Top
Image Alt

أهمية المنهج التاريخي، ووضع المعاجم التاريخية التاريخية.

  /  أهمية المنهج التاريخي، ووضع المعاجم التاريخية التاريخية.

أهمية المنهج التاريخي، ووضع المعاجم التاريخية التاريخية.

إن لهذا المنهج أهمية بالنسبة لعلم اللغة، وبخاصة في الجوانب الدلالية؛ فعن طريقه توضع المعاجم التاريخية التي تسرد تاريخ المفردات، وتوضح ميلاد المفردات الجديدة، أو ميلادَ معانٍ جديدة لمفردات قديمة، كمعجم أكسفورد للغة الإنجليزية، ومعجم اللغة الفرنسية التاريخي.

وإذا كان علم اللغة الوصفيّ يمكن أن يوصف بأنه علم ساكن؛ لأن اللغة فيه توصف بوجه عام بالصورة التي توجد عليها في نقطة زمنية معينة، فإن الأمر يختلف بالنسبة إلى علم اللغة التاريخي؛ إذ يتميز بفاعلية مستمرة؛ فهو يدرس اللغة من خلال تغيراتها المختلفة، وتغيرُ اللغة عبر الزمان والمكان خاصةٌ فطريةٌ في داخل اللغة وفي كل اللغات.

كما أن التغير يحدث في كل الاتجاهات -مستويات صوتية، ومستويات صرفية، ومستويات نحوية، ومستويات مفرداتية-؛ ولكن ليس على مستوًى، ولا طبقًا لنظام معين ثابت.

هذه التغيرات اللغوية تعتمد على مجموعة من العوامل التاريخية، وبينما يمكن دراسة هذه التغيرات دراسة وصفية هي محض تعريف بأشكال التغيرات الحادثة؛ فإنه لا يمكن عزلها عن الأحداث التاريخية التي تصاحب وجودها، إذًا هذه التغيرات الحادثة في الأصوات والمفردات والصرف والنحو والتراكيب، لا يمكن عزلها عن الأحداث التاريخية التي تصاحب وجودها.

ولمَّا كانت الوظيفة الأولى لعلم اللغة الوصفية هي: أن يصف، ولعلم اللغة التاريخي هي: أن يعرض التغيرات اللغوية، كان من الصعب الفصل بين النوعين في مجال التطبيق العملي؛ وذلك لأن كل المصطلحات التي استعملت تحت العنوان الوصفي قابلة كذلك -من الناحية العملية- للاستعمال مع الفرع التاريخي.

فالدراسة الوصفية تعني: دراسة اللغة أو إحدى ظواهرها في حيز زمني محدد، بصرف النظر عن حالة اللغة قبل وصولها إلى تلك الحال المدروسة، وبصرف النظر أيضًا عن حالتها بعدها، كأن ينظر الباحث مثلًا في مدى تخصيص اللغة العربية للعاقل وغير العاقل باسمين موصولين متميزين: “مَنْ” و”مَا”؛ انطلاقًا من النص القرآني الذي يقول الله تعالى فيه: {وَاللَّهُ خَلَقَ كُلَّ دَابَّةٍ مِنْ مَاءٍ فَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلَى بَطْنِهِ وَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلَى رِجْلَيْنِ وَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلَى أَرْبَعٍ يَخْلُقُ اللَّهُ مَا يَشَاءُ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} [النور: 45] وقال الله تعالى: {وَلَا تَنْكِحُوا مَا نَكَحَ آبَاؤُكُمْ مِنَ النِّسَاءِ إِلَّا مَا قَدْ سَلَفَ إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَمَقْتًا وَسَاءَ سَبِيلًا} [النساء: 22]، عندنا في المثال الأول قال تعالى: {وَاللَّهُ خَلَقَ كُلَّ دَابَّةٍ مِنْ مَاءٍ فَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلَى بَطْنِهِ} فالثعبان هو الذي يمشي على بطنه، وهو غير عاقل، و”مَن” خصصت عندنا في فترة زمنية بعدها للعاقل، {وَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلَى رِجْلَيْنِ} الذي يمشي على رجلين هو –مثلًا-  الدجاجة، وهي غير عاقلة، {وَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلَى أَرْبَعٍ} والذي يمشي على أربع هو البهيمة، وهي غير عاقلة، {وَاللَّهُ خَلَقَ كُلَّ دَابَّةٍ مِنْ مَاءٍ فَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلَى بَطْنِهِ وَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلَى رِجْلَيْنِ وَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلَى أَرْبَعٍ يَخْلُقُ اللَّهُ مَا يَشَاءُ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} فـ”مَنْ” كانت في الأصل تطلق على العاقل وغير العاقل، فلم تخصص “من” للعاقل، و”ما” لغير العاقل؛ ولكن كان “من” اسم الموصول بمعنى “الذي، و”ما” كانت تطلق على العاقل وغير العاقل.

