Top
Image Alt

أنواع الاستحسان

  /  أنواع الاستحسان

أنواع الاستحسان

. أنواع الاستحسان:

النوع الأول: الاستحسان بالنص:

الاستحسان بالنص أو الأثر هو: العدول عن حكم إلى حكم آخر بنص يقتضي هذا العدول.

ومتى ما سمعت كلمة “نص” فافهم أنه نص من القرآن أو السنة، ويتحقق الاستحسان بالنص في كل مسألة ورد فيها نص معين، يفيد حكمًا على خلاف الحكم العام الشامل لهذه المسألة ونظائرها أو القاعدة المقررة.

قالوا: هذا النوع يشمل جميع الصور التي استثناها الشارع من حكم نظائرها.

مثال: الحكم بصحة الصوم وبقائه مع الأكل والشرب في حالة النسيان:

هذا الحكم استثناء من القاعدة المقررة، التي تقتضي ببطلان الصوم بالأكل أو الشرب ولو نسيانًا، وهذا الاستثناء ثابت بالنص، وهو قول النبي صلى الله عليه  وسلم: ((من نسي وهو صائم فأكل أو شرب فليتم صومه؛ فإنما أطعمه الله وسقاه)) والحديث رواه الشيخان البخاري ومسلم، فقد عُدل عن فساد الصوم وحُكم ببقاء الصوم استحسانًا.

فدليل هذا الاستحسان قول النبي صلى الله عليه  وسلم: ((من أكل أو شرب ناسيًا فليتم صومه؛ فإنما أطعمه الله وسقاه)).

النوع الثاني: الاستحسان بالإجماع:

وبيانه: هو العدول عن حكم القياس في مسألة إلى حكم مخالف له ثبت بالإجماع.

مثال: عقد الاستصناع:

وهو أن يتعاقد شخص مع صانع، على أن يصنع له شيئًا نظير مبلغ معين بشروط معينة، وهذا جارٍٍ في عادة الناس وفي يوميات الناس، والقاعدة العامة المقررة في البيع عدم جواز ذلك؛ لأنَّ المتعاقَد عليه معدوم وقت التعاقد، وهو منهي عن بيعه، فأنا ذهبت إلى صانع موبيليا مثلًا، وقلت له: اصنع لي غرفة نوم، مواصفاتها كذا وكذا، بمبلغ كذا، هذا يسميه العلماء عقد استصناع، فالغرفة حال العقد غير موجودة، فالقواعد العامة في عقود البيع تنهى عن هذا البيع، ولا تجوزه؛ لأنَّ المتعاقَد عليه معدوم وقت التعاقد، وهو منهي عن بيعه، لكنه -عقد الاستصناع- استُحسن بالإجماع؛ لتعامل الناس فيه من زمنه صلى الله عليه  وسلم إلى زمننا هذا من غير نكير فكان إجماعًا، فالناس في حاجة إلى مثل هذه العقود، فلو منعناها أدخلنا عليهم الحرج والمشقة والعنت، وصار ذلك مستثنى من القاعدة العامة، كما استثنى رسول الله صلى الله عليه  وسلم السَّلَم من عموم النهي عن بيع المعدوم.

ومثَّل بعض أهل العلم لهذا النوع بعدم قطع من قطعت يده ورجله، فإن حكم القياس أن تقطع يد كل من سرق، وإن عاد قطعت رجله، وإن عاد قُطع أيضًا، ولكن عُدل عن هذا الحكم عندما يسرق مرة ثالثة، فإنه لا يُقطع ويوضع في السجن حتى يتوب؛ للإجماع على ذلك؛ حيث رُوي عن علي رضي الله  عنه أنه قال: “إني لأستحيي من الله تعالى ألا أدع له يدا يأكل بها، ويستنجي بها، ورجلًا يمشي عليها” وبهذا حاج علي رضي الله  عنه بقية الصحابة فحاجهم، فانعقد إجماعًا.

