Top
Image Alt

أعمال عمر الفاروق في النواحي الإدارية والمالية والأمنية والاجتماعية، واستشهاده رضي الله عنه

  /  أعمال عمر الفاروق في النواحي الإدارية والمالية والأمنية والاجتماعية، واستشهاده رضي الله عنه

أعمال عمر الفاروق في النواحي الإدارية والمالية والأمنية والاجتماعية، واستشهاده رضي الله عنه

النظم الإدارية:

وحقيقة لا يخفى أنَّ الفاروق عمر بن الخطاب رضي الله  عنه من الشخصيات، التي استطاعت أن تحدث طفرة هائلة في الإدارة في البلاد الإسلامية عندما آلت إليه أمور الخلافة، وحتى لا يكون الحديث على عواهله نستطيع أن نقول: إن الإدارة في عصر الفاروق دارت في عدة نقاط، من أهم هذه النقاط: إنشاء الدواوين؛ حيث لا يخفى على دارس التاريخ ذلك التقدم العظيم، الذي حدث في البلاد الإسلامية والتوسع الهائل الذي وصلت إليه الدولة الإسلامية في عهد عمر بن الخطاب رضي الله  عنه.

كان دخل بيت المال في هذه المرحلة يقوم على فكرة الزكاة والصدقات والكفارات، وما يأتي من الغنائم والفيء، ثم جاءت الأموال العظيمة من الجزية والخراج… إلى آخر كل ذلك، واتسعت كما ذكرت الدولة الإسلامية اتساعات عظيمة والفتوحات شملت الشرق والغرب، وزاد دخل بيت مال المسلمين زيادة عظيمة جدًّا، وأراد الفاروق أن يحدث عملية العدالة في التوزيع في تلك الأموال التي وصلت إلى بيت مال المسلمين، ومن ثم دعا رضي الله  عنه كبار الصحابة ومجلس الشورى؛ ليعرض عليهم هذا الأمر، وكيف يكون ضبط الدخل وعدالة التوزيع.

علي بن أبي طالب رضي الله  عنه كانت له فكرة معينة تقوم على أن الدخل كل ما يأتي كل عام يوزع على جميع المسلمين، ولا يدخر منه شيء، لكن عثمان بن عفان رضي الله  عنه قال: أرى مالًا كثيرًا يسع الجميع، وأرى أن يحصى حتى يعرف من أخذ ممن لم يأخذ، وهنا قال الوليد بن هشام بن المغيرة: قد جئت بالشام فرأيت ملوكها قد دونوا ديوانًا وجندوا جندًا، فوجه كلامه للفاروق عمر بن الخطاب وقال له: فدون الديوان، وجند الجند، فأخذ بقوله الفاروق، ومن ثم دعا عقيل بن أبي طالب وغيره، وكانوا من نبهاء قريش وأمرهم بتدوين الدواوين؛ ففعلوا.

أريد أن أقول المراد بالديوان: الدفتر أو الصحف التي تكتب فيها الأسماء: أسماء أفراد الجيش أسماء القبائل والعوائل، مبلغ ما يستحقوه من الأموال، العطاء الذي يصرف لهم، ترتيب هؤلاء بصورة معينة، على أي حال توسعوا في إطلاق لفظة الديوان هذه وأطلقوا على كل دفاتر الحكومة دواوين، بل أطلقوا حتى على المكان الذي تكون فيه هذه الدفاتر والموظفين الذين يقومون بها -الديوان أيضًا، كلمة الديوان شملت كل هذا بعد ذلك في عصور متأخرة.

أقول: إنَّ الديوان يشبه الوزارات اليوم، يعني هناك ديوان خاص بالبريد، ديوان خاص بالجند، ديوان خاص بالقضاء… وهكذا، فيعني هي تشبه الوزارات في عصورنا الحديثة، ونستطيع أن نقول أن الفاروق لم يقف عند هذا الحد، بل إنه أنشأ دواوين كثيرة كديوان القضاء وديوان الإحصاء، وديوان الجند… وغيرها من هذه الدواوين، ومن ثم نستطيع أن نقول: أن الفاروق هو مؤسس حقيقي للنظم الإدارية في الدولة الإسلامية.

