Top
Image Alt

أقسام الحديث في (سنن أبي داود)

  /  أقسام الحديث في (سنن أبي داود)

أقسام الحديث في (سنن أبي داود)

ذكر الإمام أبو داود في رسالته لأهل مكة أنه يذكر في كتابه (السنن) الصحيحة وما يشبهه ويقاربه، وما كان فيه وهنٌ شديد بينه، وما لم يذكر فيه شيئًا فهو صالح، وبعضها أصح من بعض. الناظر في كلام أبي داود -رحمه الله تعالى- يرى أن كتابه (السن) يشتمل على أنواع من الحديث؛ وذلك لأن العطف يقتضي التغاير، وعلى ذلك تكون الأحاديث في سنن أبي داود على أربعة أقسام:

القسم الأول: الصحيح:

فإذا كان الحديث الذي أخرجه أبو داود في الصحيحين، أو أحدهما، أو حكم إمام من أئمة السنة عليه بالصحة؛ فهو صحيح.

القسم الثاني: ما يُشبه الصحيح وهو الحسن:

ويدخل في هذا القسم أنواع من الأحاديث: الأحاديث التي لم تُخرَّج في الصحيحين أو أحدهما، ولا صححها إمام من أئمة السنة، ولم يحكم عليها أبو داود بالضعف؛ فهذا القسم لا يُحكم عليه بالصحة إلا بنص، فيحكم عليه بالحسن أو يُحكم عليه بأنه صالح، وهذا أحوط.

وذلك لأن قول أبي داود ذكرت الصحيح وما يشبهه ويقاربه، فالذي يُشبه الصحيح هو الحسن، والذي يُقارب الصحيح هو الصالح؛ وذلك لأن ما يشبه الشيء غيره، وما يُقارب الشيء غيره، وعلى ذلك فالصالح قسم مستقلّ.

القسم الثالث: الصالح، وهو ما يُقارب الصحيح:

ويدخل في هذا القسم ما سكت عليه أبو داود، والصالح يدخل فيه الحديث الصحيح بقسميه والحديث الحسن بقسميه، كما يدخل فيه الحديث الضعيف الذي يصلح للاحتجاج به في بابه. وإنما دخل الضعيف الذي يصلح للعمل به في الحديث الصالح عند أبي داود؛ لأن أبا داود يذهب مذهب شيخه الإمام أحمد في العمل بالحديث الضعيف، ويستنبط منه الأحكام ويُقدّمه على القياس بشروط، وهي:

الشرط الأول: ألا يكون ضعف الحديث شديدًا كحديث سيِّئ الحفظ، أو المجهول عينًا أو حالًا، إلى غير ذلك من أنواع الحديث الضعيف الذي ينجبر ضعفها لا مطلق الضعيف؛ فيخرج بذلك الحديث الموضوع والمتروك والمنكر إلى الآخر.

الشرط الثاني: ألا يكون في بابه غيره.

الشرط الثالث: ألا يكون في بابه ما يدفعه.

القسم الرابع: الأحاديث الضعيفة الواهية:

وهي التي نصَّ أبو داود في سننه على أنها ضعيفة.

موقف العلماء من الأحاديث التي سكت عليها أبو داود في سننه:

وافق بعض العلماء أبا داود على أن الأحاديث التي سكت عليها في سننه صالحة، وبعض العلماء لم يُوافق أبا داود على ذلك. من الذين وافقوا أبا داود على ما ذهب إليه ابن عبد البر.

قال ابن عبد البر: “إن كل ما سكت عليه أبو داود فهو صحيح عنده، لا سيما إن لم يكن في الباب غيره. قلت: وهذا الكلام فيه نظر، وذلك أنا أبا داود يحتج بالحديث الضعيف، ويستنبط منه الأحكام إذا لم يكن في الباب غيره، وكون الباب ليس فيه إلا حديث واحد، فهذا مرشِّح قوي للحكم على الحديث بالضعف؛ فضلاً عن كونه صحيحًا”.

قال ابن منده وهو يتكلم عن (سنن النسائي)، وأنه يُخرِّج عن كل ما لم يُجمع على تركه قال: “وكذلك أبو داود السجستاني يأخذ مأخذه، ويخرّج الإسناد الضعيف إذا لم يجد في الباب غيره؛ لأنه أقوى عنده من رأي الرجال، والله أعلم”.