النوع الثالث: الاستحسان بالضرورة:

ومحل هذا النوع إذا كان العمل بالدليل يؤدي إلى حرج بيّن، يعني: يُدخل على الناس الحرج البين والمشقة، فيُستثنى ذلك الموضع لرفع الحرج، وهذا استثناء بالأدلة النافية للحرج، والأدلة النافية للحرج في الشريعة كثيرة، منها قوله تعالى: {يُرِيدُ اللّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلاَ يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ} [البقرة: 185] {يُرِيدُ اللّهُ أَن يُخَفّفَ عَنْكُمْ وَخُلِقَ الإِنسَانُ ضَعِيفاً} [النساء: 28] {وَمَا جَعَلَ عَلَيْكمْ فِي الدّينِ مِنْ حَرَجٍ} [الحج: 78] إلى غير ذلك من الأدلة التي تنفي الحرج عن المكلفين، فالاستحسان بالضرورة هو العدول عن حكم القياس في مسألة إلى حكم آخر مخالف ضرورةً.

الفقهاء يمثلون لهذا النوع من الاستحسان بالأمثلة التالية:

يقولون: عدم الفطر بما يصعب الاحتراز عنه:

فلو دخل حلق الصائم ذباب مثلًا وهو صائم، وهو متذكر لصومه، أو بعوض، أو غبار دقيق، أو نحو ذلك، فهل نحكم عليه بالفطر؟

قال العلماء: لا نحكم عليه بالفطر، ومقتضى القياس: أنَّه يفسد صومه؛ لوصول المفطر إلى جوفه، وإن كان لا يتغذى به كالتراب والحصى، ووجه الاستحسان أنه لا يُستطاع الاحتراز عنه، فأشبه الغبارَ والدخان، هذا مثال للاستحسان بالضرورة.

ومن أمثلة الاستحسان بالضرورة أيضًا، وهو واقع في حياتنا اليومية، اغتفار الغبن اليسير في المعاملات:

مع أنَّ كل غبن هو أكل لأموال الناس بالباطل؛ للدليل العام في ذلك، في نحو قول الله تعالى: {وَلاَ تَأْكُلُوَاْ أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ} [البقرة: 188] لكن الغبن اليسير عُفي عنه، فصحت المعاملة معه؛ لضرورة أنَّه لا يمكن الاحتراز عنه، وما معنى هذا الغبن اليسير؟ أنت تذهب لتشتري شيئًا ما، ولو كان فاكهة، لا شك أنَّ البائع قد يغبنك غبنًا يسيرًا، يعني ثمن الكيلو من التفاح مثلًا عشر جنيهات، يعطيك إياه بـإحدى عشر جنيهًا، فصار هنا غبن يسير، فهل هذا يبطل العقد؟ نقول: لا، العقد صحيح، ويُغتفر هذا الغبن اليسير، قد يعطيك الكيلو ناقصًا شيئًا قليلًا قليلًا، فهذا يُغتفر أيضًا؛ لأننا لو قلنا: العقود التي فيها غبن يسير غير صحيحة، أدخلنا على الناس الحرج والمشقة؛ فدفعًا للحرج ودفعًا للمشقة صحَّحنا العقود التي فيها غبن يسير، أما الغبن الفاحش الكبير فهذا يبطل العقد.

النوع الرابع: الاستحسان بالعرف والعادة:

هو العدول عن حكم القياس في مسألة، إلى حكم آخر يخالفه؛ لجريان العرف بذلك، أو عملًا بما اعتاده الناس.

مثال: لو حلف شخص ألا يدخل بيتًا، ما الذي يقتضيه القياس والعموم والقواعد المقررة؟ القياس يقتضي أن الإنسان الحالف يحنث بالدخول في كل موضع يسمى بيتًا لغةً، ومنه المسجد، إلا أنَّ الإمام مالكًا -رحمه الله- استحسن تخصيص العموم المستفاد من اللغة بالعرف والعادة في الاستعمال، فقال بعدم الحنث بدخول المسجد؛ لأنه لا يُسمى بيتًا في عرف التخاطب، فلو حلف والله لن أدخل بيتًا فدخل المسجد، لا يحنث؛ لأنَّ عرف الناس لا يسمي المسجد بيتًا، وإنَّما يسميه مسجدًا، مع أنَّ القرآن الكريم ذكر المساجد بأسماء البيوت، قال تعالى: {فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللّهُ أَن تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ} [النور: 36] فالمصطلح الشرعي أو نص القرآن الكريم سمى المسجد بيتًا، لكن عرف الناس لا يسمي المسجد بيتًا.