كذلك من بين مواضيع الإدارة التي تستحق الذكر والإشادة في عصر الفاروق: موقفه من العمال ومعاملة العمال؛ لأن الفاروق كان لا يكتفي بإرسال رسالة إلى العامل إذا استراب منه في بعض الأمور، بل كان يستدعيه ويحقق معه ويصادر أمواله أو يقاسمه هذه الأموال؛ لهذا كان يعد أموال من يذهب للولاية قبل أن يتسلموا أعمالهم، ومن ثم كان رضي الله  عنه يحاسب العمال أدق حساب، وكان شديد المراقبة لهم كثير السؤال عنهم، ويرصد لهم العيون، فإذا بلغه عن أحدهم شيئًا تحقق وتثبت أولًا.

ومن الغريب أن الفاروق عيَّن نائبًا عنه، يكون كل دوره محاسبة العمال والمرور عليهم والتحقيق معهم وسؤالهم، واستدعائهم إن لزم الأمر للمثول بين يدي أمير المؤمنين عمر بن الخطاب، هذا الشخص هو محمد بن مسلمة، كان هو المفتش على العمال يحقق معهم في أي شكوى و التحقيق يتم أمام الناس؛ ليكون ذلك أدعى للغير أن يعتدل.

تقول الروايات: أن الفاروق عمر بن الخطاب قرر في نهاية حياته أن يأخذ عامًا كاملًا يمر فيه على ولايات الإسلام والمسلمين؛ ليسألهم عن ظروفهم، ويقول: “لعل مظلومًا لا يستطيع لقائي حتى يبلغني مظلمته، فعلي أن أذهب إليه”، وكان رضي الله  عنه يخطب قائلًا: “أيها الناس، إني والله ما أرسل عليكم عمالًا ليضربوا أبشاركم ولا ليأخذوا أموالكم، ولكني أرسلهم إليكم ليعلموكم دينكم وسنة نبيكم، فمن فُعِلَ به شيء سوى ذلك فليرفعه إلي، فوالذي نفس عمر بيده لأقصنه منه”، يعني: يأخذ منه القصاص؛ فوثب عمرو بن العاص وقال: يا أمير المؤمنين، أريت إن كان رجلًا من أمراء المسلمين على رعيته، فأدب بعض رعيته إنك لتقتص منه؟ قال: “أي والذي نفسي بيده لأقتص منه، لا تضربوا المسلمين فتذلوهم ولا تمنعوهم حقوقهم فتكفروهم”.

وكان رضي الله  عنه إذا صعد المنبر ونهى جماعة المسلمين عن شيء بدأ بأهله وقال: “إني نهيت الناس عن كذا وكذا، وإن الناس ينظرون إليكم نظر الطير إلى اللحم، وأقسم بالله لا أجد أحدًا منكم فعل هذا الفعل إلا أضعفت عليه العقوبة”، ومن ثم هكذا كانت معاملته لأهله.

كذلك من الأمور الإدارية التي تخص الفاروق رضي الله  عنه: أنه أنشأ البريد لأول مرة، وهذا أمر عظيم في الدولة الإسلامية، كما جعل هناك مرابط للثغور، وبدأ في موضوع ضرب النقود، وجعل أماكن مخصصة سجونًا للخارجين، وأسند أعمال وإدارة الدواوين إلى أبناء البلاد للإشراف عليها؛ لأنها بلغاتهم الأصلية، فهم أقدر على القيام بها على الوجه الحسن، كما أنها ليست من أسرار الدولة، والحقيقة أن العرب لم تكن لهم خبرة بها في ذلك الوقت، فإسنادها لهم لن يفي بالغرض المنشود من إنشائها، أما العرب فكانت تُسند إليهم أعمال مناسبة المتعلقة بالدفاع، والجهاد في سبيل الله إلى غير ذلك.

ومن المعروف أن الدواوين لم تعرب أي: لم تنقل من اللسان الرومي إلى اللسان العربي أو من اللسان الفارسي إلى اللسان العربي، إلا بعد ذلك في العصر الأموي بالأخص عصر الوليد بن عبد الملك وغيرهم.

