أنواع ديات الأعضاء والمعاني، ومقدارها
ننتقل بعد ذلك إلى بيان ديات الأعضاء والمعاني، والمقصود بالأعضاء: هي الأطراف وأجزاء البدن المتميزة التي تنتهي إلى مفاصل، أو تنتهي إلى حدود، فإن الجناية على كل واحد من هذه الأعضاء، تستوجب إما دية كاملة، أو نصف دية، أو دون ذلك، وكذلك الجناية على منافع هذه الأعضاء تستوجب الديات على نحو ما نبينه، أي: أن الجناية على الأطراف التي تنتهي إلى مفاصل، أو إلى حدود فيها دية، إما كاملة، وإما منصَّفة، وإما دون ذلك، وكذلك الجناية التي تقع على المنافع، أي: على منافع الأعضاء، وتبقي عين العضو لكن تزيل منفعته، فالجناية على تلك المنافع أيضًا، تستوجب دية على تفصيل نوضحه فيما يلي:
والأصل في ذلك، أن كل ما في الإنسان منه شيء واحد كاللسان، والأنف، والذكر، ففيه الدية كاملة، يعني: لو جنى إنسان على لسان آخر ففيه دية، أو على أنف آخر ففيه دية، أو على ذكر آخر ففيه دية؛ لأنه لا يوجد في البدن إلا لسان واحد، وأنف واحد، وذكر واحد.
أما ما فيه شيئان كالعينين، والأذنين، واليدين، وغير ذلك، ففيهما الدية، وفي الواحد منهما نصف الدية، فلو جنى شخص على عين واحدة، أو على أذن واحدة، ففي العين الواحدة نصف الدية، وفي الأذن الواحدة نصف الدية.
أما ما فيه منه أربعة كأجفان العينان، فإن للبدن أربعة، ففيهن الدية كاملة عند الجناية على الأربع، وفي الجناية على الواحدة فقط ربع الدية.
أما ما في البدن منه عشرة كأصابع اليدين، والرجلين ففيها الدية، وفي الواحد عُشر الدية، فأصابع اليدين عشرة، وعند الجناية على الجميع تستوجب الدية كاملة، وعند الجناية على الإصبع الواحد ففيه عُشر الدية.
وكذلك المعنى فيما يتعلق بإتلاف معاني الأعضاء مع بقائها فنقول: إن في إتلاف منفعة الحس مثلًا الدية كاملة، كإذهاب منفعة السمع، أو إذهاب منفعة البصر، أو إذهاب منفعة الشم وغير ذلك من المنافع، فإذا جنى شخص على آخر فإتلاف منفعة السمع ففيه الدية، أو أتلف منفعة البصر ففيه الدية حتى لو ظل عضو السمع موجودًا.
وعلى هذا يمكن إجمال الديات في الأنواع التالية:
النوع الأول: ما يجب فيه الدية كاملة، سواء في ذلك الأطراف والمنافع، ويكون ذلك في: النفس، واللسان، والكلام، والصوت، والذوق، والمضغ، والبصر، والشم، فالاعتداء على كل واحدة من هذه يستوجب الدية كاملة.
فإذا جنى شخص على اللسان فقطعه ففيه دية، وإن جنى شخص على اللسان فأبطل الكلام، أو أذهب الكلام مع بقاء اللسان ففيه دية.
النوع الثاني: ما يجب فيه نصف الدية، و يكون ذلك في كل عضو من البدن يوجد منه اثنان، كالعينان مثلًا، فالجناية على الواحدة تستوجب نصف الدية، والأذنان، فالجناية على الواحدة تستوجب نصف الدية.
النوع الثالث: ما يجب فيه الثلث، وذلك في: الآمة، والدامغة، والجائفة.
النوع الرابع: ما يجب فيه الربع، وهو الجفن خاصة؛ لأن في البدن أربعة.
النوع الخامس: ما يجب فيه العُشر، وهو الأصبع من اليد، أو الرجل؛ لأن في كل من اليد والرجل عشرة أصابع، والاعتداء على الواحد يستوجب عُشر الدية.
النوع السادس: ما يجب فيه نصف العشر، وهو خمسة أشياء: أنملة الإبهام، والسن، وموضحة الرأس والوجه، والهشم، والنقل، فالجناية على تلك الأشياء يجب فيها نصف العشر.
النوع السابع: ما يجب فيه عُشر العشر، وهو كسر الضلع، وقيل: فيه حكومة عدل.
هذه هي الأعضاء التي بالجناية عليها تفصيلًا أو إجمالًا تستوجب تقديرًا مما سبق، وإذا كنا قد ذكرناها على سبيل الإجمال، فإتمامًا للفائدة نأتي بها تفصيلًا حتى يتضح الكلام.
فنقول في العينين مثلًا: تجب الدية كاملة؛ وذلك لما جاء في الكتاب الذي بعثه النبي صلى الله عليه وسلم إلى أهل اليمن، وفيه قوله: ((وفي العين خمسين))، كذلك ما أخرجه النسائي عن عمرو بن حزم، عن أبيه، عن جده، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كتب كتابًا إلى أهل اليمن فيه الفرائض، والسنن، والديات، وفيه: ((وفي العينين الدية)).
وهل يختلف الأمر بين ما إذا كانت العين صحيحة أو مريضة؟
قال الفقهاء: “يستوي في ذلك ما لو كانت العين صحيحة أو مريضة، وكذلك يستوي في هذا ما إذا كانت العين للصغير أو الكبير”.
