Top
Image Alt

أنواع العلم، وخلاف العلماء في نوع العلم الذي يفيده التواتر

  /  أنواع العلم، وخلاف العلماء في نوع العلم الذي يفيده التواتر

أنواع العلم، وخلاف العلماء في نوع العلم الذي يفيده التواتر

تعريف “العلم”: معرفة المعلوم على ما هو عليه، كذا ذكر الشيخ الشيرازي -رحمه الله- في كتابه (اللمع).

2. أنواع العلم: العلم نوعان:

النوع الأول: علم قديم، وهو علم الله عز وجل وهو متعلق بجميع المعلومات، ولا يوصف ذلك العلم بأنه ضروري ولا مكتسب.

النوع الثاني: علم محدث: وهو علم الخلق، وعلم الخلق نوعان: وكلامنا الآن في هذا النوع الثاني الذي هو العلم المحدث، والعلم المحدث يختص بالخلق وهو نوعان:

الأول: علم ضروري: وهذه من الأمور التي ينبغي على كل طالب علم أن يعرفها، تعريف العلم وأقسام العلم.

فالعلم الحادث الذي هو علم الخلق نوعان: علم ضروري: ومعنى ضروري هو الذي لا يحتاج إلى نظر، ولا إلى استدلال، وعلم ضروري يعني: يتحقق بالقوة، ولا تستطيع أنت أن تدفعه، ولا تبذل جهدًا ولا نظرًا ولا بحثًا ولا تأملًا ولا فكرًا في تحصيله، بل يحصل لك هكذا، كالعلم الحاصل عن الحواس الخمس.

الثاني: العلم النظري، وهو ما يحتاج إلى استدلال كقول المتكلمين استدلالًا على حدوث العالم، يقولون: العالم متغير وكل متغير حادث؛ فالعالم حادث، إذن النتيجة التي وصلت إليها وهي حدوث العالم وصلت إليها بنظر واستدلال أو بدون نظر واستدلال بنظر واستدلال، فكل علم يحتاج إلى نظر وإلى استدلال نسميه علمًا نظريًّا، كما يقول المتكلمون في استدلالهم على حدوث العالم: العالم متغير وكل متغير حادث فالعالم حادث، إذن هذه نتيجة وصلت إليها بعد نظر واستدلال، وبعض أهل العلم يقول: العلم النظري هو العلم المكتسب، يعني: الذي يحتاج إلى فكر واستدلال كالعلم بحدوث العالم، ودوران الأرض حول الشمس، ونحو ذلك.

3. خلاف العلماء في نوع العلم الذي يفيده التواتر:

اختلف العلماء في العلم الحاصل بالتواتر هل هو ضروري، أو نظري؟ على ثلاثة أقوال:

القول الأول: إنَّ العلم الحاصل بالتواتر ضروري لا يحتاج إلى نظر واستدلال، وهذا القول هو قول جمهور العلماء، واستدلوا عليه بأدلة:

الدليل الأول: قالوا: لو كان العلم الحاصل بالتواتر نظريًّا؛ لما حصل لمن ليس من أهل النظر والاستدلال كالصبيان والبله وكثير من العامة، لكنه حصل لهم فدل ذلك على أنه ضروري.

الدليل الثاني: إن كل عاقل يجد من نفسه العلم بوجود مكة والمدينة وغيرهما من البلاد النائية عن خبر التواتر بها مع أنه لا يجد في نفسه سابقة فكر، ولا نظر فيما يناسبه من العلوم المتقدمة عليه، ولا في ترتيبها المفضي إليه، ولو كان نظريًّا لما كان كذلك، فأي عاقل الآن يعلم بوجود مكة علمًا ضروريًّا وهو لم ير مكة ولم يذهب إلى مكة، وهذا العلم قد تحقق دون نظر ودون استدلال، ويعلم كذلك بوجود البلاد النائية كالهند، والسند، ونحو ذلك، ويعلم بوجود الأنبياء، والأئمة، والصحابة، والخلفاء، وكذا، وكذا، وهذا كله متحقق بالعلم الضروري.

الدليل الثالث: أن العلم بخبر التواتر لا ينتفي بالشبهة، وهذه هي أمارة الضرورة كل شيء لا ينتفي بالشبهة فاعلم أنه ضروري، يعني: متحقق بالضرورة.