النظم المالية:

حقيقة بالنسبة للنظم المالية كان الفاروق مبتكرًا لمجموعة من الأفكار، وصل فيها إلى درجة التأويل في كتاب الله سبحانه وتعالى لما فيه مصلحة الأمة ومصلحة المسلمين، قبل الحديث عن هذه النقطة أقول: إنَّ الفاروق كان لا يقبل أن يعتمد الفقراء على الصدقات والعطايا ويعرضوا عن العمل، كان يحبذهم على العمل ويدفعهم إليه، وطلب منهم إجادة بعض الأعمال، وقال: “إنَّه يوشك أن يحتاج أحدهم إلى مهنة، حتى وإن كان من الأغنياء”، ومعروف أنَّ الحث على العمل من وصايا رسول الله صلى الله عليه  وسلم ومن أسس ديننا الحنيف، الرسول صلى الله عليه  وسلم قال: ((لأن يغدو أحدكم فيحتطب على ظهره فيتصدق به، ويستغني به عن الناس خير له من أن يسأل رجلًا أعطاه أو منعه، واليد العليا أفضل من اليد السفلى))، أو كما قال رسول الله، صلى الله عليه  وسلم.

النقطة المهمة في موضوع النظم المالية: ما تم على يد ابن الخطاب في العراق؛ حيث تركها في أيدي أصحابها؛ لأنها مورد ثروتهم، وحتى لا يشتغل الجند بامتلاكها وبالثراء، فقد رأى الفاروق أن أحوال المجتمع تقتضي ذلك، وتأويل النص القرآني الكريم يقتضي ذلك بالرغم من أنه كان شديد التمسك بالقرآن وبنصوصه، لكنه اجتهد برأيه لما تدعو إليه الضرورة، وتفصيل ذلك الأمر يتضح في الآتي:

حقيقة جمع الفاروق المسلمين، وعرض عليهم رأيه في عدم تقسيم الأراضي المفتوحة على الفاتحين، وقال: “رأيت أن أحبس هذه الأراضي بعلوجها وأضع عليهم الخراج، وفي رقابهم الجزية يؤدونها فتكون فيئًا للمسلمين المقاتلة والذرية ولمن يأتي بعدهم، أرأيتم هذه الثغور لا بد لها من رجال يلزمونها، أرأيتم هذه المدن العظام لا بد لها من أن تشحن بالجيوش، ولا بد من إدرار العطاء عليهم، فمن أين يُعطى هؤلاء إذا قسمت الأراضي؟ فقالوا جميعًا: الرأي رأيك، فنعم ما قلت وما رأيت! إن لم تشحن هذه الثغور وهذه المدن بالرجال، وتجرى عليهم ما يتقوون به رجع أهل الكفر إلى مدنهم”. ورد عمر على الذين أرادوه أن يقسم الأراضي قال لهم: “إذن أترك من بعدكم من المسلمين لا شيء لهم”، وأصر على رأيه ولم يقسم الأرض، بل تركها لعمالها ليكون خراجها في أعطيات المسلمين، ولم يقسم أرض مصر -كما أسلفنا-؛ ليكون خراجها في أعطيات المسلمين أيضًا.

يذكر في هذا أن القاضي أبا يوسف في كتابه العظيم (كتاب الخراج) مدح الفاروق في هذا التصرف، وقال: “والذي رآه عمر من الامتناع عن قسمة الأرضين بين من افتتحها، عندما عرفه الله ما كان في كتابه من بيان ذلك توفيقًا من الله، كان له فيما صنع وفيه الخير لجميع المسلمين، وفيما رآه من جمع خراج ذلك وقسمته عموم النفع لجماعتهم -أي: لجماعة المسلمين؛ لأن هذا لو لم يكن موقوفًا على الناس في الأعطيات والأرزاق لم تشحن الثغور، ولم تقو الجيوش على السير في الجهاد، ولما أمن رجوع أهل الكفر إلى مدنهم إذا خلت من المقاتلة ومن المرتزقة”.

ومن ثم رأى أن هذا التصرف من الفاروق كان من حكمة ألهمه الله سبحانه وتعالى بها، وحقيقة هذا التصرف كان من الفاروق من أعظم التصرفات، التي قام بها بالنسبة للنظام المالي في عصر الفاروق عمر بن الخطاب.

