أهمية التحليل التقابلي، ومزاياه، وعيوبه، وجهود العلماء فيه
لقد كان من نتائج هذا الاتجاه، أن أخذ كثير من الدارسين المنتمين لعلم اللغة التطبيقي والنفسي والتربوي يجهزون المواد التعليمية لبعض اللغات الأجنبية على هذا الأساس، فصُنعت مواد لتعليم اللغة الإنجليزية للدارسين الأسبان، وأخرى لتعليم اللغة نفسها للفرنسيين، وأخرى لتعليم اللغة الفرنسية للدارسين الألمان، وهكذا، وانتشرت طريقة إعداد المواد التعليمية، وطريقة التدريس على هذا الأساس؛ علاوة على الأسس الأخرى التي قامت عليها المدرسة اللغوية الوصفية البنيوية.
ثم انتشرت هذه الأسس أيضًا في بلدان العالم المختلفة، بما فيها بلدان العالم العربي، وامتد العمل بها حتى السبعينيات من القرن المنصرم، وعلى الرغم مما يُبديه بعض الباحثين من تحفُّظ على هذا الاتجاه، فإنه -أعني التحليل التقابلي- قد أثبت نفعًا حقيقيًّا في تطوير المواد الدراسية في تعليم اللغة الأجنبية؛ بل في تعليم اللغة لأبنائها، فالدارس للغة الأجنبية يجد العناصر المشابهة للغته الأصلية سهلة يسيرة، في حين يصعب عليه العناصر المختلفة عما في لغته.
من هنا تكمن أهمية التحليل التقابلي للمعلم، إن هذا التحليل يمكن الخبراء والمعلمين من الوقوف على المشكلات التعليمية للدارسين على نحو أفضل، إنه يُمكنهم من اتخاذ الوسائل الكفيلة لعلاجها على نحو أفضل، إنه يجعلهم يدركون المشكلات اللغوية التي يصعب التعرف عليها من غير هذا السبيل، إن التحليل التقابلي يعتبر المعلم خبيرًا في تقوم مواد دراسية، والتعرف على مدى مناسبتها قبل اعتمادها للاستخدام، إن المعلم يستطيع بواسطة هذا التحليل أن يتعرف على الكتب التي تركز على الأنماط المتشابهة بين اللغة الأجنبية ولغة الدارس الأصلية، فلا يستطيع أيُّ خبير أو معلم أن يعد كتبًا دراسية أو مادة تعليمية تفي بحاجات الدارسين إلا بعد دراسة مقارنة بين اللغتين والثقافتين الأصلية والأجنبية.
إن هذا التحليل يساعد المعلمين والخبراء في إضافة تمرينات وأنشطة إلى الكتب والمواد الدراسية المعدة من قبل، وذلك لإثراء هذه المادة، ولسد الثغرات التي قد توجد بها.
إن التنبؤ بالسلوك اللغوي باللغة الأجنبية، وفحص تلك النبوءات القائمة، على أساس خصائص مختارة للغة الأم واللغة الأجنبية يسهمان في تحليل اللغتين، كما يسهمان في النظرية اللغوية بوجه عام في فهم طبيعة اللغة البشرية، وفي نظرية اكتساب اللغة اللغة الأجنبية، وفي طرائق تعليم اللغة الأجنبية أيضًا.
لقد امتدَّ العمل بأفكار هذه المدرسة، وبنظامها التحليلي التقابلي، حتى السبعينيات من القرن المنصرم كما قلت، ثم أخذت الأسس العامة لهذه المدرسة تهتزُّ بعد ظهور مدرسة تشومسكي ونظريته اللغوية المعروفة ب(التوليدية التحويلية)، التي قد ظهرت في أواخر الخمسينيات من القرن نفسه، وقد أوقفتك عليها في الدرس الخاص بذلك.
وقد كان لأنصار هذه النظرية (التوليدية التحويلية) موقفان من هذا التحليلي التقابلي:
الأول: موقف رافض له رفضًا قاطعًا؛ حيث يرى عدم أهميته، وعدم أخذه بعين الاعتبار عند النظر في موضوع تعلم اللغات الأجنبية وتعليمها.
الثاني: وهو الأكثر شيوعًا، فإنه قد حاول وضع إطار يتفق مع هذه النظرية اللغوية الجديدة (التوليدية التحويلية)، يُمكن أن يتم التحليل اللغوي المقارن في حدوده، بعد التوصل إلى نظرية شاملة يستند إليها ذلك التحليل.
أما الموقف الأول وهو الموقف الرافض، فإنه ينبثق من التوجه الأساسي لمدرسة “تشومسكي”، الذي يهتم بالمعنى، أي: بباطن اللغة أكثر من عنايته بشكلها، كما كان الحال بالنسبة لأتباع العالم “سكينر” و”بلومفلد” وعلماء النفس السلوكيين، الذين ركزوا على الخصائص العامة المشتركة بين اللغات جميعها، أكثر من تركيزهم على أوجه التباين التي تلاحظ في بنياتها الخارجية.
ومن هنا فإن أصحاب هذا الموقف الرافض يقولون: “إن البحث في الفروق الظاهرة بين اللغات لا جدوى منه، عند النظر في كيفية تعلم الدارس للغة الأجنبية” بل إنهم ينظرون إلى أن هذا الدارس يجلب معه حصيلة كبيرة ناتجة عن معرفة اللغة الأصلية، وتبعًا لذلك فإنه يكون مدركًا لكثير من الخصائص العامة المشتركة بين اللغات جميعها، والتي تساعده على تعلم اللغة الأجنبية، بدلًا من أن تعيق تعلمه إياها.