فعُدل إلى حكم آخر، وهو أنه إذا دخل المسجد لا يحنث؛ لأنَّ الناس تعارفوا على أنَّهم لا يطلقون هذا اللفظ على المسجد، فخرج بالعرف عن مقتضى اللفظ.

مثال: لو حلف ألا يأكل لحمًا فأكل سمكًا فإنه لا يحنث؛ لجريان العرف العام على أن السمك ليس بلحم, فمن أجل هذا تُرك القياس الذي يقضي بالحنث كما نطق بذلك القرآن الكريم, إذ يقول الله تعالى: {وَمَا يَسْتَوِي الْبَحْرَانِ هَـَذَا عَذْبٌ فُرَاتٌ سَآئِغٌ شَرَابُهُ وَهَـَذَا مِلْحٌ أُجَاجٌ وَمِن كُلّ تَأْكُلُونَ لَحْماً طَرِيّاً} [فاطر: 12] والمراد في الآية الكريمة باللحم الطري: السمك, فالقرآن سمى السمك لحمًا, ومع ذلك لا يحنث من حلف ألا يأكل لحمًا فأكل سمكًا لأنَّ العرف والعادة لا يسمي السمك لحمًا.

ولهذا استنبط الفقهاء وقعَّدوا قاعدة فقهية قالوا فيها: العادة مُحَكَّمة، يعني: ما اعتاده الناس وتعارفوا عليه وتلقته العقول السليمة بالقبول له قوة الحكم والشرع شريطة ألا يكون العرف عرفًا فاسدًا يتضارب مع الشرع.

وعلى ذلك فالعلماء يستحسنون بالعرف, والاستحسان بالعرف كل مسألة جرى العرف فيها على خلاف ما يقتضيه القياس.

من أمثلة الاستحسان بالعرف أيضًا: ما الذي يعتبر ردًّا في العارية؟

يعني لو استعرت منك دابة فكيف أردها لك؟ هل أردها لك في يدك, أو العرف والعادة لهما مدخل في هذه المسألة؟

نص فقهاء الحنفية وقالوا: إذا استعار دابة فردها إلى إصطبل مالكها فهلكت -يعني: قبل وصولها إلى الإصطبل- قالوا: لم يضمن.

وهذا استحسان, وكان مقتضى القياس أنه يضمن؛ لأنه ما ردها إلى مالكها, بل ضيعها.

ووجه الاستحسان أنه أتى بالتسليم المتعارف، يعني في عرف الناس, أنا استعرت سيارتك وأخذتها من الجراج, أو من المكان الذي تقف فيه, ورددتها إلى نفس المكان, فجاء اللص وسرق السيارة هل أنا أضمنها؟ لا أضمنها؛ لأنني رددتها إلى المتعارف عليه الذي توضع فيه السيارة, وكان مقتضى القياس أنني أضمنها؛ لأنَّ معنى الرد الحقيقي إلى مالكها لم يتم, لكن الرد عُرفًا تم.

النوع الخامس: الاستحسان بالقياس:

وبعضهم يقول: الاستحسان بالقياس الخفي، ويكون هذا النوع من أنواع الاستحسان في أي مسألة اجتمع فيها قياسان، أحدهما جلي واضح، ولكنه ضعيف الأثر، والثاني خفي دقيق، ولكنه قوي الأثر؛ فيرجَّح الخفي القوي الأثر على الجلي الضعيف.