الناحية الأمنية:

أقصد بذلك موضوع الشرطة والعسس، تحدثنا عن الناحية الإدارية، وتحدثنا عن الناحية المالية، ونتحدث الآن عن الناحية الأمنية، المقصود بالناحية الأمنية موضوع الشرطة، وتعريف الشرطة: أنهم طائفة من أعوان الوالي؛ لأنهم علموا أنفسهم بعلامات يعرفون بها، ولكن التاريخ يقول: إن الآراء اختلفت حول موضوع نشأة الشرطة، لا نستطيع أن نقول: إن الشرطة كنظام نشأت في عصر الفاروق، ولكن الواقع يقول: إن الذي نشأ في عصر الفاروق هو نظام العسس، هذا النظام نشأ في عصر الفاروق عمر بن الخطاب، وحرص عليه وعممه وتوطدت دعائمه في عصر الفاروق عمر بن الخطاب، وإن كان البعض يقول: انبثق عن نظام العسس هذا نظام الشرطة بعد ذلك، بعضهم يقول: كان في عصر عثمان، وبعضهم يقول: كان في عصر الدولة الأموية، والله أعلم أي ذلك كان.

لكن هناك رأي آخر يقول: أن عمرو بن العاص لما فتح مصر أنشأ نظام الشرطة في مصر، وكان أول نظام شرطة ينشأ في العالم الإسلامي، هذا الرأي معناه أن الشرطة لم تبدأ في العاصمة، ولكنها بدأت في الولايات؛ يعني بدأت في ولايات الدولة قبل أن تنشأ في عاصمة الدولة المركزية في مدينة رسول الله صلى الله عليه  وسلم في عصر الفاروق.

لكني على أي حال أقول: الذي لا خلاف عليه هو بداية نظام العسس في عصر الفاروق رضي الله  عنه وأنا أرى أن الناحية الأمنية لا تتوقف عند موضوع الشرطة أو العسس، ولكني أرى أن تأسيس نظام القضاء في عصر الفاروق والاهتمام به أيضًا له علاقة بالناحية الأمنية، وكذلك نظام الشورى الذي وضعه الفاروق أيضًا له علاقة بالناحية الأمنية؛ لأن كل هذه الأمور من سبل تحقيق الأمن والأمان لجماهير الناس، وشعورهم بعدم الظلم وبراحتهم في أن الآراء، التي تؤخذ تؤخذ بالشورى وليس بالقسر والظلم، كذلك شعورهم بأن القضاء عادل ومستقيم، ويستطيع أي واحد يلجأ للقضاء أن يأخذ حقه ومستحقه، كل هذه الأمور تدور في فلك واحد ومنظومة واحدة تشعر مَن يحيا داخل الدولة الإسلامية، أو من يعيش داخل الدولة الإسلامية بأنه يعيش في عصر مزدهر بالأمن والأمان، وأن الأمر لا يقتصر فقط على موضوع الشرطة أو العسس.

بالنسبة للقضاء نقول: إن الفاروق عمر بن الخطاب كانت له وصية للقضاء عظيمة جدًّا نستطيع أن نعرض لها، يقول للقضاة أو للقاضي: آس بين الناس في مجلسك، حتى لا يطمع شريف في حيف، ولا ييأس ضعيف من عدل، فالبينة على مَن ادَّعى واليمين على مَن أنكر، والصلح جائز بين المسلمين إلا صلحًا حرم حلالًا أو أحل حرامًا، ولا يمنعك قضاء قضيته بالأمس، ثم راجعت فيه نفسك وهديت فيه إلى رشدك أن ترجع عنه، فإن مراجعة الحق خير من التمادي في الباطل…” إلى أن قال: “إياك والقلق والضجر والتأذي بالناس، أنت تحكم بين الناس فلا تتأذى منهم ولا تقلق، وإياك والتنكر للخصوم في مواطن الحق التي يوجب الله بها الأجر”. وحقيقة فإن هذه الوصايا من الفاروق، تعد من أعظم ما قدمه الفاروق لكل قاضٍ في كل عصر وكل زمان وكل مكان.