وعلاوة على هذا أيضًا، فإنهم يرون أن لكل لغة قواعدها التحويلية الخاصة بها، والتي تحول البنية التحتية المتضمنة معنى الجملة إلى البنية الخارجية السطحية بتركيبها الخاص، وأصواتها المميزة، وعلى ذلك فإنه لا مجال لإجراء أية مقارنة، بين القواعد التحويلية الفريدة والخاصة باللغة الأم، وما يقابلها بالنسبة للغة الأجنبية التي يحاول الطالب أن يتعلمها.
وللتحقق من صحة أي من التوجهين قام عدد من الباحثين باختبار عملي، لمعرفة مدى التنبؤ بالصعوبات، التي يواجهها دارس اللغة الأجنبية، ذو الخلفية اللغوية المعروفة، فتوصل بعضهم إلى أنه لا تأثير للغة الأم على الإطلاق على تعلم الطالب للغة الأجنبية، وإن كان هناك فريق آخر رأى أثرًا من اللغة الأصلية في اللغة المتعلمة الأجنبية، يتراوح بين خمسة وعشرين في المائة، يظهر في الأخطاء التي يرتكبها ذلك الطالب، مما يتنبأ به التحليل المقارن ما بين لغتين معينتين.
أما الموقف الثاني الذي حاول أن يكيف التحليل التقابلي مع نظرية تشومسكي التوليدية التحويلية، فقد تبنَّى هذه الفكرة عدد كبير من الباحثين مدة طويلة من الزمن، وحاولوا من خلاله أن يرسموا الإطار العام للطريقة التي يمكن أن يتم بها التحليل اللغوي المقارن في نطاق النظرية اللغوية التوليدية التحويلية.
وقد انطلقوا من توجههم هذا من الإيمان بأن القواعد التحويلية قواعد عامة شاملة تنطبق في الغالب على جميع اللغات.
حيث تقوم بتحويل معنى الجملة من بنيتها التحتية إلى شكلها الخارجي، إلا أن هناك تباينًا في طريقة تطبيقها على اللغات المختلفة، وهنا يأتي دور المقارنة بينها.
وهذا التباين يتمثل في أشكال عديدة؛ فبعض اللغات تطبق قاعدة ما بشكل عام، بينما تحدد اللغة الأخرى إمكانات تطبيقها ومواضعه، كما أن القاعدة يمكن أن تكون إجبارية التطبيق في لغة ما، بينما تكون اختيارية في لغة أخرى.
وهناك أيضًا اختلافات في الترتيب، الذي تطبق بموجبه بعض القواعد في اللغات المختلفة، كما أن مجال تطبيق بعض القواعد التحويلية يمكن أن يكون أكثر اتساعًا في إحدى اللغات منه في لغة أخرى، وهكذا.
ولم يقتصر النقد الذي وُجه إلى هذا التحليل التقابلي على أنصار مدرسة تشومسكي؛ بل شمل عددًا من الباحثين الذين ينتمون إلى مدارس لغوية مختلفة، والذين وجهوا أنواعًا مختلفة من النقد.
من أهمها أن المداخلة من اللغة الأصلية ليست المصدر الوحيد للخطأ في تعلم اللغة الأجنبية، وأن هناك عددًا كبيرًا من الأخطاء، لا يستطيع التحليل اللغوي المقارن أن يتنبأ بها.
ومن النقود الموجهة أيضًا أن نبوءات التحليل اللغوي المقارن غير موثوق بها، ولا يمكن الاعتماد عليها، ومن النقود الموجهة أيضًا عدم توافر المعايير الدقيقة التي يمكن إجراء المقارنة على أساسها.
وخصوصًا بالنظر إلى المناهج المتعددة المختلفة لدراسة وتحليل اللغات، التي ظهرت خلال القرن العشرين.
ومن أهم ما وُجه إلى هذا التحليل التقابلي من نقد هو ما يختص بالتسلسل الهرمي للصعوبات، التي يواجهها دارس اللغة الأجنبية حسب الصيغة الأصلية للرأي الذي يقول: “إن أكثر جوانب اللغة الأجنبية صعوبة على الدارس هي تلك التي تختلف اختلافًا كبيرًا جدًّا عن مقابلاتها في اللغة الأم.
بينما هذه الصعوبات تتضاءل تدريجيًّا كلما قلَّت تلك الاختلافات”.
وهذا ما لم يثبت بالتجريب العملي؛ بل ظهر ما يبدو عكس ذلك أيضًا، مما دعا هؤلاء إلى أن يقلبوا الهرم رأسًا على عقب، وينظروا إلى وجوه الشبه القريبة جدًّا بين لغتين معينتين على أنها أصعب الأمور تعلمًا.
نظرًا إلى أن المتعلم يعتبرها متشابهة تشابهًا كليًّا، فهو لا يعيرها كبير اهتمام، ومن ثم فإنه لا يميز بينها.
أما النقد الأخير الذي وُجه إلى هذا التحليل التقابلي، هو أن هذا التحليل يُعزز طريقة التدريس التي تركز على المدرس، لا على الطالب الذي يجب أن يكون جوهر العملية التعليمية.
على أية حال فإن جهودًا بُذلت في عالمنا العربي مستفيدة من هذا التحليل التقابلي؛ حيث قوبل بين العربية ولغات أخرى كالمالاوية مثلُا في الوقوف على بعض الصعوبات المتصلة بالتذكير والتأنيث، إسهامًا من هؤلاء الباحثين في خدمة العربية، وفي تعلمها لغة ثانية قدر طاقتهم.