وهو العدول بالمسألة عن حكم القياس الظاهر المتبادَر فيها إلى حكم آخر بقياس آخر هو أدق وأخفى من الأول، لكنه أقوى حجة، وأسد نظرًا، وأصح استنتاجًا منه، وهذا النوع من الاستحسان يكثر في كتب المذاهب القائلة بالاستحسان.

مثال: طهارة سؤر سباع الطير، كالصقر والبازي:

سؤر سباع البهائم نجس يعني: ما تبقى من شربها، هب أنَّ الأسد شرب من إناء وتبقى من هذا الماء جزء، هذا يسميه العلماء سؤر، سؤر سباع البهائم نجس، أما سؤر سباع الطير فما حكمه؟ كان المقتضى والقياس والعموم أن سؤر سباع الطير كسؤر سباع البهائم، وكما أن سؤر سباع البهائم نجس يكون سؤر سباع الطير نجس، لكن العلماء حكموا بطهارة سؤر سباع الطير، كالصقر؛ فإن القياس الجلي يقتضي نجاسة سؤر سباع الطير؛ قياسًا على سؤر سباع البهائم؛ لأن سباع الطير تأكل مثلما تأكل سباع البهائم.

فالقياس الجلي عندي في هذه المسألة يقتضي نجاسة سؤر سباع الطير قياسًا على سؤر سباع البهائم؛ لأنَّ السؤر معتبر باللحم، ولحم هذه الطيور حرام كلحم البهائم، ومعنى السؤر معتبر باللحم يعني: لسان الأسد الذي يشرب به الماء، هذا اللسان فيه لُعاب، واللعاب متولد من لحمه، ولحمه أصلًا حرام أكله؛ فالسؤر -كما قلنا- البقية معتبرة باللحم، ولحم هذه الطيور حرام كلحم البهائم؛ فكان سؤرها نجسًا أيضًا لتولدها من لحم نجس.

قال أهل العلم: لكنا استحسنا طهارة سؤر سباع الطير بالقياس الخفي؛ لأن نجاسة سؤر سباع البهائم، كالسبع والذئب، لأنها تشرب بلسانها؛ فيختلط لعابها النجس بالماء، أما سباع الطير فتشرب بمناقيرها، والعظم طاهر، فإنه جاف لا رطوبة فيه، فلا ينجس الماء بملاقاته؛ فيكون طاهرًا لانعدام العلة الموجبة للنجاسة، وهي الرطوبة في آلة الشرب، كذا قرر الشيخ محمد عيد المحلاوي في كتابه (تسهيل الوصول) وهذا المثال من أشهر الأمثلة التي يذكرها العلماء للاستحسان بالقياس الخفي.

2. أثر اختلاف الأصوليين في حجية الاستحسان:

ونذكر الآن بعض الفروع الفقهية التي خرجها العلماء على القول بحجية الاستحسان:

أ. خلاف الفقهاء في محاذاة الرجل للمرأة في الصلاة:

اتفق الأئمة على أن السنة فيما إذا اجتمع في صلاة الجماعة رجال ونساء، أن يُصَف النساء خلف الصفوف، هذه سنة النبي صلى الله عليه  وسلم واختلفوا فيما إذا صلت المرأة في صف الرجال، أو صلّى الرجل في صف النساء: فذهب أبو حنيفة, وأصحابه إلى أنه تفسد صلاة من حاذته المرأة من الرجال، ولا تفسد صلاة المرأة؛ ولهذا جاء في كتب الحنفية: وإن حاذته امرأة وهما مشتركان في صلاة واحدة، فسدت صلاته إن نوى الإمام إمامتها.

وذهب الأئمة الثلاثة: مالك، والشافعي، وأحمد -رحمهم الله تعالى- إلى أنه يُكره ذلك، ولا تفسد صلاة أحد من النساء أو الرجال.

إذن عندي في المسألة مذهبان: مذهب أبي حنيفة: أن صلاة الرجل بجانب المرأة تُفسد صلاتَه، والأئمة، مالك، والشافعي، وأحمد، قالوا: هذا مكروه فقط، لكن الصلاة تقع صحيحة ولا تفسد.