أما بالنسبة لنظام الشورى فقد أقام عمر نظام للشورى على أحسن ما يقام عليه هذا النظام، وكانت الشورى ملازمة للفاروق في جميع أعماله، كلما استجد أمر جمع المسلمين وشاورهم وسألهم ماذا نصنع في هذا الأمر؟ مجلس الشورى الخاص به كان معينًا من كبار الصحابة وأصحاب الرأي مثل: العباس بن عبد المطلب، وابنه عبد الله وعثمان بن عفان وعبد الرحمن بن عوف، وعلي بن أبي طالب، وأمثالهم رضي الله  عنهم كان يرجع إليهم في مهام الأمور، حتى لا يستأثر بالأمر دونهم، وكان يستشيرهم ويستشير العامة أيضًا ويسمع منهم، وفي النهاية يختار رأيًا بعد أن يميل إليه أهل الشورى ويسألهم ويشدد عليهم في المسألة، حتى يخلصوا له في الرأي، فإذا استقر الرأي على أمر ما عمل به ونفذه، وحقيقة رضي الله عنك يا ابن الخطاب في كل ما قمت به وما صنعت!.

الناحية الاجتماعية:

الحديث عن هذه الناحية طويلٌ، وكثيرة صوره، من هذه الأمور الاجتماعية أنه كان يسير بالليل ليتفقد أحوال الرعية، فوجد امرأة ومعها أطفال صغار يبكون وهي تضع على النار ما يشعر الأولاد أنها تعد لهم طعامًا، فسألها عن ذلك؛ فقالت له: هذه مياه، ماء على النار يغلي، فأنا لا أملك أن أعد لهم طعامًا؛ فأسرع وأحضر لها الطعام لتطبخه للأولاد، وعندما رأى امرأة مليحة تسأل الناس تخوف عليها وأوقفها، وفرض لها عطاء من بيت مال المسلمين حتى لا تسأل الناس، وحتى والعياذ بالله لا تنجر قدمها إلى الرذيلة، وحتى لا تكون فتنة بين المسلمين.

كذلك كان يمر بالليل في طرقات المدينة، فسمع امرأة وهي تصرخ ورجل يجلس أمام خيمتها؛ فسأل الرجل عن الحال فقال له هذه امرأة في المخاض -يعني: في حالة ولادة- فأسرع الفاروق وسأل زوجته وأخبرها بهذا الأمر وقال لها: هل لك في الأجر من عند الله سبحانه وتعالى إذا جئت وأتيت؛ لتساعدي هذه المرأة في الولادة؟ فأسرعت بذلك، وأحضر الفاروق ما يصلح لهذه المرأة في هذه الحالة، وهي حال الولادة، أحضر لها ما يصلح لها من طعام وشراب وخلافه، وأسرعا بالذهاب سويًّا إلى خيمة تلك المرأة وهذا الرجل، وساعدت زوجة الفاروق هذه المرأة في الولادة، بينما أحضر هو ما يصلح لهذه الأسرة لطعامها، وخاصة في هذه الظروف التي تمر بها هذه المرأة التي تلد.

الصور الاجتماعية في حياة الفاروق كثيرة كثيرة، وهي أكثر من أن تحصى وأكثر من أن تعد، وسوف نكتفي بمثل هذه الصور بالنسبة للحالة الاجتماعية، وحقيقة فإننا نستطيع أن نعرض بعض النماذج التي تدل على مدى سلوكه وأخلاقه:

من ذلك ما حدث في مصر أيام أن كان عمرو بن العاص واليًا عليها؛ حيث تسابق ابن عمرو بن العاص مع ابن أحد المصريين من الأقباط؛ فسبق ابنُ المصري ابنَ عمرو بن العاص؛ فضرب ابنُ عمرو بن العاص ابنَ المصري بالسوط، وقال له: خذها وأنا ابن الأكرمين، عندما وصل هذا الأمر إلى عمرو بن العاص تخوّف أن يصل الأمر إلى الفاروق، فأخذ هذا المصري وحبسه، ولكن المصري استطاع أن يصل إلى الفاروق عمر بن الخطاب، وشكا له ما حدث من عمرو بن العاص وابنه، فأرسل لهما وأحضرهما بين يديه، وأرسل للمصري وابنه، وأحضر الجميع بين يديه، وقال لابن المصري القبطي، أعطاه الدرة وقال له: اضرب ابن الأكرمين فضربه، ثم قال له: واصنع مثل هذا على صلعة عمرو، أهلها على صلعة عمرو، فإن ابنه ما صنع ذلك إلا تبجحًا بحالة والده، وموقف والده، ومركز والده، وبالفعل ضرب ابن المصري عمرو بن العاص على صلعته.

