أسباب التعزير، وخصائصه، ومراتبه
من المعلوم أن الجرائم لا تنشأ إلا عن معصية، والخروج عن طاعة الله -تبارك وتعالى- ومن هنا نعرف أن أسباب التعزير، هي: ارتكاب المعصية بمخالفة أمر الله تعالى، أو إتيان منهي عنه؛ وحينئذ فالمعاصي جميعها جرائم تستوجب العقوبة، فإن جاء نص من الشارع بتقدير عقوبة معينة في جريمة بعينها، كان من الحدود كما في جريمة السرقة، والحرابة، وشرب الخمر، أما إذا لم يأتِ نص من الشارع بتقدير العقوبة في الجريمة، أصبحت من الجرائم التي تدخل في باب التعزير؛ وهو إما أن يكون واجبًا، أو جائزًا كما هو معلوم، وهذا في ارتكاب المعاصي التي تكون محرمة مستوجبة للإثم والعقاب.
أما في مخالفة أمر ثبت أنه للندب، أو ارتكاب فعل منهي عنه، فهي كراهة؛ فإن ذلك لا يعد سببًا يوجب التعزير، إلا إذا كان ممن نقتدي به، أو اعتاده مرتكبه، ومصرًّا عليه بحيث تكرر منه أكثر من مرة؛ فإن للحاكم في تلك الحالة أن يعزِّر على ترك المندوب، أو ارتكاب المكروه.
وبهذا يُعلَم أن عقوبات التعزير وجرائمه، مما تدخل تحت النصوص العامة التي تأمر بطاعة الله، وتنهى عن مخالفته، وبهذا صح قول من قال: أنه لا جريمة ولا عقوبة إلا بنص، وأن ذلك كما يشمل جرائم الحدود، يشمل أيضًا جرائم التعزير، وغاية ما هنالك أن نصوص الحدود جاء كل نَصٍّ منها متعلقًا بجريمة خاصة، وأما جرائم التعزير، فإن نصوصها لم تعين سببًا خاصًّا، ولا عقوبة معينة، ولعلنا بهذا نلاحظ دقة التشريع الإسلامي، وحكمته البالغة، في أنه لم يحصر جرائم التعزير في عدد معين، كما لم يخصص لكل جريمة عقوبة خاصة، فإن صنيعة ذلك ممكن للقاضي، أو الحاكم، أي: عمل القاضي، أو الحاكم، حيث يستطيع القاضي، أو الحاكم أن يضع لكل مخالفة ما يناسبها من العقوبة، بحيث لا تفلت جريمة من الجرائم دون أن ينال فاعلها ما يستحقه من الجزاء.
كما أن للقاضي أيضًا سلطة واسعة في الحكم على الجريمة بحسب ما تحدثه من الضرر، وما ينتج عنها من الأثر؛ فيحكم بالعقوبة المناسبة لها، كما أنه فتح الباب لإدخال جرائم لم تكن معروفة في عصر من العصور، أو بيئة من البيئات؛ ليضع لها الجزاء المناسب، وقد صدَّق الواقع صحة هذا الوضع في التشريع الإسلامي، حيث وجدت جرائم فيما جدَّ من العصور لم تكن معروفة من قبل كخطف الطائرات، أو استعمال الأصوات المزعجة من سائقي السيارات، أو المذياع، أو تصوير الصور الخليعة، إلى غير ذلك مما يمكن إدراجه في جرائم التعزير.
خصائص العقوبة التعزيرية:
للعقوبة التعزيرية خصائص، ومميزات تميزها عن الحدود، ويمكن أن تستنتج فيما يلي:
أولًا: أنها عقوبة غير مقدَّرة، ولا معينة النوع، وبهذا يمكن للحاكم الزيادة، أو النقص في مقدار ما يحكم به منها، كما أن للحاكم أن يستبدل به نوعًا آخر من أنواع العقوبات التي تُصلح من شأن الجاني، وتردع غيره، وتحقق مصلحة الجماعة، وحينئذ فسلطة الحاكم في التعزير غير مقيدة، إلا بما توجبه المصلحة من إصلاح الفرد، والمحافظة على مصلحة الجماعة.