ما دليل أبي حنيفة -رحمه الله؟ عمدة الحنفية ومن وافقهم على فساد صلاة الرجل، الاستحسان، ووجه الاستحسان أنه ورد الأمر عن النبي صلى الله عليه  وسلم بتقدم الرجل وتأخر المرأة في الصلاة، فإذا ما تأخر عنها أو حاذاها كان تاركًا لفرض المُقام، يعني: النبي فرض له مقامًا معينًا يقف فيه، فإذا ما تأخر هو أو حاذاها، فيكون تاركًا لفرض المقام الذي سنه النبي صلى الله عليه  وسلم فتفسد صلاته، والأمر الوارد هو قوله صلى الله عليه  وسلم: ((أخروهن من حيث أخرهن الله)).

وحجة القائلين بالكراهة -مالك، والشافعي، وأحمد- قالوا: قياس حال الصلاة على ما لو وقفت في غير صلاة، فإنه لا تبطل صلاته بالإجماع، يعني: هب أن المرأة تقف بجانبي، وأنا أصلي وهي لا تصلي، أو تقف أمامي في قبلتي، أو تقف قريبة مني محاذية لي، وأنا أصلي وهي لا تصلي، فهل صلاتي تبطل؟ قالوا: لا تبطل صلاتك، فقالوا: قياس حال الصلاة على ما لو وقفت في غير صلاة، فإنها لا تبطل صلاته بالإجماع؛ فقد ثبت أن رسول الله صلى الله عليه  وسلم كان يصلي وعائشة رضي الله  عنها نائمة بين يديه، ومع ذلك كانت صلاته صلى الله عليه  وسلم صحيحة؛ فكذلك لو كانت هي في الصلاة وليست نائمة.

إذن من قال بالكراهة قاس حال الصلاة على ما لو وقفت في غير صلاة؛ فإنها لا تبطل صلاته بالإجماع.

ب. من وجبت عليه الزكاة، وتصدق بجميع ماله:

اتفق الأئمة على أنَّه لا يجوز أداء الزكاة إلا بنيةٍ مقارِنة، لعزل مقدار الواجب أو دفعه لمستحقه، يعني: ما ينبغي لك أن تخرج زكاة مالك بدون نية مقارنة لهذا الإخراج، لا بد أن تنوي بهذا القدر الذي ستخرجه الزكاة.

واختلفوا فيمن وجبت عليه الزكاة وتصدق بجميع ماله، ولم ينو الزكاة: هل يسقط عنه الواجب أو يبقى في ذمته؟ إنسان يملك أموالًا كثيرة بلغت نصاب الزكاة وزيادة، فتصدق بها جميعًا، ولم ينوِِ حال التصدق الزكاة, فهل يسقط عنه الواجب أو تبقى الزكاة في ذمته لأنه لم ينوها؟

ذهب الإمام الشافعي, والإمام أحمد -رحمهما الله- إلى أنَّه لا يسقط عنه الفرض؛ لأنَّه لم ينو إخراج الزكاة، وعلى ذلك تبقى الزكاة في ذمته، فلو تصدق بجميع ماله ولم ينو الزكاة لم تسقط عنه الزكاة بلا خلاف، حتى قال ابن قدامة -رحمه الله- في (المغني): ولو تصدق الإنسان بجميع ماله تطوعًا ولم ينو الزكاة لم يجزئه.

وذهب الإمام أبو حنيفة وأصحابه -رحمهم الله- إلى أنَّه تسقط عنه الزكاة. وقالوا في هذا: من تصدق بجميع ماله لا ينوي الزكاة سقط فرضها عنه.

ولنذكر الأدلة حتى نربط هذا الفرع بموضوعنا الذي هو الاستحسان:

حجة القائلين إنه لا تسقط عنه:

قالوا: إنَّه لم ينو بما دفعه الفرضَ؛ فلم يسقط عنه، وقاسوا ذلك على الصلاة؛ فإنَّه لو صلى ما شاء أن يصلي ولم ينو الفرض لا يسقط عنه ما لم يصله بنية الفرض، والصدقة تصلح فرضًا وتطوعًا فلا بد فيها من التعيين.