قال ابن سيد الناس: “قال ابن رشيد: ليس يلزم أن يستفاد من كون الحديث لم ينصّ عليه أبو داود بضعف، ولا نص عليه غيره بصحة أن يكون الحديث عنده حسن، بل قد يبلغ الصحة عند أبي داود وهو ليس بصحيح عند غيره”.

قال الإمام المنذري: “وكل حديث عزوته إلى أبي داود وسكت عنه؛ فهو كما ذكر أبو داود، ولا ينزل عن درجة الحسن، وقد يكون على شرط الصحيحين أو أحدهما”.

قال: “وأنبّه على كثير مما حضرني في حال الإملاء مما تساهل أبو داود في السكوت عن تضعيفه، أو الترمذي في تحسينه، وابن حبان والحاكم في تصحيحه لا انتقادًا عليهم -رحمهم الله تعالى”.

قال ابن الصلاح وهو يتكلم عن (سنن أبي داود): “فعلى هذا ما وجدناه في كتابه مذكورًا مطلقًا، وليس في واحد من الصحيحين، ولا نص على صحته أحد ممن يُميّز بين الصحيح والحسن؛ عرفناه بأنه من الحسن عند أبي داود، وقد يكون في ذلك ما ليس بحسن عند غيره، ولا مندرج فيما حققنا ضبط الحسن به على ما سبق أي: ليس بحسن عند غير أبي داود من الأئمة”.

قال الحافظ السخاوي في التعقيب على قول ابن الصلاح: “على أن في قول ابن الصلاح: “وقد يكون في ذلك ما ليس بحسن عند غيره” ما يُوحي إلى التنبيه لما أشار إليه ابن رشيد، كما نبَّه عليه ابن سيد الناس؛ لأنه جوَّز أن يخالف في حكمه حكم غيره في طرف، فكذلك يجوز أن يخالفه في طرف آخر، وفيه نظر لاستلزامه نقد ما قرَّره”.

قال الإمام النووي: “اختلف قول الإمام النووي -رحمه الله تعالى- بالنسبة للأحاديث التي سكت عليها الإمام أبي داود في سننه، ففي كتاب (الأذكار) و(التقريب) ذهب إلى قبول ما سكت عليه أبو داود في سننه قبولًا مطلقًا، وأن ما سكت عليه أبو داود ولم يضعّفه غيره من الأئمة لا يخرج عن كونه حسنًا”. غير أن الإمام السخاوي نقل عن الإمام النووي أنه لا يقبل ما سكت عنه أبو داود في سننه قبولًا مطلقًا، وليس كلُّ ما سكت عليه أبو داود في سننه يُقبل وأنه حسن.

قال الإمام النووي في مقدمة كتاب (الأذكار): “وقد روينا عن أبي داود أنه قال: ذكرت في كتابي الصحيح وما يشبهه ويقاربه، وما كان فيه ضعف شديد بينته، وما لم أذكر فيه شيئًا فهو صالح، وبعضها أصح من بعض، قال: وفيه فائدة حسنة يحتاج إليها صاحب هذا الكتاب وغيره، وهي أن ما رواه أبو داود في سننه ولم يذكر ضعفه؛ فهو عنده صحيح أو حسن، وكلاهما يُحتجّ به في الأحكام فكيف بالفضائل”. فإذا تقرَّر هذا فمتى رأيت هنا في كتاب (الأذكار) حديثًا من رواية أبي داود وليس فيه تضعيف، فاعلم أن أبا داود لم يضعفه، والله أعلم.

قال الإمام النووي في كتاب (التقريب) وهو يتكلم عن الحديث الحسن: “ومن مظانّه -أي: الحديث الحسن- (سنن أبي داود) فقد جاء عنه أنه يذكر فيه الصحيح وما يشبهه ويقاربه، وما كان فيه وهن شديد بينه، وما لم يذكر فيه شيئًا فهو صالح؛ فعلى هذا ما وجدنا في كتابه مطلقًا ولم يصححه غيره من المعتمَدين، ولا ضعفه فهو حسن عند أبي داود”.

