(أسرار البلاغة) و(دلائل الإعجاز) للجرجاني
يبقى لنا أن نتحدث عن كتابين مهمين ومشهورين لناقد كبير، ومعروف بدراساته البلاغية المتميزة، وبأنه كان إماما في مجال الدراسة البلاغية المهتمة ببيان إعجاز القرآن الكريم، هذا الإمام هو الإمام عبد القاهر الجرجاني، وكتاباه المعروفان هما: (أسرار البلاغة)، و(دلائل الإعجاز).
ولد الإمام عبد القاهر سنة أربعمائة من الهجرة، وتوفي سنة أربعمائة وإحدى وسبعين، وهو عبد القاهر بن عبد الرحمن أبو بكر الجرجاني، النحوي المشهور. أخذ النحو عن أبي الحسين محمد الفارسي، وكان من كبار أئمة العربية، وكان عبد القاهر شافعي المذهب، أشعري الأصول مع دين وسكون، وله شعر منه قوله:
لا تأمن النفثة من شاعر | * | ما دام حيًّا سالمًا ناطقًا |
فإن من يمدحكم كاذبًا | * | يحسن أن يهجوكم صادقًا |
ومن شعره:
كبَِّر على العقل يا خليلي | * | ومل إلى الجهل ميل هائم |
وكن حمارًا تعش بخير | * | فالسعد في طالع البهائم |
ويبدو أن هذا كان من الشعر الساخر بما يحصل في بعض الأحيان من ضيق عند العلماء والعقلاء، ورؤيتهم الجهال وهم يعيشون حياة سعيدة، فكأن العقلاء يغبطونهم على ذلك، وذلك شبيه بقول المتنبي:
ذو العقل يشقى في النعيم بعقله | * | وأخو الجهالة بالشقاوة ينعم |
وكان للإمام عبد القاهر مؤلفات كثيرة، منها: (المغني) في ثلاثين مجلدًا، وهو شرح لـ(الإيضاح في النحو) لأبي علي الفارسي، ومنها: (التكملة)، و(الإيجاز)، و(الجمل في النحو)، و(التلخيص)، و(العمدة في التصريف)، و(شرح الفاتحة)، وأشهر مؤلفاته: (أسرار البلاغة) و(دلائل الإعجاز).
وقد ألف عبد القاهر الجرجاني كتابه (أسرار البلاغة) أولًا، ثم ألف (دلائل الإعجاز) بعد ذلك، والدليل على هذا أنه يُحيل في (دلائل الإعجاز) على (أسرار البلاغة)، وقد درس في (أسرار البلاغة) المعاني ووجوهها، وكيف تتفق وتختلف، ومن أين تجتمع وتفترق، وتتبع خاصها ومشاعها، وفصل أجناسها وأنواعها، وخص كثيرًا من كتابه ببحث المجاز، والاستعارة، والتمثيل، والتشبيه، والتخييل؛ لأنها صور المعاني، ولأنها القطب الذي تدور حوله البلاغة.
ثم ألف بعد ذلك كتابه (دلائل الإعجاز)، وأثبت فيه أن المزية والوصف الذي كان به الإعجاز هو الفصاحة، والبلاغة، والبيان، وأن هذه المزية والفصاحة ليست إلا حسن الدلالة وتمامها، وتبهرجها في صورة رائعة من النظم، أو هي أن يؤتى المعنى من الجهة التي هي أصح لتأديته، ويختار له اللفظ الذي هو أخص به، وأنه لا مزية لعبارة على أخرى إلا بقوة دلالتها على الغرض المقصود، وذلك راجع إلى النظم.
فهو يبحث في كتاب (أسرار البلاغة) عن المعاني وما يتصل بها، وفي (دلائل الإعجاز) عن النظم وصلته الوثيقة بالمعنى، وأنه هو الذي تقع فيه المزية، أي: في النظم، وهو موضع الفصاحة ومكانها، وقد ربط النظم بمعاني النحو ووجوهه؛ فأوجب صلة بين النحو والبيان، وكان فيما يكتب -كما يقول الدكتور خفاجي- يترجم عن فلسفة النحو، أو كان نحويًّا بليغًا.