هكذا كان عمر، وهكذا كان الفاروق، وهكذا كانت الأخلاق في الدولة الإسلامية، ومن ثم سادوا العالم وسادوا الدنيا بأخلاقهم، ومن ثم دخل المصريون في دين الله أفواجًا لعدل عمر ولعدل المسلمين، ولولا ذلك لما رأينا هذا التحول العظيم، الذي حدث في مصر بدخول أهلها في الإسلام جماعات وأفرادًا.

كذلك من سلوكه وأخلاقياته ما حدث عندما تم وضع الدواوين، وبدأت عملية تقسيم الأموال على الناس، فقد رأى البعض أن وضع الدواوين وكتابة أسماء الناس فيه تكون البداية فيه بالفاروق عمر بن الخطاب، فهو الخليفة وأمير المؤمنين، فقال لهم قولته الشهيرة: “بَخٍ بَخٍ، لا يكون هذا أبدًا، بل يبدأ برسول الله صلى الله عليه  وسلم وآل بيته أولًا الأقرب فالأقرب من رسول الله صلى الله عليه  وسلم، ثم يوضع عمر وآل عمر حيث وضعهم الله سبحانه وتعالى”، هكذا كان الفاروق رفض تمامًا أن يميز هو أو أحد أهل بيته عند كتابة الأسماء في الدواوين، وقال لهم: ابدءوا برسول الله فالأقرب فالأقرب من رسول الله صلى الله عليه  وسلم، ثم يوضع عمر بعد ذلك هو وأهله حيث وضعهم الله سبحانه وتعالى.

هكذا كان الفاروق، وهذه بعض أخلاقه، وهذه بعض سلوكياته، فليتنا نقرأ ونتعلم، وليتنا نتمثل بهذه الأخلاق العظيمة حكامًا ومحكومين؛ حتى يعود للإسلام مجده، وحتى تعود للإسلام راياته الخفاقة؛ وحتى يدخل الناس في دين الله أفواجًا كما كان.

ولا أريد أن أنهي الحديث عن موضوع الفاروق رضي الله  عنه دون أن أشير إلى بعض النقاط الأخرى المتفرقة والتي تظهر مدى عبقرية هذا الرجل، فلم تقف حدود عبقريته عند ما ذكرناه، ولكننا فوجئنا به يفكر في موضوع تمصير الأمصار، قضية عظيمة جدًّا وخطيرة جدًّا.

فتقول الروايات: أنه أرسل سعد بن أبي وقاص وفدًا إلى عمر بفتوح العراق، لما رأى الفاروق هذا الوفد سألهم عن تغير ألوانهم وحالهم؛ فقالوا: لوخومة البلاد عندنا، فأمرهم عمر أن يرتادوا منزلًا ينزله الناس، وقيل: بل كتب حذيفة بن اليمان إلى عمر: أن العرب قد رقت بطونها، وجفت أعضابها، وتغيرت ألوانها، وكان حذيفة مع سعد، فكتب عمر إلى سعد: أخبرني ما الذي غير ألوان العرب ولحومهم؟

فكتب إليه سعد: إن الذي غيرهم وخومة البلاد، وأن العرب لا يوافقها إلا ما وافق إبلها من البلدان، فكتب إليه عمر: أن ابعث سلمان وحذيفة رائدين فليرتادا منزلًا بريًّا بحريًّا ليس بيني وبينكم فيه بحر ولا جسر، فأرسلهما سعد، فخرجا حتى أتيا إلى الأنبار، وسارا في غربي الفرات، حتى أتيا إلى الكوفة، وسار حذيفة شرقي الفرات، ووصل إلى البصرة.

والمصادر بها كلام كثير عن إنشاء البصرة وعن إنشاء الكوفة، وتقول بعض المصادر أن عمر بن الخطاب اقترح عليهم أن تكون متصلة هذه الأماكن بجزيرة العرب لا تفصل بينهما مجارٍٍ مائية؛ حتى يسهل على الخليفة أن يمدهم بالجند وقت الحاجة.

