أشهر الجوامع، والموطآت، والمصنفات في القرن الثاني للهجرة
أنواع المُدوَّنات في هذا العصر:
أولًا: الجوامع، وذكْر أشهرِها:
دوّن أهل القرن الثاني بعض المدوَّنات في الحديث، وأطلقوا عليها بعضَ التّسميات -أو هكذا سمّاها مَن بعْدَهم-؛ وهي: إمّا “جوامع”، أو “مُوطَّآت”، أو “مُصنَّفات”، أو “مسانيد”.
كتب الجوامع:
قال في (القاموس): “الجمْع: تأليف المتفرِّق”.
وقال ابن الصلاح: “الجوامع هي: الكتب التي جُمعت فيها الأحاديث على ترتيب أبواب كتب الفقه، كـ”الأمّهات السّتّ”، أو ترتيب الحروف الهجائية، كما فعله ابن الأثير في (جامع الأصول)، أو ترتيبه عليها (الحروف)، نظرًا إلى أوّل حرف في كل حديث”. وقال الشيخ عبد العزيز الدهلوي (ت 1239هـ) في كتابه: (العُجالة النافعة): “الجامع في اصطلاح المحدِّثين: ما يوجد فيه جميع أقسام الحديث، أي: أحاديث العقائد، وأحاديث الأحكام الرّقاق، وأحاديث آداب الأكل والشّرب، وأحاديث السّفر، والقيام والقعود، والأحاديث المتعلقة بالتفسير، والتاريخ، والسِّيَر، وأحاديث الفتن، وأحاديث المناقب والمثالب. وقد صنّف علماء الحديث في كلِّ فنّ مِن هذه الفنون الثمانية تصانيف مُفرَدة… إلخ”.
وبنحو ذلك قال الكتاني في: (الرسالة المستطرفة).
ويمكن ممّا سبق استخلاص منهج هذه الكُتب، فنقول:
- أنْ تكون مُرتّبةً على الأبواب -وهو الغالب- أو على الحروف.
- أن تكون شاملةً لما يُحتاج إليه مِن الحديث، وهي: الفنون الثمانية السابقة.
أسماء بعض الجوامع:
1. جامع زيد:
وهو: زيد بن علي بن الحسين بن عليّ بن أبي طالب، ويُسمَّى: “المسند”، و “المجموع الفقهيّّ”، وهو بهما أشهر منه بـ”الجامع”.
وهو: مزيج من مسائل الفقه والحديث -والحديث أكثر-. ويشتمل على الأحاديث المرفوعة والموقوفة والمقطوعة، وهي مِن مرويّاته عن أبيه، عن جدّه، عن علي بن أبي طالب، موقوفةً أو مرفوعةً. ويرويه عن زيد: أبو خالد عمرو بن خالد الواسطي، وهو عمدة الزيدية ومرجعهم. وقد جمعه عبد العزيز بن إسحاق البغدادي (ت 363هـ).
قال الزركلي: “وقف المجمع العلمي في ميلانو مؤخرًا على مجموع في الفقه رواه أبو خالد الواسطي، عن زيد بن علي؛ فإن صحّت النسبة كان هذا الكتاب أوّل كتاب دوّن في الفقه الإسلامي. وقد طُبع الكتاب في “ميلانو” سنة (1338هـ) باعتناء (غريفيني)، ثم طبع بعد ذلك مرارًا في القاهرة، وبيروت، وصنعاء.
2. جامع ابن وهب:
وهو: عبد الله بن وهب بن مسلم المصري (ت 197هـ). وقد طَبع الكتابَ: المعهدُ الفرنسي للآثار الشرقية في القاهرة، ما بين عامي (1939 إلى 1948م) بتحقيق: (ج. ديفرويل) في 3 مجلدات.
وتوجد نسخة غير كاملة مِن “الجامع في الحديث” مكتوبة على بَرْديّة قبل سنة (276هـ) في القاهرة في (91) ورقة.
