أسباب عذاب القبر
الأسباب التي يعذب بها أصحاب القبور على قسمين: مجمل، ومفصل.
أما المجمل: فإنهم يعذبون على جهلهم بالله، وإضاعتهم لأمره، وارتكابهم معاصيه.
وأما المفصل: فإن النصوص ذكرت منه الكثير، وسنشير إلى بعضٍ من الأحاديث؛ فقد ورد أنّ عَدم الاستتار من البول والنميمة يؤدي إلى العذاب في القبر, حيث روى البخاري ومسلم في صحيحيهما عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: مَرّ النبي صلى الله عليه وسلم على قبرين فقال: ((إنهما يعذبان وما يعذبان في كبير))، ثم قال: ((بلى، أما أحدهما فكان يسعى بالنميمة، وأما الآخر فكان لا يستتر من بولِهِ)) ثم أخذ عودًا رطبًا فكسره باثنتين، ثم غرز كل واحد منهما على قبره، ثم قال: ((لعله يخفف عنهما ما لم ييبسا)).
ثم روى النسائي عن عائشة رضي الله عنها قالت: دخلت علي امرأة من اليهود فقالت: إن عذاب القبر من البول, فقلتُ: كذبتِ، فقالت: بلى, إنا نقرض منه الجلد والثوب. فخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الصلاة وقد ارتفعت أصواتنا, فقال: ((ما هذا؟)) فأخبرته بما قالت، فقال: ((صدقت))، قالت: فما صلى بعدُ يومئذ إلا قال دبر كل صلاة: ((ربَّ جبرائيل وميكائيل وإسرافيل, أعذني من حر النار وعذاب القبر)).
وهذا الذي أشار إليه الحديث من أن بني إسرائيل كانوا يقرضون من البول الجلد والثوب -هو من الدين الذي شرعه الله لهم؛ ولذلك لما نهاهم عن فعل ذلك أحدُهُم عُذِّبَ في قبره بسبب نهيه، ففي حديث عبد الرحمن بن حسنة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((ألم تعلموا ما لقي صاحب بني إسرائيل؟ كانوا إذا أصابهم البولُ قطعوا ما أصابه البول منهم؛ فنهاهم عن ذلك فعُذِّبَ في قبره)). فهذا أول ما يعذب عليه في قبره، وهو عدم الاستتار من البول والنميمة.
ومما يُعذب به في القبر: الغُلُول، وغلَّ من المغنم يَغُلُّ –بالضم- غُلُولًا، والغلول من المغنم خاصة، وهو من الذنوب التي يُعَذَّبُ صاحبُهَا في القبر، وقد صح في ذلك أكثر من حديث؛ فعن أبي هريرة قال: أهدى رجلٌ لرسولِ الله صلى الله عليه وسلم غلامًا يقال له: “مِدْعَم”, فبينما مدعم يحط رحلًا لرسول الله صلى الله عليه وسلم إذ أصابه سهمٌ غائرٌ -أي: لا يُدْرى من رماه- فقتله، فقال الناس: هنيئًا له الجنة، فقال الرسولصلى الله عليه وسلم: ((كلا، والذي نفسي بيده إن الشملة التي أخذها يوم خيبر من المغانم لم تصبها المقاسم -لتشتعل عليه نارًا)) فلما سمع ذلك الناسُ جاء رجل بشرِاكٍ أو شراكين إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: ((شراك من نار، أو شراكان من نار)) متفق عليه.
وعن عبد الله بن عمرو قال: كان على ثِقْلِ النبي صلى الله عليه وسلم رجلٌ يقال له: “كَرْكَرة” فمات، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((هو في النار)) فذهبوا ينظرون إليه, فوجدوا عباءةً قد غَلَّهَا.
ومن أسباب عذاب القبر: الكذب، وهجر القرآن، والزنا، والربا؛ فقد أرى الله رسوله صلى الله عليه وسلم أنواعًا مما يعذب به بعض العصاة, ففي (صحيح البخاري) عن سمرة بن جندب قال: كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا صلى صلاة أقبل علينا بوجهه، فقال: ((من رأى منكم الليلة رؤيا؟)) قال: فإن رأى أحد قصها, فيقول: ((ما شاء الله)). فسألنا يومًا فقال: ((هل رأى أحد منكم رؤيا؟)) قلنا: لا، قال: ((لكني رأيت الليلة رجلين أتياني فأخذا بيدي، فأخرجاني إلى الأرض المقدسة، فإذا رجل جالس ورجل قائم بيده كَلُّوب من حديد)).
قال بعض أصحابنا عن موسى: ((إنه يُدخِل ذلك الكلوب في شِدْقِهِ حتى يبلغ قفاه، ثم يفعل بشدقه الآخر مثل ذلك، ويلتئم شدقه هذا فيعود فيصنع مثله، قلتُ: ما هذا؟ قالا: انطلق، فانطلقنا حتى أتينا على رجل مضطجعٍ على قفاه، ورجلٍ قائمٍ على رأسه بفِهْر أو صخرة فيشدخ به رأسه، فإذا ضربه تدهده الحجر، فانطلق إليه ليأخذه؛ فلا يرجع إلى هذا حتى يلتئم رأسه، وعاد رأسه كما هو، فعاد إليه فضربه، قلت: من هذا؟ قالا: انطلق, فانطلقنا إلى ثَقْبٍ مثل التنور أعلاه ضيق، وأسفله واسع يتوقد تحته نارًا، فإذا اقترب ارتفعوا حتى كادوا أن يخرجوا، فإذا خمدت رجعوا فيها، وفيها رجال ونساء عراة، فقلت: من هذا؟ قالا: انطلق, فانطلقنا حتى أتينا على نهر من دم، فيه رجل قائمٌ على وسطِ النهرِ)).