فبنيت البصرة ولم تلبث أن صارت بعد فترة مركزًا تجاريًّا مهمًّا في الشرق الأوسط وفي العصور الوسطى، وحملت لواء العلم والأدب زمنًا طويلًا، وحلت محل المدائن التي كانت في دولة الفرس.

كذلك أمر بإنشاء الكوفة لعدم ملاءمة جو المدائن لجند العرب، فكما ذكرت لاحظ في الجند الضعف، وتغير بشرتهم وألوانهم وقدراتهم، وكتب إليه أن العرب -كما ذكرت- لا يوافقها إلا ما وافق إبلها من البلدان.

وحقيقة استطاعوا أن يبحثوا في تلك المناطق حتى استطاعوا أن يضعوا أيديهم على المنطقة التي أنشئت فيها الكوفة، وأمَّر الفاروق عمر بن الخطاب بتمصير الكوفة؛ يعني: بإنشاء مدينة الكوفة، وبالفعل تم إنشاء مدينة الكوفة.

وحقيقة لو أردنا أن نتكلم على ابن الخطاب سوف يكثر الحديث.

استشهاد الفاروق ومقتله رضي الله  عنه:

كلنا لا ينسى عندما يكرمنا الله سبحانه وتعالى بزيارة مسجد رسول الله صلى الله عليه  وسلم، عندما ندخل بالسلام على رسول الله صلى الله عليه  وسلم ندخل أيضًا للسلام على صاحبيه رضي الله  عنهما أبي بكر وعمر فرضي الله  عنهما، وألحقنا بهم يا ربي غير مفتونين ولا ضالين ولا مضلين.

إن الفاروق رضي الله  عنه طعنه أبو لؤلؤة المجوسي في صلاة الفجر، ومات من أثر الطعنات بعد ثلاثة أيام كان هذا سنة ثلاث وعشرين هجرية في شهر ذي الحجة، وكانت مدة خلافته عشر سنين وستة أشهر وأربعة أيام، وكانت سنه ثلاثًا وستون سنة، مثل سن رسول الله صلى الله عليه  وسلم وأبي بكر الصديق رضي الله  عنه.

هناك رواية في قصة مقتل الفاروق عن عبد الرحمن بن أبي بكر: أنه رأى هذا الرجل -وهو أبو لؤلؤة- مع الهرمزان وجفينة، قبل مقتل عمر، وكانوا جميعًا جالسون يتحدثون فلما رأوه وقفوا وسقط منهم خنجر له رأسان، وهو الخنجر الذي حمله فيروز لقتل عمر، وقتل به نفسه بعد ذلك خشية أن يُقتل بفعلته، الهرمزان هذا أمير فارسي زالت عنه الإمارة بعد ذهاب الدولة الفارسية، أما جفينة فهو من أهل الأنبار، وهو على ولاء للفرس، أما أبو لؤلؤة هذا فهو فارسي مجوسي شديد الحقد على المسلمين، بسبب وقوعه في الأسر وكثير من بني جنسه، وتقول الروايات: أنه كلما رأى أسرى فارس في المدينة مسح على رءوسهم، وتوعد المسلمين بالويل والنكال.

كذلك تقول بعض المصادر: إن كعب الأحبار -وهو يهودي- شارك في هذه المؤامرة، وكثرت الشائعات حول مصدر السلاح الذي استخدم في الجريمة، وأن الهرمزان هو الذي أعطى هذا السلاح لأبي لؤلؤة فيروز، وأمره بقتل عمر.

وحقيقة هناك قصص أخرى يروج لها حول مقتل الفاروق تقول: إن الفاروق كان يتفقد السوق، ولقيه فيروز هذا -أبو لؤلؤة- وشكا له سيده المغيرة بن شعبة، هو يفرض عليه في اليوم درهمين ولا يستطيع أداءه، فحقق معه عمر ما دخلك؟ وكم خراجك؟ وما الأعمال التي تديرها؟

ففهم منه أنه حداد ونقاش ونجار، فلم ير عمر في ذلك ظلمًا؛ لأن دخله كبير ويستطيع أن يفي بهذه الأموال، ويتبقى عنده مال زائد كثير ليس بالقليل، فانصرف الرجل ساخطًا متوعدًا، ولم يحفل عمر بتهديده، وجاء في اليوم المشئوم وارتكب جريمته.