وماذا عن عين الأعور إذا فقئت، أو قلعت خطأ؟
فيها الدية كاملة؛ لأنها بالنسبة لصاحبها الأعور بمنزلة العينين جميعًا لغير الأعور، أي: أنها في تلك الحالة تصنَّف على أنها مثل الأعضاء التي في البدن منها عضو واحد؛ وهذا مروي عن عمر، وعثمان، وعلي، وابن عمر؛ حيث قضوا بذلك، وهو قول المالكية، والحنابلة، والليث.
وقال الشافعي، وأبو حنيفة، والثوري، وجماعة من التابعين: فيها نصف الدية، ودليلهم في ذلك: عموم الخبر الوارد في حديث عمرو بن حزم: ((وفي العين نصف الدية))، حيث لم يفرق الخبر بين الأعور وغير الأعور.
منفعة البصر:
في الجناية على البصر الدية كاملة؛ لأن البصر هو النفع المقصود بالعين، وهذا يطلق عليه: دية فوات منافع الأعضاء، وإذا ذهب البصر من إحدى العينين دون الثانية وجب نصف الدية، ولو ذهب البصر، ثم عاد فلا تجب الدية.
يعنينا في ذلك أن نقول: إذا وقعت الجناية على إنسان ففوتت منافع عضو كمنفعة العين، فهنا تجب الدية كاملة، أما إذا كان فوات البصر لعين واحدة ففيها نصف الدية، وهذا ما يطلق عليه ديات الأعضاء الثنائية.
أما عن جفون العينين، والجفون: هي الأشفار مفردها شفر، وهي منابت الأهداب، ومن المعلوم أن الجفون أربعة، ومن ثم فيجب في الاعتداء على جفون العينين الأربعة الدية كاملة، وفي الاعتداء على الجفن الواحد ربع الدية، وفي الاعتداء على الجفنين نصف الدية.
وهو قول جمهور العلماء: الحنفية، والشافعية، والحنابلة؛ إذ قالوا: إن في تفويتهما تفويتًا للعين، فيجب نصف الدية، أما إذا فاتت الأربعة فيجب في تلك الحالة الدية كاملة؛ لما في الجفون من جمال كامل ونفع عظيم، فهما يقيان العينين مما يؤذيهما، وتصد عنهما هجوم الغبار، وما فيه من أجسام متطايرة في الهواء، ويستوي في ذلك ما لو كان الجفنان في الأعمى أو البصير؛ لأن العمى عيب لذاته، وهو انعدام البصر، أما الجفنان فلما فيهما من جمال ونفع للعينين فافترقا.
الجناية على الأذنين:
ونحن نعلم أن الأذنين من الأعضاء الثنائية في البدن، أي: يوجد في البدن أذنان، ومن ثم فالاعتداء عليهما يستوجب الدية، والاعتداء على الواحدة يستوجب نصف الدية.
ويجب في الأذنين الدية كاملة كما ذكرنا، وفي الواحدة نصف الدية؛ وذلك لما جاء في كتاب رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي كتبه لعمرو بن حزم ((وفي الأذن خمسون من الإبل)) وفي حديث آخر ((وفي الأذنين الدية)) والأذن للإنسان فيها جمال ظاهر ومنفعة عظيمة، فهي تجمع الأمواج الصوتية لتنقلها عن طريق الأعصاب إلى مركز الأعصاب الرئيسي في الدماغ.
ومن ثم لو قطع بعض الأذن، أي: لو جنى شخص على آخر فقطع جزءًا من أذنه، كالربع أو النصف أو الثلث، وجب فيه من الدية ما يساويه، بمعنى: أن لو كان الجزء المقطوع هو الربع، فإنه يجب ربع الخمسين من الإبل، ولو كان الجزء المقطوع يساوي النصف، فهنا يجب نصف الخمسين، أي: خمسة وعشرون من الإبل، ووجه ذلك: أن ما وجبت في كله الدية وجبت في بعضه بقسطه.
وكذلك الأمر فيما إذا كانت الجناية على منافع الأذن، وهي السمع فنقول: تجب في السمع الدية كاملة بغير خلاف، فلو ضرب إنسان آخر على رأسه، أو على أذنه ففقد السمع، فإنه في تلك الحالة يستوجب الدية كاملة؛ لما ورد عن معاذ بن جبل عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: ((وفي السمع مائة من الإبل))، كذلك روي عن سعيد بن المسيب أنه قال: “وفي السمع إذا ذهب الدية تامة” وهكذا.
الجناية على اللسان:
الجناية على اللسان تستوجب الدية كاملة، وعضو اللسان -كما نعلم- يأتي في غاية الأهمية والكمال والجمال للإنسان، وهو لا يعدله في الأهمية والمنفعة سوى العقل البصير، ومن ثم فإن الجناية على اللسان تقتضي الدية. ودليل ذلك: قول الرسول صلى الله عليه وسلم: ((وفي اللسان الدية)) وهذا ما لا خلاف فيه.
وتأسيسًا على ما تقدم، فلو جنى إنسان على لسان آخر فصار المجني عليه أخرس -يعني: فقد منفعة اللسان- فهنا تجب الدية كاملة؛ وذلك لأنه جنى عليه في لسانه بما يبطل معه الفائدة من حيث النطق، فأشبه ما لو جنى على عينه فعميت.
أما لو جنى عليه بما يذهب بعض الكلام، فقد وجب على الجاني من الأرش بقدر ما ذهب، وإن كان للفقهاء تفصيل في ذلك؛ فهناك من يقيس الأمر بالحروف، وعلى ذلك فلو جنى إنسان على آخر فعجز المجني عليه عن نطق بعض الحروف، وجب على الجاني من الأرش بقدر ما ذهب من الكلام، ويعتبر ذلك بحروف المعجم، وهي ثمانية وعشرون حرفًا للعربي، وهكذا.