Top
Image Alt

أمراض الكلام في تراثنا العربي

  /  أمراض الكلام في تراثنا العربي

أمراض الكلام في تراثنا العربي

إن بعض العلماء المحدثين قد يتجاهلون الفكر العربي الإسلامي في إثارة مثل هذه القضايا الكلامية والأمراض اللغوية، وينسبون الفضلَ في كشفها وتسليط الضوء عليهاإلى العلم الحديث، ولكن مَن ينظر في تراثنا يجد جهودًا لا تنكر في هذا المجال، فها هو الجاحظ في كتابه: (البيان والتبيين)، يتناول عيوبَ النطق والأداء، ونجدها مبثوثة في ثنايا كتابه، تتنوع بين عيوب حركية، وعيوب بيانية، وأخرى صوتية ونطقية، لقد كان يهدف في كتابه: (البيان والتبيين)، إلى تحقيق الصورة البيانية الرائعة، وما يتصل بها من الظواهر الصوتية اللازمة للكلام الجيد والأداء السليم، فإذا ما اعترض هذا الأداءَ السليمَ أيُّ عارض، فإنه يعد عيبًا عند الجاحظ يمنع حسن الأداء، ويرى ضرورة التخلص منه؛ ولذلك نراه يتحدث عن عيوب تعود إلى ما يعرف بالعيوب الحركية والعصبية، مثل: العي، والحَصَري، والبكئي، والفحومة، والسلاطة، والهَذر، ونراه يتحدث عن عيوب صوتية، مثل: ضآله الصوت ودقته، وما يسمى بالجهورة، والتقعير، والتعقيب، والتشدق.

كما نراه يتحدث عن عيوب نطقية، مثل: عيوب الاستبدال والتشويه، ومنها: اللثغة التي يتحول اللسان بسببها من حرف إلى حرف آخر، كقلب السين ثاءً، والراءِ غينًا. بالإضافة إلى اللثغة، نراه يتحدث عن اللكنة وما يسمى بالفأفأة، والتمتمة.

كما نراه يتحدث عن صنف آخر من العيوب الكلامية؛ وهو ما يمكن أن يسمى بعيوب الخفاء وعدم الوضوح، كالصفير، والحُكلة، والزمزمة، ومنها: الحُبسة، وما سماه أيضًا بالعقلة، بالإضافة إلى عيوب تتصل باضطرابات النطق كاللجلجة، ومنها عيوب أخرى تتصل بسرعة الكلام كالرتة، والعجلة، والتنطيط، واللفف.

وليس الجاحظ وحده في التراث العربي الإسلامي الذي عُني بهذا الجانب من أمراض الكلام، فهناك فيلسوف العرب أبو يوسف الكِندي، المتوفى: سنة (ست وخمسين ومائتين)؛ حيث خصص رسالة علمية رائعة في اللثغة، وقسمها إلى ثمانية أبواب، تحدث عن أعضاء النطق عند الإنسان.

وعن صلة النطق بالحرف، معرفًا اللثغة، واصفًا أصوات العربية، ومخصصًا الباب الخامس للأصوات التي تصيبها اللثغة، مسميًا عيوب النطق، محاولًا في الباب السابع معالجة الألكن، والأخن، عارضًا للعيوب الكلامية التي تتعلق بزيادة آلة النطق أو نقصانها.

إن حديث الكندي عن عيوب النطق، حديث عارف واصف معلل، ورسالته دالة على استيعاب واضح للثغة، وما سواها من عيوب النطق.

ونذكر جهد إخوان الصفاء في هذا الميدان، ولا نفصِّل الحديث عنهم، فالحديث عنهم يطول، وخاصة في مجال الإدراك اللغوي، وفي مجال أمراض الكلام.

إنهم تحدثوا عن الإدراك بصفة عامة وعن الإدراك اللغوي بصفة خاصة، ورأوا أن الدماغ بأكمله هو المسؤول عن عملية الإدراك والتواصل اللغوي بصفة عامة، كما رأوا أن كل حاسة من حواس الإنسان الخمس تتصل بعضو من الجسد، وتدرك جنسًا واحدًا من المحسوسات، وأن تلك الحواس حين تدرك محسوساتها بأمر المخ؛ لاتصالها به عن طريق نظام من الأعصاب تسمى: قوى جسمانية حساسة.

ورأوا أن الدماغ مقسم إلى ثلاثة أقسام: مقدم، ووسط، ومؤخر، ورأوا أن لكل جزء من أجزاء الدماغ وظيفةً، فالجزء الأمامي يتخيل، والأوسط يهيمن ويفكر، والمؤخر يحفظ ويخزن، وسموا كل جزء حَسَب وظيفته، ورأوا أن وظيفة مراكز الإدراك في الدماغ تتوقف على سلامة الحواس الخمس من الآفات. وخاصة حاسة السمع والبصر، أو يتوقف على الأولى عمل الدماغ في إدراك اللغة في شقه المنطوق، وعلى الثانية إدراك اللغة في شقها المكتوب.

كما تحدثوا عن حركات الإنسان وقسموها إلى: إرادية وغيرها، ورأوا أن إحساس الإنسان له دور رئيس في الإدراك بعامة، وأن لحاسة السمع والبصر الدور نفسه في الإدراك اللغوي بصفة خاصة، بالإضافة إلى كل هذا رأوا للقلب دورًا مهمًّا، ولولا قوة حاسة القلب؛ لبطلت بقية الحواس. كما تحدثوا عن عيوب صوتية يمكن إرجاعها إلى عيوب استبدالية، أو تشويهية، أو عيوب تتعلق بالخفاء وعدم الوضوح، وأخرى تتعلق بسرعة الأداء.

وقد تحدثوا عن اللكنة؛ وهو أن يدخل الرجل بعض الحروف العرب في بعض حروف العجم، وتحدثوا عن الفأفأة. كما تحدثوا عن التمتمة، كما تحدثوا عن الحُكلة التي هي نقصان آلة المنطق وعجزها عن أداء اللفظ حتى لا يعرف معناه إلا القليل، كما تحدثوا عن الخُلسة. وذلك إذا كان الكلام يثقل على الرجل، كما تحدثوا عما يسمى بالعقلة؛ وذلك إذا عجز الرجل عن سرعة الكلام.

إن تراثنا العربي الإسلامي، يحتاج إلى إعادة قراءة من جديد في ضَوْء تلك المنجزات التي أتَى بها علم النفس اللغوي والعصبي.

error: النص محمي !!