أنواع الإجماع، وإمكانه وطرق معرفته
أنواع الإجماع:
الإجماع يتنوع إلى:
أ. إجماع صريح: أن يصرح كل واحد من المجتهدين برأيه، والإجماع الصريح قد يكون إجماع صريح قولي أو عملي. فالإجماع الصريح القولي هو: أن يثبت الاتفاق من جميع المجتهدين على حكمٍ شرعي بالقول وإبداء الرأي صراحة بفتوى أو قضاء، كأن يقول المجتهد: رأيي في المسألة كذا، أو أفتي فيها بكذا، أو أقضي فيها بكذا، هذا بصريح العبارة؛ لذلك سموه الإجماع الصريح هذا إجماع صريح قولي، وقد يكون إجماع صريح عملي، بمعنى: أن يتفق جميع المجتهدين على عمل دون صدور قول؛ فإذا تتبعنا أحوال المجتهدين فوجدنا كل واحدٍ منهم يعمل عملًا معينًا، فهذا العمل منه يدل على جواز هذا العمل أو مشروعية هذا العمل، فهم لم يصرحوا بقول وإنما صرحوا بعمل.
ب. إجماع سكوتي: فالإجماع السكوتي إجماع لا تكون عليه علامات الموافقة أو علامات الرفض، وللعلماء في حجية الإجماع السكوتي مذاهب كثيرة، سنذكرها -إن شاء الله.
2. الإجماعات الخاصة:
من الأمور المهمة التي ينبغي أن نتعرض لها بعد تعريفنا للإجماع اصطلاحًا: عدة مصطلحات في كتب التراث الإسلامي، مثل:
أ. “إجماع أهل البيت”: أي: أهل بيت النبي صلى الله عليه وسلم، وعند الشيعة إجماع أهل البيت حجة ومصدر تشريعي، وقد يُعبر عن إجماع أهل البيت بـ”إجماع العِترة” -أي: عِترة النبي صلى الله عليه وسلم. وهناك خلاف بين العلماء على حجية إجماعهم.
ب. “إجماع أهل المدينة”: هذا المصطلح مشهورٌ جدًّا عند المالكية؛ لأن الإمام مالك -رحمه الله- كان يرى أن إجماع أهل المدينة حجة؛ لأنهم عاصروا النبي صلى الله عليه وسلم وشاهدوا النبي صلى الله عليه وسلم فاتفاقهم على شيءٍ دليل على حجيته. وهناك خلاف بين العلماء على حجية إجماعهم.
ج. “إجماع الحرمين”: حرم مكة والمدينة النبوية.
د. “إجماع الخلفاء الأربعة”: أي: أبو بكر، وعمر، وعثمان، وعلي رضي الله عنهم وهناك أيضًا خلاف بين العلماء على حجية إجماعهم؛ فبعضهم يرى أن إجماع الخلفاء الأربعة حجة ومصدر تشريعي؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم أوصى بسُنة الخلفاء الأربعة؛ فقال في معنى حديثه: ((عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين من بعدي عضوا عليها بالنواجذ)).
هـ. “إجماع الشيخين”: أي: أبو بكرٍ، وعمرَ رضي الله عنهما وقد ورد حديثٌ في ذلك: ((اقتدوا باللذيْن من بعدي: أبي بكر، وعمر)) ولهذا اختلف أهل العلم: هل إجماع الشيخين حجة ومصدر تشريعي أو لا؟.
و. “إجماع العشرة”: أي: العشرة المبشرون بالجنة: الخلفاء الأربعة -أبو بكر، وعمر، وعثمان، وعلي- وطلحة بن عبيد الله، والزبير بن العوام، وسعد بن أبي وقاص، وسعيد بن زيد، وعبد الرحمن بن عوف، وأبو عبيدة بن الجراح رضي الله عنهم وهناك خلاف بين العلماء على حجية إجماعهم.
ز. “إجماع المصريْن”: أي: البصرة والكوفة.
3. إمكان الإجماع وطرق معرفته:
أ. الإجماع ممكن عقلًا وواقع شرعًا:
لعل الذي جعل العلماء يدرسون هذه المسألة: أن اتفاق جميع المجتهدين من الأمة المحمدية مع انتشارهم في أقطار الأرض قد يبدو شيئًا صعبًا أو مستحيلًا؛ لذلك توقفوا في هذه المسألة، وهي: هل الإجماع بالمعنى الذي ذكرناه ممكنٌ ومتصور أو لا؟.
