم المفكّرين الذين عاشوا في القرن الثامن عشر والتاسع عشر جمع هذا المفكّر موقفهم من العالم الإسلامي، ومن التاريخ الإسلامي، ومن العالم الإسلامي جغرافيًّا في كتاب، وبيّن في هذا الكتاب المشروعات الاستعمارية التي انطلقت منها أوربا إلى القضاء على الخلافة العثمانية، وبالتالي توزيع تركة الخلافة العثمانية على دول أوربا فيما بعد.
ففي عصر الاستعمار، أفاد المستعمرون بلا شك من الدراسات الاستشراقية التي كتبها المستشرقون عن العالم الإسلامي. وكان من الوسائل التي سلكها الغرب لتحقيق هدفهم الاستعماري: وهي تلك الدراسات، وخاصةً ما كتبه “جولد تسيهر”، و”مارجليوث”، و”ماكدونالد”، و”سبينوزا”، و”نيكلسون”، و”شاخت”، و”جِب”، وغيرهم.
هذا الدّوْر الذي قام به المستشرقون قد مهّد السبيل للاستعمار لكي يحتلّ بلاد المسلمين بأيسر السُّبل؛ فلم يكد ينتهي القرن التاسع عشر إلّا ووجدنا بلاد أوربا بلا استثناء قد احتَلّت معظم البلاد الإسلامية، والبلاد العربية بصفة خاصة. فوضعت فرنسا يدها على سوريا ولبنان ومعظم دول شمال إفريقيا الإسلامية. فاحتلت المغرب، واحتلت الجزائر، واحتلت تونس. كما وضعت إنجلترا يدها على معظم بلاد العرب التي توجد في آسيا وأفريقيا أيضًا. فاحتلت مصر، واحتلت السودان، كما احتلت العراق والأردن وفلسطين. ووضعت يدها على كثير من الإمارات العربية أو الولايات العربية الموجودة في دول الخليج العربي. وبدأ الاستعمار من هذا التاريخ يتعامل مع المنطقة بأسلوب جديد؛ حيث عمل على إضعاف روح المقاومة في نفوس المسلمين، ليجعل منهم شعوبًا قابلةً للفكر الاستعماري، وللثقافة الاستعمارية، وللحضارة الاستعمارية، وللعقيدة التي جاء الاستعمار ليبشّر بها في بلادنا. وهذا أخطر ما أصيب به العالم الإسلامي في القرن التاسع عشر؛ بحيث وجدنا العالم الإسلامي كلّه دخل القرن العشرين وهو محتلّ سياسيًّا، وعسكريًّا، وثقافيًّا.
ومن هنا لا نستبعد أبدًا أن يكون للاستشراق أسبابًا استعمارية مهّدت للاستعمار العسكري لهذه البلاد ولهذه المنطقة كلها. وابتداءً من القرن العشرين وجدْنا بذور الشك والتشكيك في ماضي هذه الأمّة، وفي تراثها وفي حضارتها، ليُفقِد المسلمَ ثقته في نفسه أولًا، ويفقد ثقته في ماضيه وفي حضارته وفي انتمائه؛ وبالتالي يبدأ يجدّد أو يتعامل مع الواقع الجديد، فيثق في الاستعمار أو يتعامل مع الاستعمار على أنه المخلِّص، وأنه الوسيلة الوحيدة للتحضر، وما إلى ذلك من الدعاوى التي يثيرها المستشرقون تحت دعاوى التنوير والتقدمية، والمنهج العلمي والأسلوب العلمي وما إلى ذلك … ولذلك وجدْنا الاستعمار وضَع مفاهيم جديدة للمنطقة تتعامل بها في مناهج التربية والتعليم، وفي الخطط الثقافية لوزارات الثقافة والإعلام. وكان مِن أخطر ما أثاره في المنطقة هي: النزعة القبلية أو النزعة القومية التي تبنّاها رجل تربَّى في أحضان الاستعمار، ونهَل من مَواردهم، ورضَع لبانهم، وأتى إلى المنطقة لينفّذ خططًا استعماريةً مرسومةً له في نوادي أوربا كلها، وهو: مصطفى كمال أتاتورك الذي قوّض الخلافة العثمانية التي كانت رمزًا لوحدة المسلمين. وبعد أن انفكّت عُرى هذه الدولة بدأت الدول الاستعمارية تتلقّف الأقاليم التي كانت خاضعةً لها إقليمًا إقليمًا كما بيّنّا في الإشارات السابقة.
من هنا نستطيع أن نؤكِّد على: أن العامل الدِّيني والعامل الاستعماري كانا من أهم العوامل وراء ظاهرة الاستشراق.
نقطة أخرى ننتقل إليها وهي: أن أعمال المستشرقين كانت تسير بشكل منظّم ومدروس وفقًا لخطَط معيّنة. من أهمّ المدارس التي ينبغي أن ننوّه بها: أن الاستشراق لم يكن قاصرًا على مستشرق نصراني أو يهودي أو ملحد! لا؛ بل إن ظاهرة الاستشراق جمعت بين صفوفها وبين مَن اهتمّوا بها: أصحاب الديانات المختلفة، بل من لا دين له من الملحدين. ولذلك نجد أن هناك ما يمكن أن نسمِّيه بالمدرسة النصرانية الاستشراقية بفرعيها: المدرسة الكاثوليكية والمدرسة البروتستانتية الفنتيكية. وهذان الفرعان يلتقيان في الأعمال والأهداف وإن اختلفا في بعض الآراء والمذاهب؛ بحيث نجد أن المدرسة الكاثوليكية كانت كتاباتها واهتماماتها موجّهة إلى نصوص العقيدة في القرآن الكريم، وفي السُّنة النبوية المطهرة، وفي شخصية الرسول صلى الله عليه وسلم هذه المدرسة الكاثوليكية وجهت اهتماماتها أيضًا إلى العوامل الخارجية الموجودة في التراث الإسلامي.