ويثبت عبد القاهر في (الدلائل) أمورًا على جانب كبير من الأهمية، ومنها: المزية والبلاغة التي كان بها الإعجاز هي في النظم، لا في اللفظ أو المعنى؛ فالنظم هو الذي كان فيه المزية، ونظرية النظم هي ما قام عليه كتاب عبد القاهر وطريقته في إثبات إعجاز القرآن الكريم، والنظم: هو توخي معاني النحو وأحكامه، وهو متصل بالمعنى اتصالًا وثيقًا، فليست المزية في اللفظ من حيث هو لفظ وحروف، ولكن من حيث هو نظم وتأليف، وفي معناه من حيث إن هذا النظم إنما هو نظم تابع للمعاني، ومقتفٍ أثرها، ودالٌّ عليها، وأنه لولا معناه لم يكن شيئًا مذكورًا؛ ولذلك فالسجع والتجنيس لولا أنهما يتبعان المعنى لم يكن فيهما غناء، والتقديم والتأخير، والحذف، والفصل، والقصر، ووجوه الخبر، والحال، ومواقع إن، كل هذه إنما تتبع المعنى، وتتغير تبعًا لتغيره، وكل ما زاد على جزء الجملة يتغير به معنى الجملة، أو يتغير معنى الجملة به، وهذه الزيادة زيادة في معنى.
وقد درس الإمام عبد القاهر عددًا كبيرًا من المشكلات الأدبية والبيانية والنقدية التي كانت مطروحة في عصره، وأبدى رأيه فيها، ومن ذلك أنه أبان مدى قيمة عنصر المعنى في النص الأدبي، ومع ذلك فقد ردَّ ردًّا شديدًا على من يقدمون الشعر لمعناه، ويقللون من الاحتفال باللفظ، ولا يرون الجودة إلا في أن يكون الشعر قد أودع حكمة وأدبًا، أو اشتمل على تشبيه غريب ومعنى نادر، فإن مالوا إلى اللفظ شيئًا لم يحفلوا بغير الاستعارة.
وفي هذا السياق يستدل بكلام الجاحظ الذي يقول فيه: “والمعاني مطروحة في الطريق يعرفها العجمي والعربي، والقروي والبدوي، وإنما الشأن في إقامة الوزن، وتخير اللفظ، وسهولة المخرج، وصحة الطبع، وجودة السبك، وإنما الشعر صياغة وضرب من التصوير”، فأهمية المعنى عنده لا تقلل من احتفاله بالصياغة والألفاظ.
ونفى عبد القاهر أن تكون الفصاحة صفة للفظ من حيث هو لفظ، وذلك في مواضع كثيرة من كتابيه العظيمين، والنظرية التي وضعها عبد القاهر تستقى من كتابيه (أسرار البلاغة) و(دلائل الإعجاز)؛ ففي (الأسرار) تحدث عبد القاهر عن المعاني الثانوية ذات العلاقة اللزومية، بينما تحدث في (الدلائل) عن وجوه النظم وأسراره، فبحوثه في الأسرار ترجع إلى الكلمة المفردة من حيث دلالتها على معانيها، وذلك في التشبيه والتمثيل والاستعارة، والمجاز، والكناية.
أما في (الدلائل) فإنه يبحث في الأسلوب وخصائصه ووجوهه، والفروق البلاغية التي تدور حول هذه الوجوه، ومن كلامه الذي ورد دالًّا على تكامل هذه البحوث: “ما رأينا في الدنيا عاقلًا اطّرح النظم والمحاسن التي هو السبب فيها في الاستعارة، والكناية، والتمثيل، وضروب المجاز والإيجاز، وصَدّ بوجهه عن جميعها، وجعل الفضل كله والمزية أجمعها في سلامة الحروف”.