وللإجابة على هذا السؤال نقول: اختلف العلماء في إمكان تصور الإجماع، أو في إمكان اتفاق المجتهدين من أمة محمد صلى الله عليه وسلم على حكمٍ واحدٍ غير معلومٍ بالضرورة على مذهبين:
المذهب الأول: مذهب النَّظَّام، يتمثل في أن تصور الإجماع وإمكان الإجماع محال، وهو أيضًا مذهب بعض الشيعة.
المذهب الثاني: مذهب جمهور العلماء، ويرون أن الإجماع موجودٌ ومتصور؛ فلا مانع من اتفاق أهل الحل والعَقد أو المجتهدين على حكم شرعي.
أدلة النَّظَّام والشيعة:
استدل النَّظَّام والشيعة من وافقهم على رأيهم بعدة أدلة ضعيفة ومردودة وواهية:
الدليل الأول: الإجماع إما أن يكون عن دليل أو عن غير دليل، ولا يجوز أن يكون عن غير دليل، بل لا بد في الإجماع أن يكون له دليل، وإن كان له دليل؛ فالدليل إما قطعي، وإما ظني، أما كون الدليل قطعي؛ فهذا غير جائز أيضًا؛ لأنه لو كان الدليل قطعي لنُقل، ولو نُقل لاشتهر، ولو نُقل الدليل القطعي لكان هو الحجة وليس الإجماع هو الحجة، وإن كان الدليل ظني؛ فيستحيل معه الاتفاق؛ لأن الأدلة الظنية تكون مسار اختلاف لا مسار اتفاق، ومثلوا لذلك بأن العلماء أو المجتهدين يصعب أن يتفقوا في وقتٍ واحدٍ على أكلٍ واحدٍ أو يتكلموا بكلمةٍ واحدةٍ.
أجاب الجمهور عن هذا الدليل فقالوا: سلمنا أنه لو كان مستند الإجماع دليلًا قطعيًّّا فلا بد من نقله، ولكن لا بد من نقله إذا دعت الحاجة إلى النقل، ونحن لا نُسلم أن الحاجة دعت إلى نقل هذا المستند وهذا الدليل، بل الإجماع في حد ذاته كافٍ، بمعنى: أنه لو اتفق المجتهدون على حكمٍ معين؛ فمجرد الإجماع في ذاته وفي نفسه كافٍ على مشروعية هذا الحكم دون أن نبحث عن مستندٍ أو عن دليلٍ.
وقالوا أيضًا: إن دعواكم “إنه إن كان المستند دليلًا ظنيًّا فإنه يمتنع معه اتفاق الجميع عليه كامتناع اتفاقهم على أكل طعامٍ واحدٍ”… نقول: هذا قياس مع الفارق؛ كيف تقيسون اتفاق الناس على الأكل أو التكلم بكلمة واحدة على اتفاقهم في الحكم الشرعي؟!.
الدليل الثاني: الإجماع هو اتفاق جميع المجتهدين من أمة محمد صلى الله عليه وسلم والمجتهدون منتشرون في أقطار الأرض، وانتشارهم في الأقطار يمنع نقل الحكم إليهم؛ فكيف يصل الحكم إلى كل واحد من المجتهدين، فانتشار المجتهدين في الأقطار يمنع نقل الحكم إليهم.
أجاب الجمهور عن هذا الدليل فقالوا: لا نسلم أن انتشار المجتهدين في الأقطار يمنع نقل الحكم إليهم؛ لأنهم كانوا يجدّون في الطلب؛ فالعلماء المجتهدون من دأبهم الجِدّ والبحث والتنقيب في الطلب، ويبحثون عن الأدلة، وقد كان بعض رواة الحديث يقطع مئات الأميال ليسأل عن حديثٍ واحدٍ، فانتشار المجتهدين في أقطار الأرض لا يكون مانعًا من اتفاقهم على الحكم. وهذا الدليل ذكره الشوكاني -رحمه الله- في (إرشاد الفحول).
أدلة الجمهور:
استدل الجمهور على مذهبهم -أعني: على إمكان تصور الإجماع ووقوعه- بأدلة كثيرة ذكر منها ابن قدامة -رحمه الله- في (الروضة) أربعة أدلة نذكرها على ترتيب ابن قدامة: قال ابن قدامة: “ووجوده متصور”، ثم استدل على ذلك بالأدلة التالية:
الدليل الأول: قال ابن قدامة -رحمه الله: فإن الأمة مجمعة على وجوب الصلوات الخمس وسائر أركان الإسلام، ومعنى هذا الكلام أن الأمة قد أجمعت على أن الصلوات خمس واجبة، وعلى وجوب باقي أركان الإسلام من الزكاة والصيام والحج ونحو ذلك، ولا يشك أي واحدٍ منهم في ذلك، فقد وُجد ذلك -أي: الإجماع- والوجود دليل الجواز، والجواز دليل الإمكان والتصور.