3. جامع معمر بن راشد الأزدي، مولاهم، (ت 153هـ):
وقد طُبع مع (مصنّف عبد الرزاق)، في آخِره، يبدأ مِن: (ص379) مِن المجلّد العاشر، إلى آخر المجلّد الحادي عشر، ويحتوي على (1614) حديثًا. وهو من رواية عبد الرزاق الصنعاني عنه.
4. جامع عبد الملك بن جُريج المكّيّ (ت 150هـ):
والكتاب لم يوجد، وقد اشتمل على بعض الأحاديث المنقطعة والموضوعة.
قال الإمام أحمد: “وبعض هذه الأحاديث التي كان يُرسلها ابن جريج أحاديث موضوعة، كان ابن جريج لا يبالي مِن أين يأخذها، يعني: قوله: أُخبِرْتُ، وحُدِّثت عن فلان…”.
5. جامع سفيان بن سعيد الثوري (ت161هـ):
له (الجامع الكبير)، سماه ابن خير الإشبيلي في (الفهرست): “جامع سفيان الثوري الكبير في الفقه والاختلاف”، ولعلّه المراد عند الإطلاق، وله (الجامع الصغير) أيضًا.
6. جامع سفيان بن عُييْنة (ت 198هـ):
7. الجامع لعبد الرزاق الصنعاني (ت 211هـ):
قال في (الرسالة المستطرفة) (ص41): “وهو كتاب شهير، وجامع كبير، خرّج أكثر أحاديثه الشيخان، والأربعة”.
ثانيًا: المُوطّآت وذكْر أشهرها، مع التعريف بـ(مُوطّأ الإمام مالك بن أنس):
التعريف بها:
“المُوطَّأ” في اللغة: هو: المسهَّل الميسَّر، والمقصود به هنا: الكتاب المُسمَّى بـ(الموطأ)؛ فيكون المعنى: الممهَّد المنقَّح المحرَّر المصفَّى -كما ذكر السيوطي-.
“المُوطَّأ” في الاصطلاح: فلم أجد أحدًا من العلماء نصّ على وضْع مصطلح لها كما هو الحال في “المسانيد”، و”الجوامع”، وغيرها… ويظهر أنّ الإمام مالكًا هو السابق لهذه التّسمية، ثم تبِعه الناس على ذلك، فوجد ما يُسمَّى بـ”المُوطّآت”، وليس هناك مصطلح محدّد فيها. ويُمكن أن يقال، أخذًا مِن حال (موطأ مالك)، وسبب تسميته: إنّ (الموطّأ) هو: الكتاب الذي أورد فيه مؤلِّفه الأحاديثَ والسُّنن عن رسول الله صلى الله عليه وسلم مع ذِكر ما يُناسبها ويُفسِّرها من أقوال الصحابة وفتاوى التابعين، مرتّبَة على أبواب الفقه، بُغية تيسيرها على النّاس وتقريبها لهم.
وممّا يدلّ على ذلك -أي: كون الإمام مالك هو السابق إلى هذه التّسمية-:
- قول ابن فِهْر: “لم يسبق مالكًا أحدٌ إلى هذه التّسمية؛ فإنّ مَن ألّف في زمانه بعضهم سمّى بـ”المخرَّج”، وبعضهم بـ”المصنَّف”، وبعضهم بـ”المؤلَّف”.
- وقال السيوطي: “ثم إنّ مالكًا عزم على تصنيف (الموطأ)، فصنّفه؛ فعمِل مَن كان في المدينة يومئذٍ مِن العلماء: “الموطّآت”، فقيل لمالك: شغلْت نفسك بعمل هذا الكتاب، وقد شركك فيه الناس، وعملوا أمثاله. فقال: إيتوني ما عملوا. فأُتِي بذلك، فنظر فيه، ثم نبذه، وقال: لتعلمنّ أنه لا يرتفع مِن هذا إلاّ مَا أُريد به وجْهُ الله. قال -يعني الراوي-: “فكأنما أُلقيَت تلك الكتب في الآبار، وما سُمع لشيء منها بعد ذلك بذِكْر”.
