أنواع الجناية على ما دون النفس
قبل أن نتحدث عن أنواع الجناية على ما دون النفس، نود أن نشير إشارة خفيفة إلى ماهية القتل شبه العمد، والقتل الخطأ؛ إتمامًا للفائدة.
والقتل شبه العمد: هو ما وجد فيه القصد إلى الضرب، دون القصد إلى القتل؛ بمعنى: أن يقصد شخص ضرب الآخر بما لا يقتل غالبًا، سواء ضربه لقصد العدوان عليه، أو لقصد التعليم والتأديب؛ كما لو ضربه بالسوط، أوالعصا، أو الحجر الصغير، فإن قُتل فإنه يطلق على هذا القتل شبه عمد، أو عمد خطأ؛ لاجتماع العمد والخطأ فيه، وحكمه أنه لا قصاص فيه، بل فيه دية مغلَّظة؛ لأن الضارب قد تعمد الفعل، لكنه أخطأ في القتل، أي: انعدم القصد منه إلى القتل.
هذا فيما يتعلق بشبه العمد في عجالة.
أما عن القتل الخطأ، فيتمثل في أن يفعل إنسان فعلًا لا يريد به إصابة المقتول فيصيبه ويقتله، وهو محقون الدم؛ كما لو ضرب الرجل، أو رمى آخر بشيء فأصاب غير ذلك، وجملة ذلك أن القتل الخطأ يتمثل فيما لو رمى إنسان شيئًا فأصاب به مسلمًا، أو ذميًّا لم يرده بما قد يمات بمثله؛ هذا خطأ، وموجب القتل الخطأ الدية على العاقلة، والكفارة على القاتل، والأصل في ذلك قول الله تعالى: { وَمَنْ قَتَلَ مُؤْمِنًا خَطَأً فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ وَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ إِلَّا أَنْ يَصَّدَّقُوا} [النساء: 92]، وبذلك فمقتضى القتل الخطأ إعتاق رقبة مؤمنة، وأداء دية لورثة القتيل تؤديها عاقلة القاتل، مع حرمانه من الميراث.
ننتقل بعد ذلك إلى موضوع الجناية على ما دون النفس، وفيها نتكلم عن الشروط التي يجب أن تتوافر في الجارح، وكذلك المجروح، وكذلك الجرح، وفي بيان ذلك نقول: الجناية على ما دون النفس على أربعة أنواع:
النوع الأول: إبانة الأطراف، وما يجري مجراها، أي: جناية يترتب عليها قطع الأطراف كقطع اليد، والرجل، والشفة، والأنف، واللسان، مما يبان عن الجسد على نحو واضح ومحدد.
النوع الثاني من الجناية على ما دون النفس: إذهاب معاني الأطراف مع بقاء أعيانها، أي: إذهاب منفعة العضو مع بقاء العضو؛ كما لو وقعت الجناية مثلًا على الأذن، فأذهبت حاسة السمع واستبقت عين الأذن، أي: ترتب على الجناية ضياع حاسة السمع، مع أن العضو موجود من حيث الصورة والشكل، أو قد تقع الجناية على الأنف فتذهب حاسة الشم مع بقاء الأنف صورة وشكلًا، وكذلك العين التي تبصر، وغير ذلك من الأطراف التي تأتي الجناية على الأغراض المقصودة منها، وهي معانيها وما جعلت له من منافع مع بقاء عين العضو في صورته وشكله.
النوع الثالث من أنواع الجناية على ما دون النفس: الشجاج؛ والشجاج جمع ومفرده شجة، ويقصد بالشجة: الجراحة في الرأس أو الوجه، فكل جراحة في الرأس أو الوجه يطلق عليها شجاج، أما ما كان من جراحة أو إصابة في غير الرأس والوجه، فإنه يسمى جرحًا.
والشجاج من حيث العدد، فهي إحدى عشرة شجة، منها:
- الحارصة، وهي أول الشجاج، ويترتب عليها شق الجلد؛ إذ هي من الحَرص بفتح الحاء؛ وهو: الشق، وتسمى أيضًا: القاشرة.
- الباضعة: من الفعل بضع، والبضع بالفتح: هي القطعة من اللحم.
- الدامية؛ وهي التي تدمي من غير أن يسيل منها دم، فإذا سال فهي الدامعة.
- الدامعة: هي الشجة يسيل منها الدم قطرًا كالدمع.
- المتلاحمة: الشجة إذا بلغت اللحم يطلق عليها المتلاحمة.
- السمحاق: هي الشجة التي بينها وبين العظم قشرة رقيقة.
- الموضحة: هي الشجة التي تبدي وضح العظم، أي: تظهر العظم، أو التي بلغت العظم وأوضحته، والموضحة هي التي يكون فيها القصاص؛ لأنه ليس من الشجاج شيء له حد ينتهي إليه سواها.