كان عبد القاهر الجرجاني يرى أن اللفظ رمز لمعناه، وأن العلاقات الأسلوبية بين الألفاظ هي موطن البلاغة، ولا يغفل عبد القاهر أهمية المعاني الثانوية، ودلالتها الجمالية في النص الأدبي؛ سواء أكانت هذه المعاني الثانوية معاني لزومية، أو من مستتبعات التراكيب، أو أثرًا لرموز صوتية وإيحاءات نفسية، فهي التي تعطي الأسلوب دلالته البلاغية وتمنحه قيمة جمالية كبيرة، وكثير من المهارة الأدبية راجع إلى إطلاق تلك المعاني الثانوية؛ لتأثيرها في الخيال.
ويصوغ عبد القاهر فلسفته البلاغية من هذه القيم جميعًا، وجعل ذلك كله أساسًا لنظريته في النظم، التي ربط فيها بين اللفظ والمعنى، وبين دلالات الألفاظ الأسلوبية ودلالاتها الثانوية، وجعل النظم وحده هو مظهر البلاغة ومسار القيمة الجمالية في النص الأدبي.
إذًا: الإمام عبد القاهر يذهب إلى أن إعجاز القرآن الكريم كائن في نظمه، وأن هذا النظم يُبحث عنه في علاقات الألفاظ بعضها ببعض، وليتضح هذا المعنى نأخذ شيئًا مما قاله في فصل بعنوان “في تحقيق القول على البلاغة والفصاحة والبيان والبراعة وكل ما شاكل ذلك، مما يعبر به عن فضل بعض القائلين على بعض من حيث نطقوا، وتكلموا، وأخبروا السامعين عن الأغراض، والمقاصد، وراموا أن يعلموهم ما في نفوسهم، ويكشفوا لهم عن ضمائر قلوبهم”، يقول: “ومن المعلوم ألا معنى لهذه العبارات، وسائر ما يجري مجراها، مما يفرد فيه اللفظ بالنعت والصفة.
وينسب فيه الفضل والمزية إليه دون المعنى غير وصف الكلام بحسن الدلالة وتمامها فيما له كانت دلالة، ثم تبرجها في صورة هي أبهى وأزين وآنق وأعجب، وأحق بأن تستولي على هوى النفس، وتنال الحظ الأوفر من ميل القلوب، وأولى بأن تُطلق لسان الحامد، وتطيل رغم الحاسد، ولا جهة لاستعمال هذه الخصال، غير أن يؤتى المعنى من الجهة التي هي أصح لتأديته، ويختار له اللفظ الذي هو أخص به وأكشف عنه، وأتم له، وأحرى بأن يكسبه نبلًا ويظهر فيه مزية.
وإذا كان هذا كذلك فينبغي أن ينظر إلى الكلمة قبل دخولها في التأليف، وقبل أن تصير إلى الصورة التي بها يكون الكلم إخبارًا وأمرًا ونهيًا واستخبارًا وتعجبًا، وتؤدي في الجملة معنى من المعاني التي لا سبيل إلى إفادتها إلا بضم كلمة إلى كلمة، وبناء لفظة على لفظة”.