بداية ظهورها:
بدأ ظهور “المُوطَّآت” في القرن الثاني الهجري، وبالتقريب في منتصَفه، وقد تقدّم آنفًا أنّ مالكًا هو أوّل مَن مهّد الطريق ووطّأه بموطَّئه -كما صرّح ابن فهر، وكما هو مدلول كلام السيوطيّ-، ثم تتابع الناس في عهده ومِن بعْده على تأليف “المُوطآت”، حتى أهل المائة الثالثة. وقد صنّف عبد العزيز بن عبد الله الماجشون (ت 164هـ) على معنى (الموطأ) بغير حديث، فنظر فيه مالك فقال: “ما أحسَن ما عمِل! ولو كنت أنا الذي عمِلت لبدأتُ بالآثار، ثم سدّدت ذلك بالكلام”، ولكنه على ما يبدو كتاب فقه وليس كتاب حديث، فليس داخلًا معنا.
ذِكْرُ بعْضها:
- (الموطأ): لمحمد بن عبد الرحمن بن المغيرة بن أبي ذئب القرشي، المدني (ت 156هـ) أو (158هـ)، وقد وُصف بأنه أكبر مِن (موطأ مالك). قال العراقي وابن حجر: “قد صنف ابن أبي ذئب بالمدينة موطًَّا أكبر مِن (موطأ مالك) حتى قيل لمالك: ما الفائدة مِن تصنيفك؟ فقال: “ما كان لله بقي”. وقال الدارقطني: “كان ابن أبي ذئب صنّف مًوطًَّأ فلم يُخْرَج”.
- (الموطَّأ): لإبراهيم بن محمد بن أبي يحيى الأسلمي، مولاهم، المدني (ت 184هـ).
- قال الذهبي: “صنّف “الموطأ”، وهو كبير أضعاف (موطأ مالك).
- (الموطّأ الصغير): لعبد الله بن وهب الفهري (ت 197هـ): وهو مخطوط في مكتبة ولي الدين جار الله، في مكتبة السليمانية بتركيا في (420) ورقة، وقد عمل على تحقيق بعضه بعض الأساتذة.
- (الموطأ): لإسماعيل بن إسحاق القاضي (ت 282هـ).
- (الموطأ): لعبد الله بن محمد بن عيسى المروزي (ت 293هـ)، المعروف بعَبْدان.
- (الموطأ): للإمام مالك بن أنس الأصبحي (ت 179هـ).
التعريف بـ(موطأ الإمام مالك بن أنس):
أ. سبب تسميته:
الرواية الأولى: أنه سمّاه بذلك؛ لأن الفقهاء قد واطئوه عليه؛ يقول الإمام مالك: عرضتُ كتابي هذا على سبعين فقيهًا من فقهاء المدينة، فكلهم واطأني عليه، فسمّيْتُه (الموطَّأ).
الرواية الثانية: أنه سمّاه بذلك؛ لأنه وطّأ به الحديث -أي: قرّبه للناس ويسَّره لهم- ويؤيّد هذه الرواية ما ذكَره الزواوي في “مناقبه”، حيث يقول: “إن الإمام مالكًا لمّا أراد أن يُؤلِّف، بقي مُتفكِّرًا في أيّ اسم يُسمِّي به تأليفه. قال: فنمتُ، فرأيت النبي صلى الله عليه وسلم فقال لي: “وطِّئْ للناس هذا العلْم؛ فسمَّى كتابه: (الموطأ).
وسئل أبو حاتم الرازي عن سبب التّسمية فقال: شيء صنَعه ووطَّأه للناس، حتى قيل: “موطأ”، كما قيل: “جامع سفيان”.
ب. سبب التأليف، فيه روايتان:
الرواية الأولى: طلَب الخليفة أبي جعفر المنصور منه ذلك.