إذن في غير الموضحة من الشجاج الدية.
أما ما كان في غير الرأس والوجه -كما ذكرنا- فيطلق عليه جرح.
- هناك أيضًا من الشجاج، الهاشمة: وهي التي تهشم العظم.
- المنقلة: وهي الشجة التي تنقل العظم، أي: تنقله من مكان إلى مكان.
- والآمَّة: من الفعل أمَّه، أي: شجَّه؛ وهي التي تبلغ أُم الدماغ.
- الدامغة: من الفعل دمغه دمغًا، أي: شجه حتى بلغت الشجة الدماغ.
وجملة القول في هذا النوع من الشجاج، أن الشجاج ما كان من إصابات في الرأس والوجه مما يكون في مواضع العظم كالجبهة، والصدغين، والذقن، أما ما كان من إصابات في غير هذه المواضع يسمى جراحًا، وهو ما نبينه إن شاء الله.
النوع الرابع: الذي هو الجراح، أو الجروح؛ وهو جمع، ومفرده جرح، ويعني: الشق في البدن، والجراح نوعان: جائفة، وغير جائفة؛ جائفة، أي: تصيب الجوف، فنقول مثلًا: جاف فلانًا بطعنة فهي جائفة؛ فالجائفة: هي التي تصل إلى الجوف، والمواضع التي تنفذ منها الجراحة إلى الجوف؛ هي: الصدر، والظهر، والبطن، والجنبان، والحلْق؛ وغير ذلك.
ولعلنا نلحظ أن تلك الأعضاء جميعها من غير الوجه والرأس، وقد ذكرنا قبل ذلك أن الجراح يشتمل على كل جراحة فيما عدا الوجه والرأس، إذ ما يصاب به الرأس والوجه يسمى شجاج.
على أن الجناية فيما دون النفس، لا شك أنها قد تكون عمدًا، وقد تكون غير عمد؛ فماذا عن العقوبة فيما إذا كانت الجناية فيما دون النفس عمدًا؟
قالوا: إن كانت الجناية فيما دون النفس عمدًا، فالعقوبة القصاص، لكن القصاص ليس على الإطلاق كعقوبة، وإنما إذا كانت المماثلة ممكنة، أي: إذا أمكن القصاص فيما دون النفس، وتحققت المماثلة دون تجاوز، هنا تكون العقوبة القصاص، أما الجروح والشجاج التي تنتفي فيها المماثلة، فلا قصاص فيها -كما سبق وأن بينا- إلا في الموضحة فقط؛ لأن القصاص في الموضحة ممكن لتحقق المماثلة، والقصاص فيما دون النفس فيه ما يمكن المماثلة كالجناية على الأطراف، وكذلك الموضحة، ولا شك أن القصاص يجب في تلك الحالة فيما يمكن فيه مماثلة الأطراف، أو الموضحة.
والدليل على وجوب القصاص قول الله تعالى: {وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ وَالْعَيْنَ بِالْعَيْنِ وَالْأَنْفَ بِالْأَنْفِ وَالْأُذُنَ بِالْأُذُنِ وَالسِّنَّ بِالسِّنِّ وَالْجُرُوحَ قِصَاصٌ} [المائدة: 45]، وقوله : { فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ} [البقرة: 194]، وقوله: { وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُوا بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ } [النحل: 126].
وفي الحديث أيضًا ما يدل على ذلك، فقد روى البخاري، والنسائي، عن أنس، أن الربيع بنت النضر كسَرت سن جارية، فعرضوا عليهم الأرش، أي: البدل، أو الدية، فأبوا إلا القصاص، ولم يقبلوا الدية، أو لم يقبلوا الأرش وتمسكوا بالقصاص، فجاء ابن أخيها أنس بن النضر، إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله تكسر ثنية الربيع، والذي بعثك بالحق لا تكسر ثنيتها، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: ((كتاب الله القصاص))، فعفا القوم، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: ((إن من عباد الله من لو أقسم على الله لأبره)).
والشاهد في ذلك: أنه لما كان القصاص ممكنًا في الجناية على السن، أوجب النبيصلى الله عليه وسلم القصاص فقال: ((كتاب الله القصاص)).
وكذلك أجمع أهل العلم على وجوب القصاص فيما دون النفس إذا أمكن.
أما القياس -كدليل على وجوب القصاص فيما دون النفس كالأطراف والموضحة- فقد جاء فيه: أن ما دون النفس كالنفس في الحاجة إلى حفظه بالقصاص، فكان كالنفس في وجوبه، كما أن النفس يجب حفظها بالقصاص، فكذلك ما دون النفس يجب حفظه طالما أن القصاص ممكن.