بعض المصادر تقول أن عمر قال لأبي لؤلؤة: أسمع أنك ماهر في صناعة الرحا الهوائية، يعني: الرحا تدور عن طريق المراوح التي تديرها الرياح من أعلى، والرحا تدور من أسفل، وفكر الفاروق في أن يدير كثيرًا من مناطق العالم الإسلامي بهذه الرحا الهوائية؛ فقال له أبو لؤلؤة: سوف أصنع لك رحا يتحدث بها الشرق والغرب.

على أية حال، هذا ليس موضوعنا، ولكن أقول: إن هذه القصة يروج لها؛ حتى يبرر فعل أبي لؤلؤة المجوسي، وهذا ستار يتوارى وراءه المتآمرون مخافة القصاص طبعًا، وهكذا كان تفكيرهم.

على أية حال، ذهب عمر رضي الله  عنه شهيد تلك المؤامرة من أعداء الإسلام، وبلا شك هي محاولة للرد على اكتساح الدولة الفارسية على يد المسلمين، والقضاء على دولة فارس صاحبة الشأن والصيت الذائع، فما كان من هؤلاء إلا أنهم انتقموا من المسلمين في شخص خليفتهم الفاروق عمر بن الخطاب رضي الله  عنه.

ولما أغمي عليه حُمِلَ إلى داره ولم يهمه آن ذاك من مقتله، إلا أن يعرف هل كان قتله لمظلمة أو اعتداء منه على القاتل؟ لما عرف أنه أبو لؤلؤة، قال: “الحمد لله الذي لم يجعل قاتلي يحاجني بين يدي الله سبحانه وتعالى”.

أخذ الناس يدخلون عليه من المهاجرين والأنصار فيسألهم: هل عن ملأ منكم هذا؟ فيقولون: معاذ الله، يعني هو يريد أن يطمئن، هل شارك المسلمون في هذه الجريمة؟ هل كرهوه إلى هذا الحد؟ هل كانوا لهم موقف منه إلى هذه الصورة؟ فأراد أن يتأكد من كل هذا، لما اشتد بكاؤهم عليه نهاهم عن ذلك، وأخذ يفكر في أمر الخلافة من بعده ومن يخلفه على أمر المسلمين، وهو شديد الحساسية، طبعًا معروف عمر بالخوف من الله سبحانه وتعالى، وبالمسئولية الملقاة عليه خاصة وهو حي، ثم حاليًا شعر بالمسئولية وهو ميت أيضًا، وخاف أن يسند هذه المسئولية لواحد من الصحابة قد يكون غير موفق، فيسأله الله تعالى عن ذلك، فجعلها في ستة ممن رضي الله  عنهم وبشرهم الرسول صلى الله عليه  وسلم بالجنة.

النقطة الأهم في هذا الموضوع الآن في موضوع مقتله أن الفاروق دعا ابنه عبد الله، وطلب منه أن يذهب إلى أم المؤمنين السيدة عائشة رضي الله  عنهما ويقرئها السلام ونهاه أن يسميه -أن يذكر اسمه- بأمير المؤمنين، يعني لا يقول لها بل يقول لها: عمر بعدما قتل عندها، ثم يستأذنها أن يدفن بجوار صاحبيه، الرسول الكريم النبي محمد صلى الله عليه  وسلم والصديق رضي الله  عنه فذهب عبد الله ووجدها تبكي فاستأذنها فأذنت له، وقالت: كنت أريده لنفسي -يعني: هذا القبر- بجوار الرسول والصديق ولأوثرنه به اليوم على نفسي، ثم طلب من ابنه أن يستوثق منها قبل أن تدخل الحجرة وهو على سرير الموت، يعني: قبل دفنه في حجرتها وهو على سرير الموت طلب أن يستأذنها، فأذنت رضي الله  عنه.

ومن ثم دُفِنَ الفاروق رضي الله  عنه بجوار حبيبه رسول الله صلى الله عليه  وسلم، وخليفته الصديق رضي الله  عنه ورضي الله عنك يا فاروق هذه الأمة، يا عمر يا بن الخطاب.

error: النص محمي !!