أسباب العناية باتصال الإسناد عند التابعين
جَدَّ التابعون في متابعة الإسناد؛ يقول ابن سيرين: لم يكونوا يسألون عن الإسناد, فلما وقعت الفتنة قالوا: سموا لنا رجالكم؛ فينظر إلى أهل السنة فيؤخذ حديثهم، ويُنظر إلى أهل البدع فلا يُؤخذ حديثهم, وقال أيضًا: لقد أتى على الناس زمان وما سئل عن إسناد الحديث؛ فلما وقعت الفتن سئل عن إسناد الحديث.
وروى الخطيب بسنده إلى يحيى بن سعيد, عن إسماعيل بن أبي خالد, عن الشعبي, عن الربيع بن خثيم أنه قال: “من قال: لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد، وهو على كل شيء قدير؛ فله كذا وكذا” وسمى من الخير، قال الشعبي: فقلت: من حدثك؟ فقال: عمرو بن ميمون، وقلت: من حدثك -أي: لعمرو بن ميمون-؟ فقال: أبو أيوب صاحب رسول الله -صلى الله عليه وسلم-, قال يحيى بن سعيد: وهذا أول ما فتش عن الإسناد، واستمر ذلك بعدهم.
روى الخطيب بسنده عن عبد الله بن سلمة بن أسلم, أنه قال: “ما كنا نتهم أن أحدًا يكذب على رسول الله -صلى الله عليه وسلم- متعمدًا؛ حتى جاءنا قوم من أهل المشرق فحدّثوا عن أصحاب النبي -صلى الله عليه وسلم- الذين كانوا عندهم بأحاديث لا نعرفها، قال: فارتقيت أنا ومالك بن أنس فقلت: يا أبا عبد الله، والله إنه لينبغي لنا أن نعرف حديث رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ممن هو؟ وعمن هو؟ وعمن أخذنا؟ فقال: صدقت يا أبا سلمة؛ فكنت لا أقبل حديثًا حتى يسند لي، وتحفظ مالك بن أنس الحديث من أيامئذ؛ فجئت عبد الله بن الحسن في السويقة فقال: يا ابن سلمة بن أسلم، ما بلغني؟ إنك تحدث تقول: حدثني فلان عن فلان، قلت: بلى؛ خلَّط علينا شيعتكم من أهل العراق، وجاءونا بأحاديث عن بعض أصحاب النبي -صلى الله عليه وسلم- فحدثته بعض ما حفظت -أي: من تحديثهم- فعجب له وقال: أصبت يا ابن أخي؛ فزادني في ذلك رغبًا”. وقال أبو العالية: أنتم أكثر صلاةً وصيامًا ممن كان قبلكم؛ ولكن الكذب قد جرى على ألسنتكم، وقال إبراهيم -أو مسروق-: كنا نحدث قبل أن تُلطَّخ الأحاديث -أي: قبل أن يضاف إليها ما ليس منها.
وعن أبي خشينة قال: حدثنا محمد بن سيرين يومًا حديثًا؛ فقلنا: يا أبا بكر، من حدثك؟ قال: حدثني أيوب السختياني، عليكم به. وقال أبو بكر بن عياش: كنا نسمي الأعمش “سيد المحدثين”؛ فكنا نمر به إذا انصرفنا من عند المشيخة، وكان يقول لنا: عند من كنتم اليوم؟ فنقول: عند فلان، فيقول: جيدٌ، ويعقد ثلثين -أي: إنه في العلم نسبته نسبة الثلثين إلى الواحد الصحيح- ثم يقول: عند من كنتم اليوم؟ فنقول: عند فلان، فيقول بأصابعه -أي: ما به بأس، أي: يترجح قليلًا إلى جانب الصواب، ويحرك أصابعه- فيقول: عند من كنتم اليوم؟ فنقول: عند فلان، فيقول بأصابعه إلى فوق: طيار -أي: لا قيمة له في الحديث- ثم يقول: عند من كنتم اليوم؟ فنقول: عند فلان؛ فيقول: طبل مخرق -أي: لا خير فيه.