قال يزيد، ووهب بن جرير، عن جرير بن حازم: ((وعلى شط النهر رجل بين يديه حجارة, فأقبل الرجل الذي في النهر، فإذا أراد أن يخرج رمى الرجل بحجرٍ في فِيهِ فرده حيث كان، فجعل كلما جاء ليخرج رمى في فيه بحجر فيرجع كما كان، فقلت: ما هذا؟ قالا: انطلق، فانطلقنا حتى انتهينا إلى روضة خضراء فيها شجرة عظيمة، وفي أصلها شيخ وصبيان، وإذا رجلٌ قريب من الشجرة, بين يديه نار يوقدها, فصعدا بي الشجرة, وأدخلاني دارًا لم أرَ قط أحسن منها, فيها رجال شيوخ وشباب ونساء وصبيان، ثم أخرجاني منها فصعدا بي الشجرة، فأدخلاني دارًا هي أحسنُ وأفضل, فيها شيوخ وشباب، قلتُ: طوفتماني الليلةَ فأخبرَانِي عمَّا رأيت، قالا: نعم، أما الذي رأيته يُشَقّ شِدْقُهُ فكذاب يحدث بالكَذْبة، فتحمل عنه حتى تبلغ الآفاق، فيصنع به إلى يوم القيامة، والذي رأيتَهُ يُشدَخ رأسه فرجل علّمه الله القرآن، فنام عنه بالليل ولم يعمل فيه بالنهار, يُفْعَلُ به إلى يوم القيامة، والذي رأيتَهُ في الثَّقْبِ فهم الزناة، والذي رأيتَهُ في النهر آكلو الربا، والشيخ في أصل الشجرة إبراهيم عليه السلام, والصبيان حوله أولاد الناس، والذي يوقد النارَ مالك خازن النارِ، والدار الأولى التي دخلتَ دار عامة المؤمنين، وأما هذه الدار فدارُ الشهداء, وأنا جبريل وهذا ميكائيل, فارفع رأسك. فرفعت رأسي فإذا فوقي مثل السحاب، قالا: ذاك منزلك، قلتُ: دعاني أدخل منزلي، قالا: إنه بقي لك عمر لم تستكملْهُ، فلو استكملت أتيتَ منزلك)).
ومن أسباب عذاب القبر: حبس المدين في قبره بدَيْنه؛ فمما يضر الميت في قبره ما عليه من دَيْن, فعن سعد بن الأطول رضي الله عنه: أن أخاه مات وترك ثلاثمائة درهم، وترك عيالًا، قال: فأردت أن أنفقها على عيالِهِ, قال: فقال لي نبي الله صلى الله عليه وسلم: ((إنّ أخاك محبوسٌ بدينه, فاذهب فاقضِ عنه))، فذهبت فقضيت عنه، ثم جئت فقلت: يا رسول الله، قد قضيت عنه إلا دينارين ادعتهما امرأة وليس لها بينة، قال: ((أعطها؛ فإنها محقة)) وفي رواية: ((صادقة)).
فقد أخبر الرسول صلى الله عليه وسلم أن ذلك الصحابي محبوس بسبب دينه، ويمكن أن يفسر هذا الحبس الحديث الآخر، حيث قال الرسول صلى الله عليه وسلم: ((إنه مأسور بدينه عن الجنة)) ففي الحديث الذي يرويه سمرة بن جندب: أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى على جنازة -وفي رواية: صلى الصبح- فلما انصرف قال: ((أههنا من آل فلان أحد؟)) فسكت القوم، وكان إذا ابتدأهم بشيء سكتوا. فقال ذلك مرارًا ثلاثًا لا يجيبه أحد، فقال رجل: هو ذا، قال: فقام رجلٌ يجرّ إزاره من مؤخر الناس، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: ((ما منعك في المرتين الأوليين أن تكون أجبتني؟ أما إني لم أنوه باسمك إلا لخير؟ إن فلانًا -لرجل منهم- مأسورٌ بدينه عن الجنة؛ فإن شئتم فافدوه وإن شئتم فأسلموه إلى عذاب الله، فلو رأيت أهله ومن يتحرون أمره)) فقاموا فقضوا عنه, حتى ما أحد يطلبه بشيء.
ومن أسباب عذاب القبر: عذاب الميت ببكاء الحي, فعندما طُعن عمر بن الخطاب رضي الله عنه دخل عليه صهيب يبكي، يقول: وَا أَخَاهُ, وَا صَاحِبَاهُ. فقال عمر رضي الله عنه: يا صهيب، أتبكي عليّ وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إِنَّ الْمَيِّتَ يُعَذَّبُ بِبَعْضِ بُكَاءِ أَهْلِهِ عَلَيْهِ))؟
وهنا ينبغي أن ينبه إلى أنه ليس كل ميتٍ يُنَاح عليه يعذب بالنياح عليه؛ فقد يندفع حكم السبب بما يعارضه -كما يقول شيخ الإسلام ابن تيمية- كما يكون في بعض الناس من القوة ما يدفع ضرر الأصوات الهائلة، والأرواح والصور الخبيثة. ثم ذكر أن أحاديث الوعيد يذكر فيها السبب، وقد يتخلَّفُ موجبه لموانع تدفع ذلك، إما بتوبةٍ مقبولةٍ، وإما بحسنات ماحية، وإما بمصائب مكفرة، وإما بشفاعة شفيع مطاع، وإما بفضل الله ورحمته ومغفرته. وبيّن في خاتمة كلامه أن ما يصيب الميت المؤمن من عذاب في قبره بما نيح عليه؛ يكفر الله به عنه سيئاته.