وقال علماء اللغة: إن هذا من باب التغليب، وقوله تعالى: {وَلَا تَنْكِحُوا مَا نَكَحَ آبَاؤُكُمْ مِنَ النِّسَاءِ إِلَّا مَا قَدْ سَلَفَ إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَمَقْتًا وَسَاءَ سَبِيلًا} [ النساء: 22] عندنا “ما” هنا لغير العاقل لم يقل “ولا تنكحوا من نكح” إنما هنا {وَلَا تَنْكِحُوا مَا نَكَحَ} “ما” بعد ذلك خصصت لغير العاقل، إنما كان عند ورود النص القرآني للعاقل ولغير العاقل.

ومن أمثلة التفريق بين العاقل وغير العاقل في قوله تعالى: {وَمِنْهُمْ مَنْ يُؤْمِنُ بِهِ وَمِنْهُمْ مَنْ لَا يُؤْمِنُ بِهِ وَرَبُّكَ أَعْلَمُ بِالْمُفْسِدِينَ} [يونس: 40] “من” هنا للعاقل، وقوله تعالى: {مَا عِنْدَكُمْ يَنْفَدُ وَمَا عِنْدَ اللَّهِ بَاقٍ وَلَنَجْزِيَنَّ الَّذِينَ صَبَرُوا أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [النحل: 96] “ما” هنا لغير العاقل، وهو كثير؛ ليُنتهى بعد هذا التفريق إلى أن العربية في ذلك الحيزّ الآنيّ من تاريخها -يعني حيز الوقت الذي نزل فيه القرآن الكريم- كانت لا تفرّق ألبتة بين العاقل فتخصه بـ”من”، وبين غير العاقل فتخصه بـ”ما”، أو أنها كانت تميز بنسبةٍ ما؛ فَيُبْحَثُ عندئذٍ عن تواتر حالات التمييز وعدم التمييز من خلال المصدر الأول من مصادر الاحتجاج اللغوي وهو القرآن الكريم.

 متى مُيز بين العاقل وبين غير العاقل؛ فخص العاقل بـ”من” وغير العاقل بـ”ما”؟

نستطيع أن نتعرف على ذلك من خلال دراستنا للقرآن الكريم، فنقف على الفترة الزمنية التي خصّصت فيها “من” بالعاقل، و”ما” بغير العاقل.

كذلك قد تتناول الدراسة التاريخية ظاهرةً لغويةً ما، عبر تطورها التاريخي؛ بأن يعمد الباحث اللغوي إلى استقراء ظاهرة تمييز العاقل وغير العاقل في العربية منذ كانت لنا وثائق لغوية ونصوص مؤرخة.

وقد كان المنهج التاريخي منتشرًا طيلة القرن التاسع عشر، وكان طاغيًا على المناهج الأخرى، حتى جاء “فرديناند دي سوسير” فأبرز أهمية الدراسة الوصفية للظاهرة اللغوية.

والمنهجان معًا: الوصفي والتاريخي، يرسمان بيانًا بمحورين متقاطعين: أحدهما أفقي، وهذا يمثل الصيرورة الزمنية؛ حيث يكون مجموعة من النقط المتعاقبة، مثلما أن التاريخ مجموعة أزمنة متلاحقة. والآخر عمودي، ويشير إلى الوقوف في محور الزمن على نقطة معينة أو حيز محدد.

error: النص محمي !!