أهمية دراسة التاريخ
إنَّ ما نبذله من وقت وجهد في دراسة التاريخ؛ هل له فائدة عملية فعلية حقيقية تعود على الأمة، وتعود على جماعة المسلمين، وتعود على الدارسين من خلال هذه الدراسة؟ هل نستطيع أن نستخرج من معطيات التاريخ ما نستطيع أن نطلق عليه: أهمية دراسة التاريخ؟
الواقع أنَّ للتاريخ أهمية كبرى عند ما ندرسه ونتعمق فيه، ونستطيع أن نضع أيدينا على مجموعة من النقاط التي تؤكد ذلك:
النقطة الأولى: دراسة التاريخ تمثل وعاءً تربويًّا للأمة، من خلال التعرف على سير الأنبياء والصالحين، والعلماء العاملين والمجاهدين في سبيل الله.
كيف يمكننا أن نتعرف على سير هؤلاء من غير التاريخ ومن غير أحداث التاريخ، ونحن في أمس الحاجة للتعرف على هؤلاء؟:
وعندما نتعرف على سير الصالحين والمصلحين وأعمالهم الحسنة، ينشأ الشاب مسلمًا وقد ملئت نفسه بمحاولة الاقتداء بهؤلاء والأخذ منهم والتشبه بهم، وتكون سيرة غير الصالحين من أهل الجور والفجور مدعاة للنفور من أعمالهم المشينة؛ فيكون النفور أدعى لعدم الاقتداء بهم، وهذه نقطة مهمة أيضًا عندما يرى الشاب المسلم هؤلاء المفسدين في الأرض؛ فإنه من الطبيعي أن يحاول ألا يتمثل بهم.
وهنا تنبيه مهم على عدم التمثل بهؤلاء: سواء في زيهم، أو لبسهم، أو لغتهم، أو عاداتهم وتقاليدهم… إلى آخر كل ذلك، فإذا حفظ لنا التاريخ صور هؤلاء الصالحين؛ فيمكننا أن نتشبه بالصالحين؛ وإذا حفظ لنا التاريخ صور هؤلاء المفسدين الظالمين؛ أيضًا نستطيع أن نتبرأ منهم وألا نتشبه بهم وألا نقلدهم في حياتنا.
النقطة الثانية: دراسة سيرة المصطفى صلى الله عليه وسلم وسيرة أصحابه.
كيف يمكننا أن ندرس هذه السيرة وأن نتعلم ما فيها من حقائق ناصعة، ومن معطيات كاملة متكاملة بدون دراسة التاريخ؛ فالسيرة وعاءٌ حيٌّ يجب على الأمة أن تستوعبه، وأن تلتزم به، وأن تنتهجه في حياتها.
فأفاد التاريخ في نقل مغازي الرسول صلى الله عليه وسلم وما فيها من صور بطولية وجهاد ديني في سبيل نشر العقيدة الإسلامية والدفاع عنها؛ فكان ذلك بمثابة المعين والقدوة التي سار على نهجها أبطال المسلمين إبان قوتهم ومجدهم، وكذلك زعماء وأبطال المقاومة ضد كل طامع وضد كل مستعمر، ما كان ليكون هذا إلا من خلال التاريخ وحقائق التاريخ.
وأريد أن أعلق تعليقًا سريعًا على: أنَّ الغرب الأوربي حاولوا أن يشوهوا غزوات رسول الله صلى الله عليه وسلم ومعاركه، وكلنا نعلم القضية الشهيرة التي تقول: إنَّ الإسلام انتشر بالسيف وخلافه… ما كان لنا أن نرد على هذه الاتهامات الباطلة إلا من خلال التاريخ وأحداث التاريخ وكتابات التاريخ؛ فهذه نقاط مهمة تبين إلى أي مدى فائدة هذا العلم الجليل.
كذلك سير الخلفاء الراشدين المهديين من بعده صلى الله عليه وسلم، وكلنا لا ينسى مقولة رسول الله صلى الله عليه وسلم عندما قال: ((عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين من بعدي)) كيف نستطيع أن نتطلع إلى هذه السنن وأن نتعرف عليها وأن نأخذ منها ومن مشكاتها، دون أن تكون قد سجلت في وعاء تاريخي نأخذ منه، ونتعلم منه؟! بالطبع واضح تمام الوضوح أهمية دراسة التاريخ للتعرف على مثل هذه النقاط.
بل إنَّ الأمر لا يتوقف عند هذه النقاط؛ بل يتعدى سيرة الحبيب صلى الله عليه وسلم وسيرة الخلفاء الراشدين المهديين من بعده؛ ليصل إلى صحابة رسول الله؛ فهم كالنجوم الباهرة، علينا أن نستضيء بها وأن نأخذ منها، وأن نتعلم ما فيها من مواقف بطولية، ومن تضحية بالنفس، وفداء وجهاد، ومن رفع لرايات الإسلام في كل مكان وفي كل حين، هذا لن يكون أيضًا إلا بدراسة سير هؤلاء الصحابة }.