الرواية الثانية: الدّافع الزّمنيّ أو المكانيّ أو النّفسيّ، فإنه لمّا رأى كتاب ابن الماجشون السّابق ذِكْره، قال ما قال.
ج. عدَد أحاديثه:
يبلغ عدد أحاديث (الموطَّأ) رواية يحيى بن يحيى الأندلسي عنه (853) حديثًا. ويقول أبو بكر الأبهري: “جملة ما في (الموطأ) مِن الآثار عن النبي صلى الله عليه وسلم وعن الصحابة، والتابعين: (1720هـ) حديثًا، المُسنَد منها: (600)، والمرسَل: (222)، والموقوف: (613)، ومن قول التابعين: (285)”. وقد تتبّعتُ أحاديث (الموطَّأ) على اختلاف رواياته، اعتمادًا على المطبوع منها، فكان عدد الأحاديث:
– في رواية يحيى بن يحيى الليثي: (1843) حديثًا.
– في رواية سويد بن سعيد الحَدَثاني: (818) حديثًا.
– في رواية أبي مصعب الزّهريّ: (3069) حديثًا.
– في رواية محمد بن الحسن الشّيباني: (1008) حديثًا.
والسبب في الاختلاف في عدد الأحاديث مِن رواية إلى رواية يعود إلى أمْريْن:
الأول: اختلاف روايات (الموطأ) عن الإمام مالك: فبعضهم روى عنه متقدّمًا، وبعضهم روى عنه بأَخَرَة.
الثاني: أنّ الإمام مالكًا كان دائم التّنقيح والتّهذيب لـِ”مُـوطّئه” بالزيادة والنقصان.
د. المكانة والمَنزلة:
احتل (الموطأ) مكانة عالية بيْن كتب السُّنّة، وذلك يعود للآتي:
- جلالة الإمام مالك.
- شدّة انتقائه للحديث.
- شرْطه القويّ في الرِّجال.
- دوام تنقيحه وتهذيبه لكتابه.
- اشتماله على أصحّ الأسانيد: (الزهري عن سالم عن ابن عمر) -عند أحمد وإسحاق.
هـ. رواة (الموطأ) عن الإمام مالك، والاختلاف بينهم، والسبب في ذلك:
اختلف العلماء في عدَد رواة (الموطأ):
فقال ابن عساكر: هم واحد وعشرون.
وقال القاضي عياض اليحصبي: هم نيّف وستون.
وقال ابن ناصر الدين: هم بضعة وسبعون. وقد أوصلهم إلى تسعة وسبعين راويًا، ونظمَهم في منظومة لطيفة موجودة في (تنوير الحوالك).
ولكن المشهورين منهم أربعة عشر راويًا، وقيل: ثلاثين، منهم:
- أبو مصعب الزّهريّ المدنيّ. ط.
- محمد بن الحسن الشّيباني. ط.
- سويد بن سعيد الحَدَثاني. ط.
- يحيى بن يحيى اللّيثي. ط.
- علي زياد ط. -جزء منه-.
- ابن بكير.
والاختلاف بينهم يعود إلى الآتي:
- ترتيب الكتب والأبواب.
- عدد الأحاديث المرفوعة.
- عدد الأحاديث المرسَلة أو الموقوفة.
- ألفاظ الحديث.
- وقت سماعهم للموطّأ من الإمام مالك.
- جواز الرّواية بالمعنى.
وآخِر الروايات: رواية أبي مصعب الزّهريّ.
وأشهرها: رواية يحيى بن يحيى اللّيْثي؛ وهي المعتمدة.
و. منهج الإمام مالك في “موطَّئه”:
أخرج الإمام مالك في (موطّئه) أقسامًا عدّة مِن الحديث، ولم يقتصر على المُسنَد المرفوع إلى النبي صلى الله عليه وسلم فحسْب.
وهذه مُجمَل تلك الأقسام:
أولًا: المُسنَد:
تعريفه: هو: ما اتّصل سنَدُه مرفوعًا إلى النبي صلى الله عليه وسلم.