وينبني على هذه الخاصية، أن التعزير يمكن اختلافه باختلاف الأشخاص والأحوال في الجريمة الواحدة؛ فربما مستهتر مثلًا يناسبه أن يشدّد عليه العقوبة، لا سيما إذا عمَّ الفساد، وخيفت الفتنة، ورُب ذي مروءة كان التخفيف عنه، أو تركه أدخل في باب الصلح له من عقوبته، أي: أن الحاكم له أن يقدر من العقوبة ما يراه مناسبًا لصالح المقترف، ولصالح الجماعة، حتى وإن اختلفت، فلو فرضنا مثلًا أن شخصًا ما اقترف معصية، أو مخالفة لله -تبارك وتعالى- وهذه المخالفة أو تلك المعصية لم يرد فيها حد، أو نص مقرر في الشريعة الإسلامية؛ فإن للحاكم أن يقرر العقاب المناسب لمن اقترف تلك المعصية، وقد يقترف شخص آخر نفس المعصية، إلا أن القاضي قد يرى أن المصلحة ألا تقام عليه نفس العقوبة التي حكم بها على من اقترف نفس المعصية، إذن هذا أمر يرجع إلى تقدير القاضي، يقدره حسب ما يرى من المصلحة.
ثانيًا: أن العقوبة التعزيرية، لا يشترط فيها البلوغ، بل قد تقام على الصبي الذي وصل إلى سن التمييز؛ ولذا قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((مروا أولادكم بالصلاة لسبع، واضربوهم عليها لعشر))؛ وذلك لأن الصبي قد يحتاج إلى التأديب والتهذيب بما يقوِّمه وينشِّئه على التديُّن، ويجعله إنسانًا صالحًا.
ثالثًا: أن جرائم التعزير، لا يتشرط في شهودها أن يكونوا على صفة خاصة أو عدد معين، بل تجوز فيها شهادة الواحد، وشهادة النساء، وربما أمكن إثباتها بالتهمة إذا صاحَبتها قرائن تفيد الوقوع، كما أن العقوبة فيها تقبل الإسقاط في بعض الحالات، ومن ثم يقبل فيها الشفاعة.
أنواع التعزير، أو مراتب التعزير:
إذا كانت عقوبة التعزير لم تُعين صفة، ولا مقدارًا، ولا نوعًا، فإن الشارع قد نبه على بعض أنواع منها؛ لتكون أصلًا في مشروعيتها؛ وذلك أنه شرع الضرب، والهجر بقوله تعالى: { وَاللَّاتِي تَخَافُونَ نُشُوزَهُنَّ فَعِظُوهُنَّ وَاهْجُرُوهُنَّ فِي الْمَضَاجِعِ وَاضْرِبُوهُنَّ فَإِنْ أَطَعْنَكُمْ فَلَا تَبْغُوا عَلَيْهِنَّ سَبِيلًا} [النساء: 34]، كما شرع الحبس، بقوله سبحانه: { فَأَمْسِكُوهُنَّ فِي الْبُيُوتِ حَتَّى يَتَوَفَّاهُنَّ الْمَوْتُ أَوْ يَجْعَلَ اللَّهُ لَهُنَّ سَبِيلًا} [النساء: 15]، وقد ثبت أن رسول الله صلى الله عليه وسلم حبس الغريم المماطل، كما ثبت عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال لأصحابه في رجل أقاموا عليه حد الشرب: ((وبخوه))، كما ثبت عنه أيضًا، أنه عاقب مانع الزكاة بأخذ بعض ماله، حيث قال صلى الله عليه وسلم: ((فإنا آخذوها وشطر ماله)).
ومن هذا نعلم أن الهجر، والضرب، والسجن، والتوبيخ، والتغريم، تعتبر من أنواع العقوبات التعزيرية، أو من مراتب العقوبات التعزيرية، كما يجوز للحاكم أيضًا إحداث عقوبات أخرى بحسب ما يستحدث من الجرائم، وما يراه أردع، وأصلح لحال الفرد والمجتمع؛ بحيث لا تكون مما نهى الشارع عنه كالمثلة، والكي بالنار، أو تشويه الجاني بقطع أذنه، أو حلق لحيته مثلًا أو نحو ذلك.
