Top
Image Alt

أفعال الرسول صلى الله عليه وسلم، والأمور العامة التي تعرف بها جهة الفعل الصادر من النبي صلى الله عليه وسلم

  /  أفعال الرسول صلى الله عليه وسلم، والأمور العامة التي تعرف بها جهة الفعل الصادر من النبي صلى الله عليه وسلم

أفعال الرسول صلى الله عليه وسلم، والأمور العامة التي تعرف بها جهة الفعل الصادر من النبي صلى الله عليه وسلم

. أفعال الرسول صلى الله عليه  وسلم:

أولًا: أقسام السنة النبوية:

هذه المسألة لم يتعرض لها ابن قدامة -رحمه الله- وإنما نذكرها تتميمًا للفائدة؛ لأننا عند تعريفنا للسنة قلنا: إن السنة قول النبي صلى الله عليه  وسلم وفعله وتقريره، وقلنا: إن السنة من حيث ذاتها تنقسم إلى سنة قولية، وسنة فعلية، وسنة تقريرية. أما السنة القولية والسنة التقريرية فقد تكلمنا عنهما ولله الحمد والمنة، وأما السنة الفعلية -أعني: أفعال الرسول صلى الله عليه  وسلم- فلم يتكلم عنها ابن قدامة -رحمه الله- مع أهمية ذلك القسم بالنسبة لطلاب العلم عامة وعلم أصول الفقه خاصة، وسنتكلم عن أفعال الرسول صلى الله عليه  وسلم باختصار حتى تكتمل الصورة وتنسجم أقسام السنة.

ثانيًا: أقسام أفعال النبي صلى الله عليه  وسلم:

والسنة الفعلية تأتي على أنواع وعلى صور:

النوع الأول: هو نوع لا خلاف فيه بين أهل العلم، فلا خلاف بين العلماء في أن أفعاله صلى الله عليه  وسلم إن كانت مما تقتضيه الجبلة والطبيعة، كالنوم، والاستيقاظ، والقيام، والقعود، والأكل، والشرب، والذهاب، والرجوع… ونحو ذلك، هذه الأفعال العلماء يسمونها أفعالًا جبلية، فهذه الأفعال لو صدرت من النبي صلى الله عليه  وسلم فهي تدل على الإباحة له ولأمته نظرًا لأنه لا يتعلق بها تشريع.

النوع الثاني: أفعال محتملة بين أن تكون أفعال جبلية –يعني: الإنسان يفعلها بالطبيعة، وبين أن تكون أفعال غير جبلية –يعني: موجه فيها من قبل الشارع- كركوبه صلى الله عليه  وسلم في الحج، وهو ذاهب للحج، أو وهو في مناسك الحج، ودخوله مكة من ثنية كداء، وخروجه من ثنية كدى، وذهابه ورجوعه في العيد، ولبسه صلى الله عليه  وسلم النعل السبتي -والنعل السبتي: النعل الذي لا شعر فيه- ولبسه صلى الله عليه  وسلم الخاتم، وأكثر العلماء على أنها مباحة كالقسم الأول، وقيل: إنها مندوبة، وقد رجح القول بالندب الشوكاني في (إرشاد الفحول).

النوع الثالث: أفعال خاصة بالنبي صلى الله عليه  وسلم وحكمها أن الأمة لا تشاركه فيه، وهذه الأفعال خاصة بالنبي صلى الله عليه  وسلم فقط، ومثال ذلك: الوصال في الصيام، وكذا الزيادة على أربع نسوة في النكاح، ومن ذلك وجوب الضحى، يعني: صلاة الضحى في حق النبي كانت واجبة وفي حق الأمة مندوبة أو مسنونة، فهذه أفعال خاصة بالنبي صلى الله عليه  وسلم ليس لأحد أن يتمثل بها على الجهة التي فعلها النبي صلى الله عليه  وسلم، وهذا باتفاق العلماء.

وقد حكى الإجماع في ذلك الآمدي -رحمه الله- في كتابه (الإحكام في أصول الأحكام).