عددُه: اختلفت “الموطّآت” في عدد الأحاديث المسنَدة، وكذا اختلف العلماء في العدَد، تبعًا لاختلاف النُّسخ، وأقلّ ما قيل: إنها خمسمائة حديث -نقل عن ابن الهيّاب- وقيل: ستّة وستّون وسِتمائة حديث، وقيل: سبعمائة، وقيل غير ذلك.
مِثاله: عن عبد الله بن يزيد: أنّ زيدًا أبا عياش أخبره: أنه سأل سعد بن أبي وقاص، عن البيضاء بالسُّلْت. فقال له سعد: أيّتهما أفضل؟ قال: البيضاء. فنهاه عن ذلك، وقال سعد: “سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم… فذَكَرَه.
ثانيًا: الموقوف:
تعريفه: هو: ما أُضيف إلى الصّحابيّ مِن قول، أو فعْل، أو تقرير.
عدده: بلغتْ في (الموطأ) ثلاثة عشر وستمائة حديثًا؛ قاله الأبهري.
مثاله: عن هشام بن عروة، عن أبيه: أنه رأى عبد الله بن الزبير أحْرَم بعمرة مِن التّنعيم.
ثالثًا: المرسَل:
تعريفه: هو ما سقط مِن آخِر إسناده مِن بعْد التّابعيّ.
درجته: قال ابن عبد البَر: “وقد وصلنا مراسيل (الموطأ) في كتاب (التمهيد) مِن طرق الثقات، وفي ذلك ما يُبيِّن لك صحّة مراسيله”.
مثاله: مالك عن هشام بن عروة، عن أبيه: أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم سُئل عن الاستطابة، فقال: ((أوَ لا يجِدُ أحدُكم ثلاثة أحجار؟)).
رابعًا: المُنقطِع:
تعريفه: هو ما سقط منه أحدُ الرّواة غيْر الصّحابيّ.
مثاله: مالك عن ابن شهاب، عن عبد الله بن عمرو بن العاص، قال: “لمّا قدمنا المدينة، نالَنا وباءٌ مِن وَعْكِها شديد… فذَكَره”.
خامسًا: البلاغ:
تعريفه: هو الحديث الذي يقول فيه مالك: بلغني: أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال، وكذا لو قاله عن الصّحابيّ أو التّابعيّ؛ وذلك مما بلغه عن الرجال الثقات، وممّا أرسله عن نفسه، ورفعه إلى النبي صلى الله عليه وسلم.
عدده: واحد وستون بلاغًا، كما قال ابن عبد البَرّ.
درجته: قال ابن عبد البر: “قد ذكرْتها -والحمد الله- كلّها مسنَدة مُتّصلة في (التمهيد)، حاشا أربعة أحاديث”. وقد وصلها ابن الصلاح في رسالة له. وقال ابن عبد البَر: “وسواءٌ قال: “عن الثقة عنده” أو: “بلَغَه”، لأنه كان لا يأخذ ولا يحدِّث إلا عن ثقة”.
مثاله: عن مالك: أنه بلَغَه أنّ أبا هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((لِلممْلوك طعامُه وكِسْوتُه بالمعروف)).
سادسًا: حديث الثّقة عنده:
تعريفه: أنْ يروي عن أحد الرواة ولا يُصرِّح باسمه، بل بِحاله، كأن يقول: حدَّثني الثِّقة، أو عن الثِّقة، أو مَن لا أتَّهمه. فيأتي الرواة عنه فيقولون: مالك عن الثقة عنده، أو مالك أنّه سمع مَن يثق به مِن أهْل العلْم.
عدده: هي خمسة أحاديث أو أربعة.
درجته: بيّن ابن عبد البَرّ بعض هؤلاء المُبهمِين مِن الثقات، في: (التمهيد).
مثاله: مالك عن الثِّقة عنده، عن عمرو بن شُعيب، عن أبيه، عن جَدِّه: ((أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن بيْع العُرْبان)).