وقال الأعمش: كان أصحابي أشرافًا لا يكذبون، وصرنا مع قوم إن كان أحدهم ليحلف عشرين يمينًا على قطعة سمك أنها سمينة وهي مهزولة. وعن مثل هؤلاء يقول الحسن البصري: إن أحدهم يبيع دينه بثمن غنم. وادَّعى من ادعى سماع من لم يسمع، روى مسلم بسنده عن همام أنه قال: قدم علينا أبو داود الأعمى؛ فجعل يقول: حدثنا البراء وحدثنا زيد بن أرقم، قال: فذكرنا ذلك لقتادة، فقال: كذب, ما سمع منه؛ إنما كان ذلك -أي الرجل- سائلًا يتكفف الناس -أي: يأخذ منهم القليل- زمن طاعون الجارف. وطاعون الجارف كان سنة سبع وثمانين, وقيل: سنة سبع وستين من الهجرة.
وروي عن همام أنه قال: دخل أبو داود الأعمى على قتادة؛ فلما قاموا قالوا: إن هذا يزعم أنه لقي ثمانية عشر بدريًّا، فقال قتادة: هذا كان سائلًا قبل الجارف؛ لا يعرض في شيء من هذا ولا يتكلم فيه؛ فوالله ما حدثنا الحسن -وهو أكبر من هذا الرجل- عن بدري مشافهة، ولا حدثنا سعيد بن المسيب عن بدري مشافهة إلا عن سعد بن مالك، أي: ابن أبي وقاص.
وفي (لسان الميزان) لابن حجر ذكر سعيد بن ميسرة البكري البصري أبو عمران عن أنس، قال البخاري: عنده مناكير، منكر الحديث، وقال ابن حبان: يروي الموضوعات، وكذَّبه يحيى القطان، وذكر ابن عدي أحاديث له عن أنس وقال: هو مظلم الأمر؛ فهذا ينسب إلى أنس أنه أخذ عنه, وما يرويه عن أنس ليس له أصل عن أنس.
وروى مسلم بسنده عن أبي إسحاق أنه قال: لما أحدثوا تلك الأشياء بعد علي-رضي الله عنه-, قال رجل من أصحاب علي: قاتلهم الله, أيَّ علم أفسدوا؟! قال النووي: أشار بذلك إلى ما أدخله الروافض والشيعة على علم علي وحديثه، وتقوّلوه عليه من الأباطيل أو أضافوه إليه من الروايات والأقاويل المفتعلة المختلقة، وخلطوه بالحق؛ فلم يتميز ما هو صحيح عنه مما اختلقوه.
وروى مسلم بسنده إلى المغيرة -وهو ابن مقسم الضبي- أنه قال: لم يكن يصدق عن علي في الحديث إلا أصحاب عبد الله بن مسعود، وروى مسلم بسنده عن الشعبي أنه قال: حدثني الحارث الأعور الهمداني -وكان كذابًا- وروى بسنده عن المغيرة عن إبراهيم أنه قال: قال علقمة: قرأت القرآن في سنتين، فقال الحارث: القرآن هين؛ الوحي أشد. وروي عن الحارث أنه قال: تعلمت القرآن في ثلاث سنين والوحي في سنتين، أو الوحي في ثلاث سنين والقرآن في سنتين، ويقصد بالوحي: ما اختص به علي من الأسرار التي لا تعلم إلا عن طريقه، ومن هنا قال إبراهيم: إن الحارث اتُّهم، قال النووي: مراد الحارث بالوحي هنا: ما عرف من قبح مذهبه وغلوّه في مذهب الشيعة، ودعواهم الوصية إلى علي، وسر النبي -صلى الله عليه وسلم- من الوحي وعلم الغيب مما لم يطلع عليه غيرهم بزعمهم.
من هنا كانت العناية في آخر عهد الصحابة وفي عهد التابعين بأحوال الرواة، واتصال الأسانيد.