الدليل الرابع: لو كان العلم الحاصل بالتواتر نظريًّا -يعني: يحتاج إلى نظر واستدلال- لجاز الخلاف فيه عقلًا، وهذا كلام جيد ومسلّم، كل شيء نظري -يعني: يحتاج لنظر واستدلال وإعمال فكر- يجوز أن يقع فيه الخلاف عقلًا؛ لأن الأمر النظري قد يكون صوابًا وقد يكون خطأً، والثاني ظاهر الفساد حيث لم يقع إلا من معاند، فدل ذلك على أنه ضروري كالعلم بالمحسات ونحوه.

القول الثاني: إنَّ العلم الحاصل بالتواتر نظري -يعني: يحتاج إلى نظر واستدلال وإعمال فكر وتأمل وتدبر ونحو ذلك- وهذا القول محكي عن الكعبي، والكعبي هو عبد الله بن أحمد الكعبي البلخي رأس طائفة من المعتزلة تسمى الكعبية، وهو متوفى في القرن الرابع الهجري، فالكعبي وأبو الحسين البصري من المعتزلة، والدقاق وهو محمد بن محمد بن جعفر الدقاق أبو بكر فقيه شافعي أصولي متوفى أيضًا في القرن الرابع الهجري، يرون أن العلم الحاصل بالتواتر نظري، وذهب إلى ذلك أيضًا من الحنابلة أبو الخطاب، واستدل أصحاب هذا القول على أن العلم الحاصل بالتواتر نظري بدليلين:

الدليل الأول: أن العلم الحاصل بالخبر المتواتر يتوقف على أن المخبرين قد أخبروا عن أمر محسوس -شروط التواتر التي ذكرناها- يتوقف على أن المخبرين قد أخبروا عن أمر محسوس لا يتطرق إليه شك أو لبس، أو أنه يمتنع تواطؤهم على الكذب عادةً، وأنه لا يوجد داعٍ لهم إلى الكذب من جلب منفعة أو دفع مضرة، وهذه الأمور لا تُعرف إلا بالنظر والاستدلال، ومعلوم أن الذي يتوقف على النظري يكون نظريًّا، وعليه فالعلم الحاصل عن الخبر المتواتر نظري.

الدليل الثاني: لو كان العلم بخبر التواتر ضروريًّا لكنا عالمين بذلك العلم على ما هو عليه -كما في سائر العلوم الضرورية؛ وذلك لأنَّ حصول علم للإنسان وهو لا يشعر به محال، فإذا كان العلم ضروريًّا؛ وجب أن يعلم كونه ضروريًّا وليس كذلك، هذا الدليل الثاني للكعبي وأبي الحسن البصري والدقاق ومن لف لفهم كأبي الخطاب من الحنابلة، فهؤلاء يرون أن المتواتر يفيد العلم النظري؛ لأنه لم يفد العلم بنفسه بل بواسطة النظر في طريق وصوله إلينا.

القول الثالث: التوقف وعدم الجزم برأي معين، وهذا القول منقول عن الشريف المرتضي من الشيعة، وهو المختار عند الآمدي، كما ذكره في كتابه (الإحكام في أصول الأحكام) وإنما اختار أصحاب هذا القول التوقف نظرًا لتعارض الأدلة وعدم ما يوجب الجزم بأحد القولين السابقين، إلا أن هذا القول الثالث قول ضعيف، ولا داعي للتوقف بعد أن علمنا أدلة الجمهور وأنها أدلة قوية.

الترجيح:

نرجح مذهب الجمهور في أن العلم الذي يفيده المتواتر هو العلم الضروري.

هل هذا خلاف في اللفظ فقط، أم خلاف معنويّ يترتب عليه أثر في الفقه؟

أكثر أهل العلم يرون أن الخلاف في هذه المسألة خلاف لفظي، وممن جنح إلى ذلك الطوفي -رحمه الله- في مختصره الذي شرح فيه (الروضة)؛ لأنَّ القائل بأنَّه يفيد العلم الضروري لا ينازع في توقفه على النظر في هذا الطريق، والقائل بأنَّه نظري لا ينازع في أنَّ العقل يضطر إلى التصديق به، إذن الخلاف في هذه المسألة على ما هو الراجح بين أهل العلم خلاف لفظي.

error: النص محمي !!