السبب في الإبهام: لعلّ السبب في هذا الإبهام: إمّا أنّ الإمام مالكًا قد روى هذا الخبَر مِن طُرق عِدّة عن الثِّقات؛ فهو يريد اسم الجِنس. وقيل: إنّ هناك راويًا معيّنًا، ولكن الإمام نسِيَ اسمه مع تأكّده مِن أنه ثِقة، ولِذا اختلفوا في تعيين هذا الراوي الثِّقة: فقيل: ابن لهيعة، وقيل: عبد الله بن وهب، وقيل: الليث بن سعد، وقيل غيرهم، وقيل: إنه مقيّد بمَن يروي عن هذا الراوي الثِّقة.
سابعًا: حديث الرّجُل:
تعريفه: هو: أنْ يروي عن رجُل هكذا مبهمًا، وقد يُقيّد ببَلد.
مثاله: مالك عن رجُل مِن أهل الكوفة: أنّ عمر بن الخطاب كتب إلى عامل جيش بعثه… فذَكَرَه. -والرّجُل هنا هو: سفيان الثوري-.
درجته: حاول ابن عبد البَرّ في (التمهيد) تبيِين هؤلاء المُبهمِين.
وقد يذكر في “موطَّئه” بعضَ اجتهاداته الفقهيّة، إضافة إلى الآثار.
ثالثًا: المصنَّفات وذِكْر أشهرها، مع التّعريف بـ(مصنّف الإمام عبد الرزاق الصنعاني)
التّعريف بها، وبيان منهجها:
هي الكُتب المسنَدة، المرتَّبة على الأبواب الفقهية، المشتمِلة على أحاديث النبي صلى الله عليه وسلم وأقوال الصحابة, وفتاوَى التابعين، غيْر مقتصرين على جمْع المُحتجّ به فحسب، بل جمعوا إليه: الضعيفَ، والمُنكَر، والشاذّ، والخطأ، والصّواب.
قال صاحب (كشف الظنون) عن (مصنَّف ابن أبي شيبة): “وهو كتاب كبير جدًّا، جمَع فيه فتاوى التابعين، وأقوال الصحابة، وأحاديث الرسول صلى الله عليه وسلم على طريقة المحدِّثين بالأسانيد مرتبًا على الكتب والأبواب على ترتيب الفقه”.
وقال الكتاني: “ومنها كُتب مُرتَّبة على الأبواب الفقهيّة، مشتملة على السّنن وما هو في حيّزها أوْ لَهُ تعلّق بها، بعضها يُسمَّى: “مصنَّفًا”، وبعضها: “جامِعًا”، وغير ذلك…”.
وقال عن (مصنَّف ابن أبي شيبة): “جمَع فيه الأحاديث على طريقة المحدِّثين بالأسانيد، وفتاوى التابعين، وأقوال الصحابة، مرتّبًا على الكُتب والأبواب على ترتيب الفقْه”.
وقال الشاه ولي الله الدّهلوي: “الطبقة الثالثة: “مسانيد” و”جوامع” و”مصنَّفات”… جمَعت بين الصحيح، والحَسَن، والضعيف، والمعروف، والغريب، والشّاذّ، والمنكر، والخطأ، والصواب، والثابت، والمقلوب. ولم تشتهر في العلماء ذلك الاشتهار، وإن زال عنها اسم النّكارة المُطلقة”.
تسمية بعضها:
- 1. “مصنَّف” حمّاد بن سلمة الربعي، البصري (ت 167هـ).
- 2. “مصنَّف” وكيع بن الجراح الرؤاسي، الكوفي (ت 197هـ).
- 3. “مصنَّف” عبد الرزاق بن همام الصنعاني (ت 211هـ). وسيأتي الكلام عليه والتعريف به.
- 4. “مصنَّف” أبي بكر عبد الله بن محمد بن أبي شيبة الواسطي، الكوفي (ت 235هـ). وقد طُبع في الهند بعناية الدار السلفية ما بين عامي (1399-1403هـ) في (15) مجلدة، وقام بتصحيحه جماعة من الباحثين.