بل إني أضيف إلى ما سبق: سير التابعين، وفيهم من فيهم ممن بذلوا جهودًا عظيمة في سبيل الدعوة، وفي سبيل الدين، وفي سبيل نشره، وفي سبيل رفع راياته؛ فكل هؤلاء أيضًا وعاهم التاريخ في بوتقته، وما علينا إلا أن نفتح التاريخ؛ لنستخرج منه هذه العظات وهذه العبر وهذه السير العظيمة من خلال هؤلاء.
وبناء على ذلك نقول: إنَّ تعرف النشء المسلم والشباب المسلم على هذه الموضوعات إذا أُحسن عرضها -وهذه نقطة مهمة، وأُبرزت خصائصها ووُضِّح الدور الذي قامت به الأمة الإسلامية في سبيل هداية البشرية إلى الحق، فإنَّ في ذلك مدعاة لأن يقوم شباب الإسلام بواجبهم.
وأقول: إنَّ قيام شباب الإسلام بواجبهم سيكون في عدة أطر: منها: ذلك الواجب نحو أنفسهم ودينهم وأوطانهم، كذلك من بين هذه الواجبات قيامهم بنصرة ذلك الدين، بنصرة سيدي رسول الله صلى الله عليه وسلم في هذه اللحظة سوف تمتلئ روحهم بروح الفداء والولاء لذلك الدين العظيم.
النقطة الثالثة: موضوع التوحيد:
سوف يتبين من دراسة التاريخ أنَّ الأصل في الوجود الإنساني على ظهر هذه الأرض هو التوحيد، وليس الكفر، كما يريد أن يذهب بذلك بعض علماء الغرب وبعض المحدثين؛ يريدون أن يقولوا: إنَّ الأصل في هذا الوجود هو الشرك -والعياذ بالله- وأنَّ التوحيد طارئ عليه، وهذا من أكبر صور التضليل التي يريدون أن يأخذونا إليها.
فالأصل في هذا الخلق وهذه الخليقة هو التوحيد كما ذكر الله تعالى، وكما بينت سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:((ما من مولود إلا يولد على الفطرة))؛ فالفطرة التي يقصدها رسول الله صلى الله عليه وسلم هي فطرة الإسلام التي فطر الله الناس عليها؛ ومن ثم فإن الأصل هو التوحيد أما الذي طرأ هو الشرك…
كيف نؤكد هذه المعاني؟
لن يكون هذا إلا بالتاريخ وبدراسة التاريخ، وبفتح كل الوثائق القديمة التي يمكن أن نعود إليها؛ لنتأكد من هذه المعاني العظيمة.
نضيف إلى هذه النقاط التي ذكرناها في أهمية دراسة التاريخ:
النقطة الرابعة: إدراك السنن الربانية:
وهذا موضوع كبير وتدور حوله مسائل كثيرة عظيمة، ليتنا نستطيع أن نتوقف عندها لنتعلم منها ونأخذ منها.
إنَّ أمر السنن هذا، له علاقة بعمر الإنسان؛ فعمر الإنسان عادة قصير، لا يستطيع أن يستوعب ويستكمل فيه السنن التي وضعها الله سبحانه وتعالى في خلقه؛ فقد يعتقد واحد من البشر أن الظلم ماضٍ وأن الحق مقتول وأن الخير لا وجود له خلافًا للسنن الربانية التي تعلمنا أن النصرة تكون للحق، وتكون لأنبياء الله، وتكون لرسله، وتكون لمن ساروا على نهجهم، وأنَّ الباطل لا بد أن يزول.
إنَّ عمر الإنسان قد لا يفي بأن يعرف أو أن يصل إلى هذه الحقيقة؛ لأنه قد يمر عمره دون أن ينتصر الحق في حياته ودون أن يرى الباطل وقد انهزم وانخذل وانكسر؛ فكيف تتأكد لديه هذه المعاني؟
لن تتأكد لديه هذه المعاني إلا باطلاعه على أحداث التاريخ، وبمعرفته بأحداث التاريخ؛ فإذا فتح سجلات التاريخ وقرأها سوف يتبين له عن كثب وبوضوح رؤية أن الحق منصور وأنَّ الباطل مهزوم، وأنَّ سنة الله في هذا ماضية وجارية وقد تستغرق وقتًا، قد تطول ولكن الأمور بنهاياتها، ونهاياتها تكون بنصرة الحق وبرفع راياته، وبزهق الباطل وذله وهزيمته.