وعمدة الحنفية في إسقاط الواجب عنه هو الاستحسان, فأبو حنيفة قال: لو واحد تصدق بجميع ماله ولم ينو الزكاة حال الصدقة يسقط عنه فرض الزكاة، ودليله الاستحسان؛ ولذلك قال فقهاء الحنفية: والقياس ألا يسقط، يعني مقتضى القياس ألا يسقط عنه فرض الزكاة؛ لأن النفل والفرض كلاهما مشروعان، فلا بد من التعيين كما في الصلاة، لكن أسقطنا فرض الزكاة استحسانًا، ووجه الاستحسان أن الواجب في الزكاة جزء من جميع هذا المال الذي تصدق به، وهو ربع العشر، فكان متعيَّنًا في الجميع، والمتعيَّن لا يحتاج إلى تعيين؛ لأن الفرض أنه دفع الكل، والحاجة إلى تعيين الفرض للمزاحمة بين الجزء المؤدَّى وسائر الأجزاء، وبأداء الكل لله تعالى تحقق أداء الجزء الواجب.

ج. الاشتراك في السرقة:

هب أنَّ جماعة اشتركوا في سرقة شيء من حِرزه، فهل تُقطع الجماعة؟ أم يُقطع من باشر السرقة فقط؟ اختلف الأئمة فيما إذا دخل الحرز، يعني المكان المناسب لحفظ الشيء عادة، وهذا يختلف باختلاف الأشياء، إذا دخل جماعة الحرز -اثنان أو أكثر- وأخرج بعضهم المتاع دون الباقين: هل يُقطع الجميع أو المُخرِج فقط؟

ذهب أبو حنيفة وأصحابه -ما عدا زفر- ومعهم الإمام أحمد -رحمهم الله- إلى أن القطع على الجميع، وذهب الشافعي وزفر -رحمهما الله تعالى- إلى أنَّ القطع على الذي تولى الأخذ فقط، وهذا هو الظاهر من كلام مالك -رحمه الله تعالى.

وحجة القائلين بالقطع على الكل: أن إخراج المتاع من الحرز، وإن قام به البعض، لكنه في المعنى يعتبر من الكل؛ لتعاونهم واشتراكهم في هتك الحرز؛ إذ المعتاد فيما بينهم أن يحمل البعضُ المتاعَ، ويتهيأ الباقون للدفاع والحماية، لو لم نقل بقطع الجميع ما قطعنا أحدًا، ولاشترك كل جماعة في سرقة؛ لعلمهم أنَّهم لن يقطعوا.

وأما الذين قالوا بالقطع على المخرج فقط، فعمدتهم في ذلك القياس الظاهر، وذلك أنَّ الإخراج قد وُجد منه وحده، والسرقة تمت به، فكان هو السارق وحده، وإنَّما القطع على السارق فلا يُقطع غير المخرِج، وكذلك إذا أخرج كل منهم شيئًا لا يُقطع؛ لأنَّه لم يتحقق شرط القطع.

د. حدوث العيب في الأضحية:

الأضحية واجبة عند الحنفية، وسنة مؤكدة عند الأئمة الثلاثة، إلا إذا أوجبها على نفسه، واتفقوا على أنَّ الأضحية المعيبة لا تُجزئ، وإن اختلفوا في العيوب التي تمنع الجواز، فإذا اشترى شاةً للأضحية، وهي سليمة من العيوب التي لا تُجزئ في الأضحية، ثم تعيبت قبل الذبح: فهل تجزئ إذا ذبحها بعد حدوث العيب؟

ذهب أبو حنيفة -رحمه الله- إلى أنَّه إذا تعيبت عند معالجة الذبح وذبحها أجزأته، وعمدتهم في ذلك الاستحسان, وباقي المسألة موجود في كتب الفروع.

error: النص محمي !!