فكلام الإمام النووي في كتابه (الأذكار) و(التقريب) صريح في أن ما سكت عليه الإمام أبو داود في سننه، ولم ينبِّه على ضعفه، فهو دائر بين صحيح أو حسن، وكلاهما يحتجّ به في الأحكام، غير أن الإمام السخاوي نقل عن الإمام النووي أنه لا يُقبل ما سكت عليه أبو داود قبولًا مطلقًا، كما ذكر هو في (الأذكار).

قال الحافظ السخاوي: “قال الإمام النووي: الحق أن ما وجدنا مما لم يبينه أبو داود -أي: سكت عليه أبو داود- ولم ينص على صحته أو حسنه أحد ممن يعتمد؛ فهو حسن، وإن نص على ضعفه من إمام من أئمة الحديث، أو رأى العارف في سنده ما يقتضي الضعف، ولا جابر له؛ حُكم بضعفه، ولم يلتفت إلى سكوت أبي داود عليه”.

وقد عقَّب الحافظ السخاوي على ما نقله عن الإمام النووي فقال: “ويساعد النووي من أن أفعل في قوله أصح من بعض، يقتضي المشاركة غالبًا؛ فالمسكوت عليه إمام صحيح أو أصح، إلا أن الواقع خلافه، ولا مانع من استعمال أصح بالمعنى اللغوي؛ بل قد استعمله كذلك غير واحد من الأئمة، منهم الإمام الترمذي، فإنه يُورد الحديث من جهة الضعيف ثم من جهة غيره، ويقول عقب الثاني: إنه أصح من حديث فلان الضعيف”.

وصنيع أبي داود يقتضيه لما في المسكوت عليه من الضعف بالاستقراء، وكذا هو واضح من حصره التبيين في الوهن الشديد؛ إذ مفهومه أن غير الشديد لا يبينه، وحينئذٍ فالصلاحية في كلامه أعمُّ من أن تكون للاحتجاج أو للاستشهاد. فما ارتقى إلى الصحة ثم إلى الحسن فهو بالمعنى الأول، وما عداهما فهو بالمعنى الثاني، وما قصر على ذلك فهو الذي فيه وهنٌ شديد، وقد التزم بيانه. وقد تكون الصلاحية على ظاهرها في الاحتجاج، ولا ينافيه وجود الضعيف؛ لأنه يُخرِّج الضعيف إذا لم يجد في الباب غيره كما سبق.

قال الحافظ ابن حجر جميع ما سكت عليه أبو داود لا يكون من قبيل الحسن الاصطلاحي، بل هو على أقسام:

  1. منه ما هو في الصحيحين أو على شرط الصحة.
  2. منه ما هو من قبيل الحسن لذاته.
  3. منه ما هو من قبيل الحسن إذا اعتضد، أي: الحسن لغيره.

وهذا القسمان أي: الحسن لذاته والحسن لغيره كثير في كتابه جدًّا، ومنه ما هو ضعيف لكنه من رواية من لم يُجمع العلماء على تركه.

وكل هذه الأقسام عنده تصلح للاحتجاج بها، قال الحافظ ابن حجر: “ومن هنا يظهر ضعف طريقة من يحتجّ بكل ما سكت عنه أبو داود؛ فإنه يخرج أحاديث جماعة من الضعفاء في الاحتجاج، ويسكت عنها” مثل عبد الله بن لهيعة بن عقبة أبو عبد الرحمن الحضرمي المصري قال الحافظ ابن حجر: “صدوق اختلط بعد احتراق كتبه، ورواية عبد الله بن المبارك وعبد الله بن وهب عنه أعدل من غيرهما، خرَّج له مسلم بعض الشيء مقرونًا، وخرَّج له أبو داود والترمذي وابن ماجه، قلت: خلاصة القول في لهيعة أن حديثه ضعيف ما لم يُتابع عليه، فإن تُوبع عليه ارتقى من الضعيف إلى الحسن لغيره”.

