أمر المسلمين بالتجهّز لأداء عمرة القضاء التي حان موعدها بعد عام من إبرام صلح الحديبية، و دخول مكة للعمرة، وأمره صلى الله عليه وسلم للمسلمين بإظهار القوة
أ. أمر المسلمين بالتجهز لأداء عمرة القضاء:
وبعد عام من إبرام صلح الحديبية، ومع دخل هلال ذي القعدة، أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم أصحابه أن يتجهزوا لأداء العمرة التي صدوا عنها في العام الماضي، وكان أمره صلى الله عليه وسلم ألَّا يتخلف أحدٌ ممن شهد الحديبيَة، فلم يتخلّف منهم إلا رجال قد استشهدوا في خيبر ورجال ماتوا، وخرج مع رسول الله صلى الله عليه وسلم قوم من المسلمين عُمّارًا غير هؤلاء وكان عدد المعتمرين مع رسول الله صلى الله عليه وسلم نحوًا من ألفين. واستخلف النبي صلى الله عليه وسلم على المدينة أبا رهم الغفاري، وساق صلى الله عليه وسلم ستين بَدنة جعل عليها ناجية بن جندب الأسلمي، فسار أمامه بالهدي يطلب الرعي من الشجر، ومعه أربعة فتيان من أسلم.
ب. دخول مكة للعمرة، وأمره صلى الله عليه وسلم للمسلمين بإظهار القوة:
كما أنه صلى الله عليه وسلم أمر المسلمين بأخذ سلاحهم الذي اتفقت عليه بنود الصلح وهي السيوف في قُربها، ولكن كان له أمر احتياط آخر حينما حمل معه سلاح، وعدة القتال فساق الخيل مائة فرس، وكذلك ساق الدروع والمغافر والحراب كلها أدوات لم تدخل في الشرط، ولكنه صلى الله عليه وسلم لم يخالف في هذا؛ فلم يدخل بذلك مكة وإنما كان مبالغة في الاحتياط حتى يأمن غدر المشركين به، وهكذا فإنا قد رأيناهم في العام الماضي فعلوا ما فعلوا وخرجوا بالخيل وبعُدة القتال.
وهنا لما وصل النبي صلى الله عليه وسلم إلى ذي الحُلَيفة قدم الخيل أمامه عليها محمد بن مسلمة، كما قدم السلاح واستعمل عليه بشير بن سعد، وأحرم صلى الله عليه وسلم من ذي الحُلَيفة، ولبى والمسلمون معه ثم مضى محمد بن مسلمة بالخيل إلى مر الظهران، فلقي بها جمعًا من قريش أعلمهم بأن رسول الله صلى الله عليه وسلم سينزل هذا المكان غدًا بمشيئة الله، فأسرعوا إلى قريش يخبرونهم من أمر الخيل، وأنها -بلا شك- عُدة للقتال كما أن بشير بن سعد تقدم بالسلاح إلى بطن يأجج، وهناك بقي على السلاح مائة رجل لحراسته عليهم أوس بن خَولي الأنصاري.
ولما رأت قريش هذا بعثت مِكْرَز بن حفص في نفر من قريش نزلوا بطن يأجج فوجدوا رسول الله صلى الله عليه وسلم في أصحابه، والهدي، والسلاح قد تلاحقوا، فقالوا: يا محمد ما عرفت صغيرًا ولا كبيرًا بالغدر، تدخل بالسلاح في الحرم على قومك، وقد شرطت لهم أن تدخل إلا بسلاح المسافر، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: ((إني لا أدخل عليهم السلاح)) -أي: إنه صلى الله عليه وسلم إنما جاء حتى يكون قد أخذ احتياطه لأي أمر قد يكون-، ولما جاء مِكْرَز بن حفص يخبر قريش بذلك لم يطقْ جماعات من كبار أهل مكة المقام فيها حتى يروا المسلمين يطوفون بالبيت في أمان، وهذه أول مرة بعد هجرته صلى الله عليه وسلم يتاح هذا الأمر كله ثم إنه صلى الله عليه وسلم أمر بالهدي أمامه حتى حبس بذي طُوى، وخرج صلى الله عليه وسلم هو وأصحابه محيطون بالنبي صلى الله عليه وسلم وهو على ناقته القَصْواء وكانوا متوشحي السيوف، وعبد الله بن رواحة يرتجز بهذا الشعر يقول:
خلّوا بني الكفار عن سبيله | * | خلوا فكل الخير معْ رسوله |
نحن ضربناكم على تأويله | * | كما ضربناكم على تنزيله |
ضربًا يزيل الهام عن مقيله | * | ويذهل الخليل عن خليله |
وهنا تكلّم عمر مع ابن رواحة وكأنه يستنكر أن يقول هذا الشعر في هذا المقام، ولكن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لعمر: يا عمر، إني أسمع فسكت عمر، ثم إنه صلى الله عليه وسلم قال: ((إن هذا الشعر لهو أشدّ عليهم من نضح النبل)).