الدليل الثاني: قال ابن قدامة -رحمه الله: وكيف يُمتنع تصوره -أي: كيف يمتنع تصور الإجماع- والأمة كلُّها متعبدة بالنصوص والأدلة القواطع ومعرضون للعقاب بمخالفتها؟!، وهذا هو عين الإجماع..
الدليل الثالث: قال ابن قدامة: وكما لا يمتنع اتفاقهم على الأكل والشرب لا يمتنع اتفاقهم على أمرٍ من أمور الدين. وهذا يُعرف بالقياس.
فالأصل: اتفاقهم على الأكل والشرب، والفرع: اتفاقهم على حكمٍ معين لحادثة حدثت، وحكم الأصل: هو جواز أن يتفق الناس على الأكل والشرب، والعلة التي تجمع بين الفرع وبين الأصل: هي توافق الدواعي؛ فالدواعي عند الناس تحملهم على الأكل والشرب، فكما اتفقت الدواعي في الأكل والشرب؛ ما المانع أن تتفق الدواعي في الحكم الشرعي؟!.
الدليل الرابع: قال ابن قدامة -رحمه الله: وإذا جاز اتفاق اليهود مع كثرتهم؛ فلِمَ لا يجوز اتفاق أهل الحل أو أهل الحق عليه؟!، يعني: اليهود مع كثرتهم اتفقوا على باطل، وهذا الباطل هو إنكار بعثة النبي محمد صلى الله عليه وسلم، فإذا اتفقوا على باطل؛ ألا يتفق أهل الحل والعَقد والعلماء من أمة محمد صلى الله عليه وسلم على الحقِّ؟! أي: أنه إذا كان اتفاق اليهود مع كثرتهم وتفرقهم على الباطل وهو إنكار بعثة النبي محمد صلى الله عليه وسلم متصورًا؛ فإن اتفاق مجتهدي أمة محمد صلى الله عليه وسلم على الحقِّ متصور، ولا فرق أيضًا، فكما أن اليهود كثرة ومتفرقين فـالمجتهدون من أمة محمد صلى الله عليه وسلم كثرة وأيضًا متفرقين، فالجماع بينهم الكثرة والتفرق.
الترجيح: هذا حاصل الأدلة الأربعة التي أوردها ابن قدامة -رحمه الله- في تصور الإجماع وإمكانه، ولك أن تذكر دليلًا زائدًا على هذه الأدلة، وهي النماذج التي ذكرتها لك قبل ذلك للإجماعات التي وقعت في الأمة المسلمة، ومعلوم أن الوقوع أكبر دليل على الجواز، فلو قلت مثلًا: اتفاق جميع المسلمين على وجوب قراءة الفاتحة في الصلاة، اتفقوا كذلك على صوم رمضان، وعلى الزكاة، وعلى الحج، وعلى الوضوء، وعلى التيمم للصلاة عند فقد الماء، وغير ذلك من الأمور المشهورة.
إن من قال: إن الإجماع غير ممكن في ذاته كما هو مذهب النَّظَّام ومن وافقه قال: بعدم إمكان الاطلاع عليه من باب أولى، هو يقول: الإجماع غير ممكن. أما من قال: بإمكان الإجماع، وهم الجمهور؛ فقد اختلفوا في حكم الاطلاع عليه على مذاهب.
طرق معرفة الإجماع:
انقسم الجمهور فيما بينهم إلى مذاهب في هذه المسألة:
المذهب الأول: الإجماع وإن كان ممكنًا في ذاته إلا إنه لا يمكن الاطلاع عليه.
المذهب الثاني: الإجماع ممكن في ذاته، والاطلاع عليه ممكن أيضًا.
المذهب الثالث: إن إمكان الاطلاع على الإجماع في عصر الصحابة هذا متيسرٌ، أما عصر غير الصحابة؛ فهذا غير ممكن. ولعل وجهة نظرهم أن الصحابة رضي الله عنهم كانوا محصورين في المدينة، ويمكن الاطلاع ومعرفة رأي كل واحد منهم على حدة وضم هذه الآراء فإن اتفقت فهذا هو الإجماع.
المذهب الرابع: أن الإجماع يمكن الاطلاع عليه في القرون الثلاثة الأولى فقط.
وهذا الرأي ذكره صاحب (فواتح الرحموت).
الترجيح: المذهب الثاني هو المذهب الراجح، وهو مذهب جماهير أهل العلم.