ثالثًا: نزاع العلماء في أفعاله المجردة عن القول:

الفعل الصادر من النبي صلى الله عليه  وسلم والذي لم تعلم له صفة؛ من وجوب ونحوه، ينقسم إلى قسمين:

القسم الأول: ما ظهر فيه قصد التقرب إلى الله تعالى، وهذا القسم اختلف العلماء فيما تفيده الأفعال المندرجة تحته، وكان خلافهم على أربعة أقوال نذكرها باختصار شديد؛ لأن الكلام في أفعال الرسول كلام يطول:

القول الأول: أن الأفعال الصادرة من النبي صلى الله عليه  وسلم على جهة القربى أو بقصد القربى تكون للوجوب في حقه وفي حقنا أيضًا، وهذا القول للحنابلة وجماعة من المعتزلة وغيرهم، واستدلوا على ذلك بنصوص كثيرة؛ منها: قول الله تعالى: {قُلْ أَطِيعُواْ اللّهَ وَأَطِيعُواْ الرّسُولَ} [النور: 54]. وقوله تعالى: {وَمَآ آتَاكُمُ الرّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانتَهُواْ} [الحشر: 7]. ومن ذلك الإجماع، فقد أجمع الصحابة رضي الله  عنهم لما اختلفوا في الغسل في المجامعة بدون إنزال، وأرسلوا أبا موسى الأشعري إلى أم المؤمنين عائشة رضي الله  عنها قالت: ((إذا التقى الختانان فقد وجب الغسل، فعلته أنا ورسول الله فاغتسلنا))، فرجع الصحابة إلى قول السيدة عائشة، وهذه الأدلة نوقشت مناقشة طويلة ليس هذا محل ذكرها.

القول الثاني: قالوا: إن الأفعال الصادرة من النبي صلى الله عليه  وسلم بقصد القربى تحمل على الندب –يعني: تكون مندوبة في حق النبي وفي حق الأمة، واستدلوا على ذلك أيضًا بأدلة كثيرة؛ منها: قول الله تعالى: {لّقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لّمَن كَانَ يَرْجُو اللّهَ وَالْيَوْمَ الاَخِرَ وَذَكَرَ اللّهَ كَثِيراً} [الأحزاب: 21]. وقالوا: إن التعبير بكلمة “لكم” يدل على أن التأسي غير واجب، وقد ناقش بعض العلماء هذه الأدلة، ومن ذلك استدلوا بأن فعل النبي صلى الله عليه  وسلم إما أن يكون راجح العدم، أو مساوي العدم، أو مرجوح العدم، لا شك أن الأول باطل لما ثبت أنه لا يوجد منه صلى الله عليه  وسلم ذنب، وكذلك الثاني باطل أيضًا؛ لأن الاشتغال به عبث والعبث مزجور عنه بقوله تعالى: {أَفَحَسِبْتُمْ أَنّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثاً وَأَنّكُمْ إِلَيْنَا لاَ تُرْجَعُونَ} [المؤمنون: 115]. فتعين الثالث وهو أن يكون مرجوح العدم، ثم إن لما تأملنا أفعاله صلى الله عليه  وسلم وجدنا بعضها مندوبًا وبعضها واجبًا والقدر المشترك هو رجحان جانب الوجوب وعدم الوجوب.

القول الثالث: قالوا: إنها تحمل على الإباحة، وهذا القول حكاه الإمام الرازي عن الإمام مالك -رحمه الله- ولهم أدلة ومناقشات على هذه الأدلة.

الرابع والأخير في المسألة: هو الوقف وعدم الجزم برأي معين، يعني: لا نقول: أفعال النبي التي قصد بها القربة واجبة ولا مندوبة ولا مباحة، بل نتوقف إلى أن يأتي دليل يبين لنا المراد من أفعال النبي صلى الله عليه  وسلم.

القسم الثاني: أما إذا لم يظهر فيه قصد القربة فقد اختلف العلماء فيه على أربعة أقوال أيضًا نقولها باختصار أيضًا:

القول الأول: أنَّه واجب علينا، يعني أن هذا الفعل الذي فعله النبي صلى الله عليه  وسلم ولم يظهر فيه قصد القربة يكون واجب على الأمة.

القول الثاني: أنَّه مندوب، وهو قول أكثر الحنفية.

القول الثالث: أنه يكون مباحًا، وهذا القول هو الراجح عند الحنابلة، وما قاله الشوكاني في ترجيحه القول بالندب يرد به على هذا القول.

