أهداف الغزو الفكري
وقبل أن نسترسل في الحديث عن مظاهر أو ظواهر الغزو الفكري في العالم الإسلامي، لا بد من إثارة سؤال: ما الأهداف الحقيقية من محاولة النّيْل من الإسلام، أو من الغزو الفكري لعقول المسلمين؟ ما الهدف الأساسي لهذه الظاهرة؟ ولماذا استبدلوا الغزو الفكري بالغزو العسكري؟
هنا نقطة على جانب كبير من الأهمية وهي: أن انتصار المسلمين في أوّل عهدهم بالإسلام، والفتوحات الإسلامية الواسعة التي لفتت نظر العالم كلّه، كيف ينتشر الإسلام هذا الانتشار السريع في قرن واحد من الزمان ويغطّي سائر أنحاء المعمورة؟ هذا الانتشار السريع طرح على مفكِّري أوربا ومنظِّريها عديدًا من الأسئلة: ما السبب الحقيقي لانتشار الإسلام؟ وكيف ينتصر الإسلام بهذه السرعة، وينتصر المسلمون وهم آتون من الجزيرة العربية لا عهد لهم بفنون الحرب، ولا يملكون من العدد والعُدّة مثل ما يملك الغرب، ولم يكن سلاحهم أقوى من سلاح الغرب؟! ولكن انتصر الإسلام بهذه السرعة المذهلة. وبحثوا طويلًا حول إيجاد سبب أساسي لانتشار الإسلام بهذه السرعة، وانتصار المسلمين في كل المعارك التي خاضوها ضد أعدائهم، وربما وصلوا من ذلك إلى أن السبب الحقيقي وراء هذا الانتصار والانتشار السريع يرجع إلى أمرين:
سهولة الإسلام وسهولة العقيدة الإسلامية ويسرها؛ فالعقيدة الإسلامية سهلة وميسورة، وليس فيها من التعقيدات ما يملّ أو يكلّ من أجله العقول. ليس في العقيدة الإسلامية أمور معقّدة تصيب العقل بالكلل أو الملل، وليس في الإسلام أمور غامضة عسيرة على الفهم.
والأهم من هذا أيضًا: أنّ الذين اعتنقوا الإسلام كانوا صادقين في اعتناقهم للإسلام، كانوا مؤمنين به إيمانًا جازمًا، كانوا يفْدونه بأرواحهم وعقولهم، وكانوا يبذلون في سبيل نصرته الغالي والنفيس. جعلوا همّهم الأكبر هو: الإسلام، هو: انتشار الإسلام، وليس غُنمًا ماليًّا أو كسبًا ماديًّا، وإنّما جعلوا قضيّتهم هي: الإسلام، هذه العقيدة التي جعلت من أفراد المسلمين وقلّة عددهم يواجهون العالم كلّه.
بدأ المستشرقون أو أعداء الإسلام يخطِّطون كيف ينالون من هذه العقيدة؟ كيف يهزمون المسلم داخليًّا في عقيدته؟ كيف يثيرون شبهاتٍ حول القرآن الكريم وحول أصول الإسلام؟ لأن هذه الأمور: غزو العقيدة، وإثارة الشّبهات والشكوك حول القرآن وحول الإسلام هي المدخل الطبيعي لجعل المسلم يتهاون في عقيدته، يتهاون في إسلامه، يحاول التخلص من القضايا التي ثارت حولها الشبهات والشكوك. ومن هنا ركّزوا اهتمامهم على غزو العقيدة الإسلامية من داخل المؤمن، فإذا ما تخلّى المسلم عن عقيدته أصبح إنسانًا هشًّا تعصف به الرياح، سواء كانت رياحًا سياسية، أو رياحًا مذهبية، أو رياح أهواء شخصية. أمّا صاحب العقيدة فهو ثابت كالجبل، لا يلين أبدًا، لا يداهن، لا يساوم على عقيدته.