أدلة كل مذهب:
دليل المذهب الأول، والرد عليه:
لا سبيل إلى معرفة الإجماع والاطلاع عليه بالعلم الوجداني ولا العلم العَقدي أو العلم عن طريق العَقد، وكذلك لا يمكن الاطلاع على الإجماع عن طريق الحس، وعلى ذلك فلا يمكن العلم باتفاق أهل الحل والعَقد إلا بعد معرفة كل واحد منهم، قالوا: وذلك متعذر قطعًا إن لم يكن مستحيلًا، يعني: كيف تقف وتعرف رأي كل واحد من المجتهدين على حدة؟! يرون أن هذا فيه من الصعوبة ما فيه.
ثم قالوا: وقد يكون من أهل الحل والعَقد واحد من المجتهدين خامل -أي: ليس له ذكر وليس له شهره- وعليه؛ فلا نستطيع أن نقف على رأيه؛ لأنه خامل الذكر وغير معروف وغير مشهور، وكذلك قالوا: قد يحمل بعض المجتهدين على موافقته للمجمعين الخوف يخاف على نفسه من إمام، أو من سلطان، أو من عالم أكبر منه، أو من كذا أو من كذا فيوافق، وهو في الواقع غير موافق –يعني: تقية- فقد يحمل بعض المجتهدين على الموافقة الخوف والتقية؛ إذن يكون هذا الإجماع إجماع في الواقع ونفس الأمر مُنخرق بخلاف هذا الواحد، قالوا: وكذلك لو فرضنا إمكان معرفة ما عند كل واحد من أهل الإجماع فيمكن أن يرجعوا عنه أو يرجع بعضهم قبل أن يُجمع أهل البلدة؛ مثال ذلك: أن مائة مجتهد أستطلع رأي كل واحد من المائة إلى أن وصلت إلى التسعين، قالوا: من الممكن أن يكون رقم عشرة يكون قد رجع عن رأيه الأول، وحينئذٍ لا يتم الإجماع.
وطبعًا هذا الكلام غير مُسَلم؛ لأن رجوع المجتهد عمّا قاله أولًا لا يكون خارقًا للإجماع ولا يعتبر بعد ذلك.
وقد أجاب الجمهور عن ذلك بأنه: يمكن معرفة رأي أهل الحل والعَقد في المسألة إما بالمشافهة إن كانوا عددًا يمكن لقاؤهم، كما في زمن الصديق والفاروق رضي الله عنهما فالصحابة كانوا بالمدينة وكان أهل الاجتهاد منهم معروفين ويمكن مشافهتهم -أي: من السهولة معرفة رأي المجتهدين مشافهة.
وقد يعترض معترض ويقول: لعل أحدًا من أهل الحل والعَقد في أسر الكفار؛ فكيف يتم الإجماع؟!.
وأجاب الجمهور: بأنَّ الأسير يجب مراجعته، ومذهب الأسير يُنقل إلينا كمذهب غيره ويمكن معرفته، وهب أننا شككنا ولم نتوصل إلى رأي هذا المجتهد الأسير؛ نقول: الإجماع لم يتحقق بعد، فالإجماع إنما يتحقق إذا اتفق جميع المجتهدين.
دليل المذهب الثاني –وهو مذهب الجمهور:
استدل الجمهور على إمكان الاطلاع على الإجماع بالوقوع، فقد أجمع المسلمون على أمورٍ كثيرة ذكرنا لكم منها نماذج كثيرة، وهذا الإجماع أكبر دليلٍ على الجواز وإمكان الاطلاع؛ فوقوع هذه النماذج من الجمهور أكبر دليل على إمكان الاطلاع على الإجماع.
دليل المذهب الثالث:
الذين يرون إمكان الاطلاع على الإجماع في عصر الصحابة فقط دون سائر العصور قالوا: إن الصحابة وخص أهل الاجتهاد كانوا محصورين؛ وبالتالي يمكن الاطلاع عليهم وعلى آرائهم، وحتى من خرج -أي: من المدينة- كان معروفًا في موضعه بخلاف العصور التي تفرق فيها العلماء في الأمصار فهذا غير ممكن.
الرد عليه: الجِدّ والبحث في معرفة آراء المجتهدين وإن انتشروا في أقطار الأرض من الممكن؛ سيما في عصرنا هذا الذي نعيش فيه بعد هذه الثورة في الاتصالات السلكية واللاسلكية، فمن الممكن ومن السهل أن نستطلع آراء المجتهدين في أقطار الأرض كلها إما عن طريق الإنترنت، أو عن طريق المراسلة، أو عن طريق الموبايل، أو عن طريق عقد مؤتمرات وندوات في بلاد مشهورة كمكة المكرمة أو المدينة المنورة أو القاهرة أو بغداد أو دمشق أو نحو ذلك من البلاد.