القول الرابع: الوقف حتى يقوم الدليل أيضًا، وهو قول أكثر الأشعرية، وبه قال جمهور أصحابنا، كما يقول الشيخ الزركشي -رحمه الله- في (البحر المحيط)، وقال ابن فورك: إنَّه الصحيح. هذا حاصل ما يقال في فعل النبي صلى الله عليه  وسلم إذا لم يقصد به القربة.

2. الأمور العامة التي تعرف بها جهة الفعل الصادر من النبي صلى الله عليه  وسلم:

الأمور العامة التي تعرف بها جهة الفعل الصادر من النبي صلى الله عليه  وسلم تنحصر في ثلاثة:

الأول: التنصيص على الجهة، بأن يقول النبي صلى الله عليه  وسلم هذا الفعل واجب، أو هذا الفعل مندوب، أو هذا الفعل مباح.

الثاني: التسوية، وهي أن يفعل النبي صلى الله عليه  وسلم فعلًا ثم يقول هذا الفعل مثل الفعل الفلاني، والفعل الفلاني أصلًا معلوم لنا، فإن كان الفعل الأول واجبًا يكون الثاني واجبًا، وإن كان الأول مندوبًا يكون الثاني مندوبًا، وهكذا.

الثالث: أن يعلم بطريقة من الطرق أن ذلك الفعل امتثال لآية دلت على أحد الأحكام الثلاثة -الوجوب، والندب، والإباحة- بالتعيين؛ لأن ما يفعله النبي صلى الله عليه  وسلم لا تخرج عن واحد من هذه الثلاثة، إما أن يفعل واجبًا، أو مندوبًا، أو مباحًا، ولا جائز بحال من الأحوال أن يفعل حرامًا أو مكروهًا، فلو كان عندي آية تدل على وجوب شيء وفعلها النبي صلى الله عليه  وسلم تطبيقًا عمليًّا يكون فعل النبي واجب، الله تعالى أمر بالصلاة والنبي صلى الله عليه  وسلم صلى ثم قال: ((صلوا كما رأيتموني أصلي)). ففعل النبي للصلاة يأخذ حكم الوجوب؛ لأنَّ فعل النبي صلى الله عليه  وسلم للصلاة بيان لما جاء مجملًا في القرآن في قوله: {أَقِمِ الصّلاَةَ} [الإسراء: 78]. وكذا حجه صلى الله عليه  وسلم لما حج وعلَّم الناس المناسك وقال: ((خذوا عني مناسككم)). أو ((لتأخذوا مناسككم))، فيكون فعله دليل على الوجوب، الله تعالى أمر بالنكاح والنبي صلى الله عليه  وسلم تزوج، والزواج -كما يقول العلماء- سنة مؤكدة، إذن فعل النبي يكون بيان لسنة.

3. تعارض فعل النبي صلى الله عليه  وسلم مع فعل آخر:

ننتقل إلى مسألة تعارض فعل النبي صلى الله عليه  وسلم مع فعل آخر له، وتعارض فعل النبي صلى الله عليه  وسلم مع قول له، وهو ما يعرف عند الأصوليين بتعارض الأفعال والأقوال، بمعنى إمكانية تعارض فعلين، فإذا ورد عن النبي صلى الله عليه  وسلم فعلان مجردان مطلقان وهما مختلفان مثال ذلك: أنَّه لما رأى النبي صلى الله عليه  وسلم جنازة وقف، ورأى جنازة أخرى فلم يقف، فقيامه صلى الله عليه  وسلم دليل على أنه يقام للميت، وعدم قيامه دليل أيضًا على أنه لا يقام للجنازة، إذن على مذهب الجمهور لا يوجد تعارض حقيقي في الواقع ونفس الأمر بين أفعال النبي صلى الله عليه  وسلم وما مثلنا به الآن إنما هو دليل على أن المكلف مخيرٌ بين الفعلين، فيجوز له أن يختار واحدًا منهما، وإلى هذا المذهب ذهب القاضي أبو بكر الباقلاني وابن الهمام الحنفي والغزالي وأبو الحسين البصري وكثيرٌ من العلماء.