هذا ولقد كان بَلَغَ النبي صلى الله عليه وسلم والمسلمين بأن قريشًا قالت عنهم: بأنهم أنهكتهم حمى يثرب، وأنهم ما يتباعثون من العَجَف -أي: من الضعف والوهن- ولذلك فإنه صلى الله عليه وسلم لما طاف بالبيت طاف مطبعًا بردائه وقال: ((لا يرى القوم فيكم غَميزة)) أي: انتقاصًا من شأنكم، ثم استلم الركن صلى الله عليه وسلم، ثم رمل حتى إذا تغيب بالركن اليماني مشى إلى الركن الأسود، وهكذا ثلاثة أشواط من السبع، وقد كان من بقي من قريش قد جاءوا ينظرون إلى النبي صلى الله عليه وسلم وإلى المسلمين، ثم لما رأوا هذه القوة منهم قالوا: إنهم ما يرضون بالمشي إنما ينفرون نفر الظباء.
وبعد طوافه صلى الله عليه وسلم أكمل عمرته، ثم إنه صلى الله عليه وسلم لما قضى نسكه دخل البيت فلم يزل فيه حتى أذن بلال الظهر فوق الكعبة، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم أمره بذلك حتى يُعلي كلمة الحق في هذا المقام، على الرغم من أن هذا الأمر أصاب كثيرين من أهل مكة، وبخاصة أولئك الذين ينتسبون إلى الأُسر التي تعمق فيها الشرك، كصفوان بن أمية وعكرمة بن أبي جهل.
ولما مضت الثلاثة أيام التي كانت في شرط صلح الحديبية بعثت قريش إلى النبي صلى الله عليه وسلم، حتى يخرج فأتاه سُهيل بن عمرو وحويطب بن عبد العزى، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم في مجلسه مع الأنصار يتحدث مع سعد بن عُبادة فصاح حويطب: نناشدك الله والعقد لما خرجت من أرضنا، فقد مضت الثلاث، ولقد وقعت ملاحاة بين سعد بن عبادة وبين حويطب، ولكن النبي صلى الله عليه وسلم حسم الأمر بعد أن استأذنهم في أن يبقى حتى يدخل بميمونة بنت الحارث أخت الفضل زوج عمّه العباس، وقال: ((قد نكحت امرأة منكم فما يضركم أن أمكث حتى أدخل بها ونصنع طعامًا فنأكل وتأكلون معنا))، فقالوا: لا حاجة لنا في طعامك، نناشدك الله والعقد إلا خرجت عنا. نوع من التعنّت ما يزال مع قريش، وهنا سنرى كيف ستكون معاملة النبي صلى الله عليه وسلم حينما يدخل مكة فاتحًا بأمر الله في العام القادم، ولكن ما نذكر إلا حتى نقارن بين عمل النبي صلى الله عليه وسلم وبين عمل هؤلاء، وهنا أمر النبي صلى الله عليه وسلم أبا رافع أن يؤذن بالرحيل في الناس، وطلب ألَّا يمسي أحد في مكة من المسلمين، وخرج النبي صلى الله عليه وسلم عن مكة كشرط صلح الحديبية كما رأينا، كما أنه صلى الله عليه وسلم أمر أبا رافع مولاه أن يلحقه بميمونة، وهكذا تمت عمرته صلى الله عليه وسلم على صدق ما وعده الله عز وجل ووعد المسلمين معه: {لَقَدْ صَدَقَ اللَّهُ رَسُولَهُ الرُّؤْيَا بِالْحَقِّ لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ إِن شَاء اللَّهُ آمِنِينَ مُحَلِّقِينَ رُؤُوسَكُمْ وَمُقَصِّرِينَ لاَ تَخَافُونَ} [الفتح: 27].