أهمية الأدب والشعر عند العرب قبل الإسلام
لقد كان للشعر في الجاهلية المكان الأسمى والمنزلة الأسنى؛ فهو لسان الدفاع عن القبائل والنيل من الأعداء، وهو السجل الحافل بالأخلاق، وهو ديوان العرب وسجل حياتهم ومآثرهم.
ولمكانة الشعر عند العرب وحاجتهم إليه كانوا -كما ذكرت- يحتفلون إذا نبغ فيهم شاعر، ويقيمون الحفلات، ويذبحون الذبائح؛ لأن هذا الشاعر هو اللسان المدافع عن قبيلته، المذيع لمآثرها، المدافع عن حرمتها، الذي يرد على أعدائها، والذي يرثي قتلاها، ويشيد بانتصاراتها. وكان الشعر مرآةً صادقةً لحياةِ الأمةِ التي أبدعت هذا الشعر.
ولقد نال الشعر عندهم حظوةً ومكانةً عاليةً، وكان له النصيب الأوفى من تقديرهم واهتمامهم. وكان الشاعر عندهم صاحب المقام الأعلى في إثارة الحروب، أو إطفاء الفتن والدعوة إلى الصلح، وقد كانوا يتجاوبون مع الشعر، ويتأثرون به تأثرًا كبيرًا.
وقد كان الشعر يسير فيهم مسير الشمس في الكون ما إن يستجيدون قصيدةً حتى يرويها بعضهم لبعض، وحتى تنتقل هذه القبيلة بين القبائل، ومن هنا رفع الشعر أقوامًا وحط من شأن آخرين.
فلقد رووا مثلًا: أن المحلِّقَ الكلابي كان رجلًا فقيرًا خامل الذكر، عنده بنات لم يتزوجن، مَرَّ عليه شاعر فأكرمه الرجل، وأحسن وفادته، فمدحه بقصيدة سارت في القبائل حتى إنه لم يمض وقت طويل حتى علا شأن هذا الرجل، وجاءه كرام القوم يخطبون بناته. هذه الأبيات يقول فيها الشاعر:
لَعَمري لَقَد لاحَت عُيونٌ كَثيرَةٌ | * | إِلى ضَوءِ نارٍ في يَفاعٍ تُحَرَّقُ |
تُشَبُّ لِمَقرورَينِ يَصطَلِيانِها | * | وَباتَ عَلى النارِ النَدى وَالمُحَلَّقُ |
تَرى الجودَ يَجري ظاهِرًا فَوقَ وَجهِهِ | * | كَما زانَ مَتنَ الهِندُوانِيُّ رَونَقُ |
فالشاعر يصف هذا الرجل بالكرم، وأنه يشب ناره من أجل ضيفانه.
ولما هجا حسان بن ثابت قومًا كانوا طوال الأجسام، بقوله:
لا بَأْسَ بالْقَوْمِ مِنْ طُولٍ ومِنْ غِلَظ | * | جِسْمُ الْبِغَالِ وأَحْلامُ الْعَصَافِيرِ |
عيَّرهم الناس بذلك، وكان قوم يُسَمَّوْنَ بني أنف الناقة، يتوارون ويتخاذلون من هذا الاسم، وظلوا كذلك إلى أن نزل بهم الحطيئة الشاعر فأكرموه، فقال فيهم:
قَومٌ هُمُ الأَنفُ وَالأَذنابُ غَيرُهُمُ | * | وَمَن يُسَوّي بِأَنفِ الناقَةِ الذَنَبا |
فصاروا بعد ذلك يتفاخرون على العرب، ويتطاولون بهذا الاسم.
على هذا النحو كان الشعر الجاهلي وكان الأدب الجاهلي مصورًا لحياة العرب قبل الإسلام، وسجلًّا لمآثرهم وأمجادهم وأيامهم وحروبهم، وشاهدًا كذلك على ما كان في هذه الحياة من مثالب ومساوئ شاعت بينهم، حتى جاء الإسلام فاستنقذهم منها بفضل الله.
أرأيت كيف كان الشعرُ يرفع الوضيع ويضع الشريف، ظلت هذه مكانة الشعر والشعراء إلى أن كثر الشعر، واتخذه بعض الشعراء وسيلةً للتكسب، ومدحوا به الأغنياء لينالوا مالهم، فنزلت مرتبة الشعر والشاعر، وعَلَتْ فوقها منزلة الخطابة والخطيب، ولقد حفظ التاريخ الأدبي للعرب أسماءَ شعراءَ كثيرين نذكر منهم:
امرأ القيس، والأفوه الأودي، وحاتم الطائي، والمهلهل، والمرقش الأكبر، والمرقش الأصغر، وطرفة بن العبد، والحارث بن حلزة، والمتلمس، والأعشى، وعمرو بن كلثوم، والنابغة الذبياني وزهير بن أبي سلمى، وعنترة بن شداد، ولبيد بن ربيعة، والنابغة الجعدي، والشماخ بن ضرار، وأوس بن حجر… وكل هؤلاء كانوا شعراء كبارًا، رويت لهم قصائد بارعة تعد آية في البلاغة والفصاحة.
ومن المؤكد مع ذلك أن الذي ضاع من الشعر الجاهلي أكثر من الذي وصل إلينا بكثير؛ لأن طريقة حفظ هذا الشعر كانت تعتمد على الرواية والحفظ، ولم تكن تعتمد على الكتابة والتدوين، ظل العرب في الجاهلية يحفظون أشعارهم وخطبهم، ويتوارثونها جيلًا بعد جيل إلى أن جاء الإسلام، ونزل القرآن، وتعلم العرب بعد ذلك القراءة والكتابة، وذهب عنهم وصف الأمية الذي وُصفوا به قبل الإسلام، ولما بدأ عهد التدوين قُيِّدَتْ وكتبت أشعار الجاهليين وأخبارهم وخطبهم.
ولقد كان هذا الشعر الجاهلي يتناول الحياة العربية من شتى وجوهها، ومن هنا تنوعت أغراضه؛ فكانت في: الغزل، والمديح، والوصف، والرثاء، والهجاء، والفخر، والحكمة، هكذا قالوا الشعر في جميع مناحي الحياة وفي شتى الأغراض.
ولعلك بعد هذا قد عرفت تاريخ العرب الأدبي والفني قبل الإسلام، ووقفت على مفهوم الجاهلية، وعلى أهمية الشعر والأدب عندهم.