كما وجّهوا أيضًا سهامَهم نحو القرآن الكريم؛ فأثاروا الشبهات حول قضية الوحي، حول قضية بشرية القرآن، وأنه من عند محمد وليس من عند الله؛ بل أكثر من هذا: تناولوا شخص الرسول، وبيْت الرسول، وسلوك الرسول، بإثارة الشبهات حول الرسول صلى الله عليه وسلم لينسحب هذا الشك ويؤثِّر في عقائد المسلمين، وفي علاقة المسلم برسول الله صلى الله عليه وسلم ويبدأ من هذا نوعٌ من التساهل والتراجع عن العقيدة الإسلامية، وعن التمسك بأوامر الله ورسوله صلى الله عليه وسلم .
ومن هنا يمكن أن نحدِّد أهداف هذه الحملات التشكيكية في الأمور الآتية:
الأمر الأوّل: هو العمل على هدم الإسلام في داخل المسلم، زعزعة العقيدة الإسلامية في قلب المؤمن؛ حتى يتناولها المسلم بشيء من الاستهانة، فلا يمارس العبادات ولا الشعائر الدينية، ولا يهتم بالسلوك الإسلامي؛ لأن السلوك الإسلامي هو تطبيق عملي لصحة العقيدة, للعقيدة الصحيحة، لارتباط العمل بالإيمان. فإذا ما هدموا أركان الإسلام، فإذا ما هدموا العقيدة الإسلامية وصوّبوا إليها سهامهم وشكوكهم، ضعُف إيمان المسلم، واهتزّت عقيدته، وبدأ يظهر ذلك في سلوك المسلم، وفي علاقة المسلم بالمسلم، وفي علاقة المسلم بدِينه وبربه وبمجتمعه؛ فتبدأ الأمراض الاجتماعية تطفو على السطح في الشعوب وفي المجتمعات الإسلامية، كأمراض النفاق، كأمراض الرياء، كشيوع الفواحش والمنكرات، كمحاولة التخلص من الشعائر الدينية، كشيوع الانحلال في المجتمع المسلم. هذه الأمراض كلها لم تظهر في المجتمع إلا بعد أن زعزع وعمِل هؤلاء المواجهون للإسلام على زعزعة وإضعاف العقيدة الإسلامية في قلب المؤمن.
إذًا المهمّة الأولى: هي العمل على هدم الإسلام وزعزعة العقيدة في داخل قلب المؤمن، ليهتزَّ سلوك المؤمن؛ وبالتالي يهتز سلوك المجتمع كلّه. ولا شكَّ أنّ هذه المهمة قد أثَّرت في بعض المجتمعات، ووجدت من يتبنّى بعض الأفكار التي غزا الاستعمارُ المسلمين بها، وقد نتناولها بالتفصيل فيما بعد.
المهمّة الثانية: هي إثارة الفُرقة والشقاق، وتمزيق الصف الإسلامي. وأجهد المستشرقون -والأعداء عمومًا- أنفسَهم في إثارة الفتن بين المسلمين، ابتداءً من صدر الإسلام. ولعل مقتل الإمام أمير المؤمنين عمر بن الخطاب، ومقتل الخليفة الثالث عثمان بن عفان، ومقتل علي بن أبي طالب رضي الله عنه ولعل إثارة الفتنة بين بني أمية وبين الإمام علي، وواقعة كربلاء، والمواقع الحربية التي خاضها الإمام علي مع بني أمية في واقعة صفّين، وفتنة الخوارج، كل هذه أمور تجسِّد تفرقة وتجزئة وانشقاق الصف الإسلامي نتيجة إثارة الفتن في بدايات الدولة الإسلامية. وما زالت هذه الخلافات قائمة، وبعضها يعمل عمله من وراء الستور، أو من تحت السطح -كما يقولون- في إثارة الفتن، لتجزئة الوحدة الإسلامية، وتمزيق الصف الإسلامي.