ومثل صالح مولى التوأمة: وهو صالح بن نبهان المدني مولى التوأمة، قال عنه الحافظ ابن حجر: “صدوق اختلط في آخر عمره”، وقال ابن عدي: “لا بأس برواية القدماء عنه، كابن أبي ذئب وابن جريج”، خرَّج له أبو داود والترمذي وابن ماجه، وعبد الله بن محمد بن عقيل، قال عنه الحافظ ابن حجر: “صدوق في حديثه لين”، ويقال: تغيَّر في آخر عمره، خرَّج له أبو داود والترمذي وابن ماجه، وموسى بن وردان، وسلمة بن الفضل، وغيرهم.

فلا ينبغي للناقد أن يقلده في السكوت على أحاديثهم، ويتابعه في الاحتجاج بهم؛ بل طريقه أن ينظر هل لذلك الحديث متابع، فيعتضّ به، أو هو غريب فيُتوقَّف فيه؛ لا سيما إن كان مخالفًا لرواية من هو أوثق منه، فإنه ينحطّ إلى قبيل المنكر، وقد يُخرِّج لمن هو أضعف من هؤلاء بكثير كالحارث بن وجيه، وصدقة الدقيق، وغيرهم.

ومحمد بن عبد الرحمن البيلماني، وسليمان بن أرقم، وإسحاق بن عبد الله بن أبي فروة، قال عنه الحافظ ابن حجر: “متروك”، وقال عنه الذهبي: “تركوه” وغير هؤلاء.

وكذلك ما فيه الأسانيد المنقطعة، وأحاديث المدلسين بالعنعنة، والأسانيد التي فيها من أُبهمت أسمائهم، فلا يتجه الحكم لأحاديث هؤلاء بالحسن من أجل سكوت أبي داود؛ لأن سكوته تارة يكون اكتفاء بما تقدَّم له من الكلام في ذلك الراوي في نفس كتابه، وتارة يكون لذهولٍ منه، وتارة يكون لشدَّة وضوح ضعف ذلك الراوي واتفاق الأئمة على طرح روايته كأبي الحويرث، ويحيى بن العلاء وغيرهم. وتارة يكون من اختلاف الرواة عنه وهو الأكثر فإن في رواية أبي الحسن بن العبد عنه من الكلام على جماعة من الرواة والأسانيد ما ليس في رواية اللؤلؤي، وإن كانت روايته أشهر.

ومن أمثلة ذلك: ما رواه من طريق الحارث بن وجيه، عن مالك بن دينار عن محمد بن سيرين، عن أبي هريرة رضي الله عنه حديث: “إن تحت كل شعرة جنابة”، فإنه تكلَّم عليه في بعض الروايات فقال: “هذا حديث ضعيف والحارث حديثه منكر، وفي بعضها اقتصر على بعض هذا الكلام، وفي بعضها لم يتكلم فيه، وقد يتكلم على الحديث بالتضعيف البالغ خارج السنن، ويسكت عنه في السنن”.

ومن أمثلته: ما رواه في (السنن) من طريق محمد بن ثابت العبدي عن نافع قال: انطلقت مع ابن عمر رضي الله عنهما في حاجة إلى ابن عباس رضي الله عنهما فذكر الحديث في الذي سلم على النبي صلى الله عليه وسلم فلم يردّ عليه حتى تيمم، ثم ردَّ السلام وقال: “إنه لم يمنعني أن أردَّ عليك إلا أني لم أكن على طهر” الحديث أخرجه أبو داود في كتاب (السنن)، كتاب الطهارة، باب التيمم في الحضر من طريق محمد بن ثابت، وقال أبو داود: “سمعت أحمد بن حنبل يقول روى محمد بن ثابت حديثًا منكرًا في التيمم، وقال ابن داسة: “قال أبو داود: لم يُتابع محمد بن ثابت في هذه القصة على ضربتين عن النبي صلى الله عليه وسلم ورواه من فعل ابن عمر”.

وذكر الحافظ ابن حجر هذا الحديث في (التلخيص الحبير)، ونقل تضعيف محمد بن ثابت عن ابن معين وأبي حاتم وأحمد والبخاري، ثم قال: “وقال أبو داود لم يتابع أحد محمد بن ثابت في هذه القصة على ضربتين عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وروَوْه من فعل ابن عمر”.

error: النص محمي !!