نحن نعلم أنّ الحضارات الإنسانية كالأواني المستطرقة يأخذ اللاحق عن السابق؛ وهذا شيء مشروع في جميع الحضارات. فلم تكن الحضارة الإسلامية بدعًا في ذلك. نجد أنّ هذه المدرسة ركّزت على الجوانب أو العوامل الخارجية المؤثِّرة في مسار الحضارة الإسلامية.
أما المدرسة البروتستانتية، فنجد أنّ معظم المنتمين إليها كانوا يجمعون بيين فكر صهيوني يهودي، وبين انتماء ماسوني عالمي، وبين الأخذ بأسباب العمل الاستشراقي العلمي. فوجدنا من بين هؤلاء المنتمين إلى المدرسة البروتستانتية مَن يغذي فكرة أنّ فلسطين أو أرض فلسطين هي أرض الميعاد. ويغذِّي فكرة أنّ إسرائيل تاريخيًّا كان لها وجود في هذه المنطقة، ويغذِّي فكرة أنّ العرب دخلاء على منطقة أو على أرض فلسطين، ويحاول أن يستدل على ذلك بآراء ونصوص يخترعها ويَكذبها على التاريخ الإسلامي من هنا وهناك. ويستغل أسطورة موجودة في التوراة تحت ما يُسمّى بالنبوءة بعودة المسيح عليه السلام إلى أرض الميعاد، ليحكم العالم في الألفية الثالثة التي نحن نعيشها الآن. ولكي ينزل السيد المسيح إلى الأرض ويحكم العالم من أرض فلسطين أو من أورشليم القدس، لا بدّ أن تقوم دولة إسرائيل.
وهذا يُفسّر لنا -أيها القارئ الكريم: مبدأ التعاطف الذي لا مبرّر له بين السياسة الأمريكية بعد الحرب العالمية الأولى، وبين دولة إسرائيل. وقد عبّر عن هذا بعض ساستهم في كثير من المواقف؛ حيث قالوا: إنّ بيننا وبين دولة إسرائيل تراثًا مشتركًا. هذه الفئة من المستشرقين البروتستانت بالذات أسّسوا ما يسمَّى بالجمعية الصهيونية الصليبية في القرن التاسع عشر. لاحظ الكلمتين: “صهيونية”: هذا مصطلح يهودي، و”صليبية”: هذا مصطلح مسيحي، وفّقوا بين الاثنين ليقولوا: إنّ هدف هذه المدرسة بما فيها من انتماء لليهودية وانتماء للمسيحية هدَفها واحد وهو: العمل على نصرة دولة إسرائيل، لينزل السيد المسيح في أورشليم القدس، ليحكم العالم من هذه المنطقة في الألفية الثالثة. هذه المدرسة النصرانية.
هناك ما يمكن أن نسمّيه بالمدرسة اليهودية، وهذه المدرسة لها أهداف خاصة تحاول من القرن السابع عشر إلى الآن. تؤسّس فكرة الصهيونية العالمية، تستخدم المنهج الماسوني العالمي في إثارة القلاقل بين الشعوب بعضها البعض، وبين الحكومات وشعوبها، وتعمل على إثارة القلاقل في المناطق التي تريد أن ترسّخ فيها أقدامها تاريخيًّا. ولعل من أشهر مفكِّري هذه المدرسة أو المستشرقين المنتمين إلى المدرسة اليهودية: “مارجليوث” وموقفه من القرآن الكريم -وقد نتعرض لهذه القضية فيما بعد- وسبينوزا وموقفه من الكتب المقدسة … إلى آخره.
وبين هاتيْن المدرستيْن اللتيْن تنتميان إلى الشريعتين السماويتيْن: اليهودية والنصرانية، هناك مستشرقون ينتمون إلى المدرسة الإلحادية العامة التي تُنكر جميع الأديان، وتشكك في جميع الأديان، وتشكك في الوحي السماوي، وفي قضية النبوّة، وتعتبر أن الأديان -أو ظاهرة الأديان عمومًا كما تسميها- ظاهرة اجتماعية تاريخية، وأنّ الكتب المقدسة ظهرت على الأرض نتيجة ظروف اجتماعية معيّنة، وينبغي أن يتخلّص العالَم من هذه الكتب المقدسة، ويعيش بعقله وعلْمه بعيدًا عمّا يُسمّى بالمقدّس، وينادون بأنه لا مقدّس إلّا العقل والعلم.
هناك أيضًا مفكّرون ينتمون إلى المدرسة الإلحادية الشيوعية، التي تتبنّى الفكر الماركسي، وتحاول أن تعمل على إشاعته. ومن فضل الله: أن هذه المدرسة قد انتهت بانتهاء المذهب الشيوعي من على وجه الأرض، بانحلال أو تفكّك روسيا المعاصرة؛ وبالتالي نشاط هذه المدرسة كاد يضمحلّ تمامًا بسقوط روسيا وسقوط أعلامها من على خارطة العالم الجغرافية.