أما المذهب الثاني في مسألة تعارض الفعل مع الفعل فقال أصحاب هذا المذهب: أنه يحصل تعارض بين هذين الفعلين إذا لم يمكن الجمع بينهما، إذن لا مانع أن يقع تعارض في الواقع ونفس الأمر بين فعلين من أفعال الرسول صلى الله عليه  وسلم وهذا إذا لم يمكن الجمع بينهما، فإن عُلم التاريخ؛ فإن الفعل الثاني منهما يكون ناسخًا للأول بناءً على القاعدة المكررة عند الأصوليين: “أن المتأخر ينسخ المتقدم”، وإن لم يُعلم التاريخ يرجح بينهما.

والراجح ما ذهب إليه الجمهور من عدم جواز تعارض الفعلين؛ حيث إنَّ الأفعال لا صيغَ لها يمكن النظر فيها والحكم عليها، بل هي مجرد أكوان متغايرة واقعة في أوقات مختلفة.

4. تعارض قول النبي صلى الله عليه  وسلم مع قول آخر:

قال أهل العلم: إذا وقع تعارض بين قولين فعلى المجتهد أن يتبع الخطوات التالية لدفع هذا التعارض:

أولًا: محاولة الجمع بين المتعارضين بأي نوع من أنواع الجمع، حيث إن العمل بهما ولو من وجهٍ أولى من إسقاط أحدهما بالكلية، ومن المقرر عند أهل العلم أن إعمال الدليلين أولى من إهمال أحدهما، وذلك لأن الأصل في كل واحد منهما الإعمال، ولا فرق حينئذ بين أن يكون الدليلان المتعارضان عامين، أو خاصين، أو أحدهما عامًّا والآخر خاصًّا، أو غير ذلك. على ما سيأتي -إن شاء الله- في باب التعارض والترجيح.

ثانيًا: على المجتهد أن يتبع في دفع التعارض الحاصل بين القولين أو فعلين الترجيح، أي: تقديم أحد المتعارضين على الآخر بمرجح والمرجحات كثيرة أوردها العلماء في كتاب (التعارض والترجيح) في التعارض بين الأخبار وبين الأقيسة. وعلى المجتهد إذا تعذر عليه الترجيح بين أحد الدليلين المتعارضين أن ينظر في تاريخ الحديثين المتعارضين، فإن علم التاريخ كان الأول منسوخًا بالثاني؛ لأن القاعدة -كما قلت: المتأخر ينسخ المتقدم، عند تعذر الجمع والترجيح ومعرفة التاريخ يحكم بسقوط المتعارضين، ويرجع إلى البراءة الأصلية.

5. تعارض الفعل مع القول:

أما إذا تعارض الفعل مع القول مثل: نهيه صلى الله عليه  وسلم عن استقبال القبلة واستدبارها بغائط أو ببول مع أن ابن عمر رضي الله  عنهما قد رآه صلى الله عليه  وسلم وهو مستقبل الشام مستدبر القبلة وهو يتخلى –يعني: يقضي حاجته، ومن ذلك: نهي النبي صلى الله عليه  وسلم أن يصلوا خلف الإمام قيامًا وهو جالس ثم صلى بهم كذلك صلى الله عليه  وسلم، ومثل أنه أمر أن يوتر المتهجد بركعة واحدة وكان هو يوتر بسبع أو بتسع، فهنا حدث تعارض بين الفعل وبين القول. فقد اختلف العلماء في ذلك على مذاهب:

الأول: أنه يقدم القول نظرًا لقوته بالصيغة؛ لأن الفعل لا يتعدَّى إلى غيره إلا بدليل، وهذا المذهب هو الصحيح؛ لأن القول يدل على الحكم بنفسه والفعل يدل بواسطته، فكان ما دل على الحكم بنفسه أولى مما دل عليه بواسطته.

المذهب الثاني: تقديم الفعل لعدم الاحتمال فيه، فالفعل لا يتطرق إليه احتمال أما القول فيتطرق إليه احتمالات كثيرة.

المذهب الثالث: أن الفعل والقول سيان لا يرجح أحدهما على الآخر إلا بدليل، يعني في هذه الحالة يتوقف إلى أن يأتي دليل يرجح أحد الجانبين إما القول وإما الفعل.

هذا خلاصة ما يقال في أفعال النبي صلى الله عليه  وسلم وفي الحكم فيما لو تعارض فعلان أو فعل وقول أو تعارض قولان.

error: النص محمي !!