وقد ظهرت الأربعة الأجزاء الأولى منه في (حيدر آباد – الدكن) -أولًا-، بتصحيح عبد الخالق الأفغاني، ما بين عام (1386هـ، و1390هـ)، وفيها نقص كبير بالمقارنة مع النّسخة التركيّة.
وقد صَوّرت إدارة القرآن والعلوم الإسلامية في كراتشي الطبعة السابقة، وأضافت إليها مجلدة تحتوي على (490) بابًا.
كما حقّق عمرو بن غرامة العمروي القسم الأول من الجزء الرابع -الجزء المفقود- ونشره بالرياض، دار عالم الكتب سنة (1408هـ).
كما طُبع المصنَّف، بضبط كمال يوسف الحوت في (7) مجلدات، بتوزيع مكتبة الرشد بالرياض (1409هـ).
ثم طُبع بعد ذلك في الرياض، بتحقيق بعض الأساتذة في جامعة الإمام محمد بن سعود، وفي أحاديثه المرفوعة زيادات كثيرة على الكتب السِّتّة.
كما استفاد منه أصحاب الكُتب السّتّة، وأحمد في (المسند).
- 5. (لمصنّف في فتاوى الصحابة والتابعين فمَن دونهم) لبقيّ بن مخلد القرطبي (ت 276هـ)، وهو كتاب كبير. قال ابن حزم: “ومنها: “مصنّفه في فتاوى الصحابة والتابعين ومَن دونهم”، أربى فيه على (مصنَّف أبي بكر بن أبي شيبة)، و(مصنَّف عبد الرزاق بن همام)، و(مصنَّف سعيد بن منصور)، وغيرها… وانتظم علْمًا عظيمًا، لم يقع في شيء مِن هذه”.
التعريف بـ(مصنَّف عبد الرزاق الصنعاني):
- هو مِن أجمَع المصنَّفات وأفضلها، جمَع فيه مؤلِّفه علْمًا عظيمًا، ولا سيما فتاوَى علماء الحجاز. ويُعدّ من أعظم المصادر لفقه السلف.
- موضوع هذا الكتاب الأساسي هو: فقْه الصحابة والتابعين وتابعيهم، وفيه جُملة لا بأس بها مِن الأحاديث المرفوعة.
- بلَغ عدد الرواة الذين روى عنهم عبد الرزاق من الفقهاء ورواة الأحاديث، حوالي ألْف وخمسمائة رجل وامرأة، كما في فهرس أحاديثه وآثاره.
- الكتاب غنيّ بالأسانيد العالية الصِّحاح مِن الثلاثيات وغيْرها.
- الكتاب مرتّب على الكُتب والأبواب، وقد بلغ عدد الكُتب فيه: (32) كتابًا سوى الجامِع في آخِره. وقد انفرد بكتب ليست في سائر كُتب الحديث، ككتاب: (أهل الكتاب)، وكتاب: (أهل الكتابيْن).
- الكتاب يغلب عليه فقه أهل الحجاز، كابن عباس، وابن عمر، وعطاء، وابن المسيِّب، وغيرهم…
- أكثَرَ عبد الرزاق عن ثلاثة مِن شيوخه، وهم: معمر بن راشد، وسفيان الثوري، وابن جريج.
- بلغ عدد الأحاديث والآثار فيه: (19418)، كما بلغت عدد أحاديث وآثار الجامِع في آخِره: (1614).
- طُبع الكتاب بتحقيق الشيخ حبيب الرحمن الأعظمي -رحمه الله- في أحد عشر جزءًا، ومعه كتاب (الجامع) لمعمر بن راشد، برواية عبد الرزاق عنه، ولكن في المطبوعة نقص في أوّلها مِن كتاب الطهارة، كما نبّه إلى ذلك محقِّقه، وفي الكتاب أغلاط علْمية ومطبعية كثيرة.