ثم يقول: “وهل تجد أحدًا يقول: هذه اللفظة فصيحة، إلا وهو يعتبر مكانها من النظم، وحسن ملاءمة معناها لمعاني جاراتها، وفضل مؤانستها لأخواتها؟
وهل قالوا: لفظة متمكنة ومقبولة، وفي خلافه: قلقة ونابية ومستكرهة، إلا وغرضهم أن يعبروا بالتمكن عن حسن الاتفاق بين هذه وتلك من جهة معناهما، وأن السابقة لم تصلح أن تكون لفقًا للتالية في مؤداها؟
وهل تشك إذا فكرت في قوله تعالى: {وَقِيلَ يَا أَرْضُ ابْلَعِي مَاءكِ وَيَا سَمَاء أَقْلِعِي وَغِيضَ الْمَاء وَقُضِيَ الأَمْرُ وَاسْتَوَتْ عَلَى الْجُودِيِّ وَقِيلَ بُعْداً لِّلْقَوْمِ الظَّالِمِين} [هود: 44]، فتجلى لك منها الإعجاز وبهرك الذي ترى وتسمع، أنك لم تجد ما وجدت من المزية الظاهرة، والفضيلة القاهرة إلا لأمر يرجع إلى ارتباط هذه الكلم بعضها ببعض، وأن لم يعرض لها الحسن والشرف إلا من حيث لاقت الأولى بالثانية، والثالثة بالرابعة، وهكذا إلى أن تستقريها إلى آخرها، وأن الفضل تناتج ما بينها، وحصل من مجموعها؟ إن شككت فتأمل، هل ترى لفظة منها بحيث لو أُخذت من بين أخواتها وأفردت؛ لأدت من الفصاحة ما تؤديه، وهي في مكانها من الآية قل: “ابلعي”، واعتبرها وحدها من غير أن تنظر إلى ما قبلها وإلى ما بعدها، وكذلك فاعتبر سائر ما يليها؟
وكيف بالشك في ذلك، ومعلوم أن مبدأ العظمة في أن نوديت الأرض، ثم أمرت، ثم في أنْ كان النداء بـ “يا” دون أي، نحو: يا أيتها الأرض، ثم إضافة الماء إلى الكاف دون أن يقال: ابلعي الماء، ثم أن أُتبع نداء الأرض وأمرها بما هو شأنها ونداء السماء وأمرها كذلك بما يخصها، ثم أن قيل:{ وَغِيضَ الْمَاء } ، فجاء الفعل على صيغة “فُعِل” الدالة على أنه لم يَغِض إلا بأمر آمر، وقدرة قادر، ثم تأكيد ذلك وتقريره بقوله تعالى:{ وَقُضِيَ الأَمْرُ } ، ثم ذكر ما هو فائدة هذه الأمور وهو { وَاسْتَوَتْ عَلَى الْجُودِيِّ } ، ثم إضمار السفينة قبل الذكر كما هو شرط الفخامة والدلالة على عظم الشأن، ثم مقابلة “قيل” في الخاتمة بـ”قيل” في الفاتحة -يشير إلى { وَقِيلَ يَا أَرْضُ ابْلَعِي مَاءكِ } ، ثم في نهاية الآية:{ وَقِيلَ بُعْداً لِّلْقَوْمِ الظَّالِمِين } ، مقابلة قيل في خاتمة الآية بـ”قيل” في فاتحة الآية.
أفترى لشيء من هذه الخصائص التي تملؤك بالإعجاز روعة، وتحضُرك عند تصورها هيبة تحيط بالنفس من أقطارها، تعلقًا باللفظ من حيث هو صوت مسموع، وحروف تتوالى في النطق، أم كل ذلك لما بين معاني الألفاظ من الاتساق العجيب؟
فقد اتضح إذًا اتضاحًا لا يدع للشك مجالًا أن الألفاظ لا تتفاضل من حيث هي ألفاظ مجردة، ولا من حيث هي كلم مفردة، وأن الألفاظ تثبت لها الفضيلة، وخلافها في ملاءمة معنى اللفظة لمعنى التي تليها، أو ما أشبه ذلك مما لا تعلق له بصريح اللفظ”.
ويستشهد الإمام عبد القاهر لصحة ما ذهب إليه في بيان الإعجاز الكائن في النظم -والذي مثَّل له بالآية الكريمة- أيضًا ببعض الأشعار، ويبين أن اللفظة يمكن أن تحسن في مكان ولا تحسن في مكان آخر؛ ليدلل على ما ذهب إليه في مسألة النظم، والكتابان من أهم الكتب التي تُعدُّ من المراجع المهمة لدارس البلاغة ولدارس النقد الأدبي أيضًا.