بعد ذلك نقول: هل يمكن أن يجتمع التعزير مع غيره من العقوبات المقررة، كالحد، والقصاص؟
من المعلوم أن التعزير، إنما يكون في كل معصية لا حد فيها ولا كفارة، وتعليل ذلك: أن العقوبة المقدرة من حد، أو قصاص، وكذلك الكفارة، هي الأجزية التي أوردها الشارع للجرائم، وما دام أن للفعل عقوبة مقدرة، فالمفروض أن تُغني عن العقوبة التعزيرية غير المقدرة.
ولكن هل يمكن مع ذلك، أن يجتمع التعزير مع هذه الأجزية المشار إليها، أو أن ذلك غير جائز؟
إن الذي يستعرض أقوال الفقهاء، يجد شواهد كثيرة على جواز اجتماع التعزير مع الحد، أو القصاص؛ فعند الحنفية مثلًا، القول بأنهم لا يرون التغريب للزاني غير المحصن حدًّا، بل يُقصرون حدَّه على الجلد مائة، ولكنهم مع ذلك يجيزون أن يضاف التغريم إلى حد غير المحصن، فيغرب الجاني بعد أن يضرب مائة جلدة، ويقولون: “إن ذلك جائز على سبيل التعزير إن رؤيت فيه المصلحة”.
من خلال هذا نفهم أنه قد يجتمع التعزير مع الحد، خاصة فيما يتعلق بحد غير المحصن؛ فيضرب الجاني مائة ويغرب، وقد جاء في (معين الحكام)، ما يؤيد هذا في حديث النبي صلى الله عليه وسلم عن أبي هريرة أنه صلى الله عليه وسلم أمر أصحابه بتبكيت شارب الخمر -يعني: بتوبيخ شارب الخمر بعد الضرب- فأقبلوا عليه يقولون: ما اتقيت الله، ما خشيت الله، ما استحييت من رسول الله؛ وهذا التبكيت ليس إلا تعزيرًا بالقول.
من هذا نقول: بجواز اجتماع التعزير مع الحد، كذلك أيضًا من يتتبع فقه المالكية، يجد أنهم قالوا: “إن الجارح عمدًا يُقتص منه ويؤدب”، وعلى ذلك فهم يرون في الاعتداء على ما دون النفس عمدًا، جواز اجتماع التعزير مع القصاص، ويعللون ذلك: بأن القصاص يقابل الجريمة، وهو حق للمجني عليه، ولكن التعزير للتأديب والتهذيب، وهو من حق الجماعة، وهذا التعليل لا يصح إذا كانت الجناية هي القتل العمد؛ لأن جزاءها هو الإعدام قصاصًا، ومع الإعدام لا يكون هناك محل للتعزير بقصد التأديب، ولكن يمكن التعزير إذا امتنع القصاص لسبب ما من الأسباب التي يسقط بها القصاص كالعفو مثلًا؛ وذلك حتى لا يظل الجاني دون عقاب.
وعندهم كذلك كما عند الحنفية، أن شارب الخمر يجوز تعزيره بالقول بعد إقامة حد الشرب عليه؛ للحديث السابق في معرض الكلام عن فقه الحنفية.
كذلك عند الشافعية، ما يفيد ذلك حيث قيل: إن المراد بالتعزير في كل معصية لا حد فيها، أن يدخل في نطاق التعزير جرائم الاعتداء على ما دون النفس المستوجبة للقود كقطع الأطراف عمدًا؛ وعلى ذلك يجوز أن يجتمع التعزير مع القصاص فيما دون النفس في جرائم الاعتداء على البدن.
وعند الحنابلة أيضًا، يجوز تعليق يد السارق في عنقه بعد القطع، ويستندون في ذلك بما روي أن النبي صلى الله عليه وسلم أتي بسارق فقطعت يده، ثم أمر بها، فعلِّقت في عنقه، وعلى أن عليًّا فعل ذلك أيضًا.
ويمكن بناءً على ما تقدم، القول بأن التعزير شرع في كل معصية ليست فيها عقوبة مقدرة، وهذه قاعدة، ولكن ليس هناك ما يمنع من أن يجتمع التعزير مع العقوبة المقدرة، إذا كان في ذلك مصلحة.