المهمّة الثالثة: هي تشويه صورة الأمّة الإسلامية في أعين الآخرين، عن طريق تجسيد هذه الشكوك، وهذه الشبهات في كتابات بعض المحلّلين، ومحاولة وصف الأمّة الإسلامية من واقع هذه الشبهات: أنها أمّة لا تحبّ العلم، ولا تميل إلى العلم، ولا إلى المنهج العلمي، وتؤمن بالخرافات و … و … إلخ، هذه المهمّة -وهي: تشويه صورة الأمّة الإسلامية- وجدت من يتبنّاها في القرون الثلاثة أو الأربعة الأخيرة. وحاولوا أن يستغلّوا واقع المسلمين المعاصر والمتخلّف، ويجعلوا سبب تخلّف المسلمين في القرون المتأخِّرة هو تمسّكهم بالإسلام، هو تمسكهم بالقرآن، هو إيمانهم بالغيبيّات. ووصفوا الإسلام بواقع المسلمين المتخلِّف. سحبوا تخلّف المسلمين على الإسلام كمبادئَ وقواعدَ وعقائدَ، ولم يفطنوا إلى أن المبدأ في نفسه شيء، وتطبيق المبدأ على يد الإنسان شيء آخَر.
وهذه القضية ينبغي أن ينتبه الكتّاب والمثقّفون إلى خطورتها، وخطورة أثرها على الشباب. أن يُحكم على الإسلام من واقع تخلُّف المسلمين: لا! هذا ظلم! وهذا خطأ منهجيّ وخطأ علمي! فإن سبب تخلّف المسلمين -إذا أردنا الحقيقة والإنصاف- هو بسبب إهمالهم للأخذ بمبادئ القرآن الذي يدعو إلى العلم، ويدعو إلى العمل، ويجعل العلم وعمل العالِم في المعمل والتجربة كأنه يعمل في محراب العبادة لله سبحانه وتعالى
قضية تشويه صورة المسلمين، استغلّ الأعداء فيها واقع المسلمين، وحاولوا أن يسحبوا هذا التخلف ويصفوا به الإسلام، ويصفوا به القرآن الكريم، ويجعلوا من أسبابه أو من أهم أسبابه: أنَّ المسلمين متمسِّكون بالقرآن، وأنّ تمسّكهم بالقرآن هو سبب هذا التخلف.
المهمّة الرابعة: هي محاولة خداع أنصاف المثقّفين في العالم الإسلامي، بإظهار أن العالم الغربي، أو أنّ أوربا تقدّمت؛ لأنها تخلّصت من سيطرة الأديان عليها، وأنّ سبب تخلّف المسلمين هو: تمسكهم بالإسلام. فجعلوا تقدم أوربا سببه الأساسي: ثورة أوربا، ومحاربتها للأديان، وتخلّف المسلمين سببه الأساسي هو: تمسّكهم بالإسلام. وهذا خطأ آخَر ينبغي أن يتنبّه له علماء المسلمين، ويرشدوا الشباب إلى خطورته ليعلموا أنّ أوربا لم تتقدّم؛ لأنها تخلّت عن المسيحية، وإنما تقدّمت؛ لأنها أخذت بالمنهج العلمي، وأخذت بالعلم، وطبّقت قوانين العلم، وأنّ المسلمين لم يتخلّفوا لتمسّكهم بالإسلام، بل لأنهم لم يأخذوا بالمنهج العلمي الذي دعاهم إليه القرآن الكريم، وأمَرهم به القرآن الكريم. فقضية ربط التقدم والتأخّر بالدِّين قضية ظالمة، لكن أعداء الإسلام حاولوا أن يخدعوا الشعوب الإسلامية بربط التقدم الحضاري في أوربا بموقف أوربا من الأديان، ومحاربتها الأديان، وأن تخلُّف المسلمين هو بسبب تمسّكهم بالإسلام.
هذه أمور ينبغي أن نُنبِّه إليها الشباب؛ لأنها على جانب كبير من الأهمية في توضيح صورة العلاقة بين الشرق والغرب، بين أوربا والإسلام. القضايا التي يثيرها الغرب ويدندن حولها، حول تشويه صورة الإسلام من جانب، وخداع المسلمين من جانب آخر، ينبغي أن ننتبه لها، ونبيِّن وجْه الحق فيها لخطورتها على التأثير في عقول الشباب.