فالسنة تحتاج إلى أجيال كي تتحقق؛ فيكون التاريخ هو المرآة الحقيقية للإنسان؛ كي يعيَ ويعلم موضوع هذه السنن وضرورة تحقيقها.
ومن ثمَّ أريد أن أعرض لبعض هذه السنن، التي لا يمكن أن نعرفها إلا من خلال التاريخ وأحداثه:
- من السنن “قضية: سوء عاقبة المكذبين”: وذلك بالنظر إلى تلك الأقوام التي كذبت قبلنا، وقد ذكرها لنا القرآن: قوم عاد وقوم ثمود وقوم صالح وقوم فرعون… كل هؤلاء كذبوا وتمادوا ورفضوا هداية ربهم ورفضوا دعوات رسولهم، أقول: إنَّ سوء عاقبة المكذبين لم نكن نعرفه إلا من خلال الأحداث التي يذكرها لنا التاريخ، والتي سجلها القرآن في سطور من نور.
فأقول: إنَّ سنة الله فيهم نعرفها من خلال هذه الأحداث ونعرف أنَّ هذا الحكم سيكون، وكما كان فيهم سيكون في غيرهم مما تحملوا بفكرة سوء عاقبة المكذبين.
- من السنن: البشر يتحملون مسئوليتهم في الرقي والانحطاط: ولنا في هذا قول جليل من أقوال الحق -تبارك وتعالى- يقول تعالى: {إِنَّ اللّهَ لاَ يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُواْ مَا بِأَنْفُسِهِمْ } [الرعد: 11]؛ فلا بد وأن يبدأ التغيير من البشر؛ حتى يمن الله عليهم بتغيير أحوالهم وأوضاعهم من السيئ إلى الأحسن.
- من السنن: مداولة الأيام بين الناس: يكون هذا بالتبدل من الرخاء إلى الشدة والعكس، حتى يتميز الصابرون والشاكرون في الرخاء، ويعرف أيضًا من لم يستطيعوا الصبر على الشدة، ومن لم يتجملوا بالصبر في أوقات الشدة.
من السنن: زوال الأمم يكون بالترف والفساد: وهذه أمر مهم أيضًا عرضه الحق تبارك وتعالى في قوله: {أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِعَاد * إِرَمَ ذَاتِ الْعِمَاد * الَّتِي لَمْ يُخْلَقْ مِثْلُهَا فِي الْبِلاَد * وَثَمُودَ الَّذِينَ جَابُوا الصَّخْرَ بِالْوَاد * وَفِرْعَوْنَ ذِي الأَوْتَاد * الَّذِينَ طَغَوْا فِي الْبِلاَد * فَأَكْثَرُوا فِيهَا الْفَسَاد * فَصَبَّ عَلَيْهِمْ رَبُّكَ سَوْطَ عَذَاب * إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصَاد} [الفجر: 6- 14].
مثل هذه الأفكار يمكن أن نتعلمها، ونتعرف عليها من خلال تعرفنا على السنن الربانية من خلال أحداث التاريخ، وها هو القرآن يذكرها لنا في آيات من نور.
- من السنن: انهيار الأمم وزوالها يكون بأجل: يعني: لا يكون هذا الأمر إلا بأجل معلوم ومعدود؛ قد ينظر الناس إلى دولة من تلك الدول، التي تمارس الإرهاب وتمارس البطش وتمارس إذلال الآخرين ومجتمعاتهم، ويقول: أين وعد الله وأين سنة الله بزوال هؤلاء…؟
هؤلاء لم يستطيعوا أن يتوقفوا عند آيات من قرآن رب العالمين عندما قال: {وَلِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌ} [الأعراف: 34] لو تمعنوا في هذه الآيات لعرفوا أن انهيار الأمم وزوال الأمم يكون بأجل معدود ومعروف، قدَّره الله تبارك وتعالى ووضع أسسه وحساباته وهذه الأمور بعيدة عن معرفة البشر وبعيدة عن تصوراته، ولكن لله حكمه عندما يأتي سيكون، وهذه قضية مسلمة؛ يقول تعالى: {وَلِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌ فَإِذَا جَاء أَجَلُهُمْ لاَ يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلاَ يَسْتَقْدِمُون} [الأعراف: 34]، ويقول تعالى أيضًا في كتابه الكريم: {وَجَعَلْنَا لِمَهْلِكِهِم مَّوْعِدًا} [الكهف: 59].
- من السنن: استحقاق المؤمنين للنصر: وهنا لنا موقف: أن هذا الاستحقاق لا يكون إلا إذا قاموا بشروط استحقاق هذا النصر، نعم وعد رب العالمين المؤمنين بالنصر، ولكن وعده كان مرتبطًا بالقيام بهذه الشروط حتى يستحقوا هذا النصر، يقول تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِن تَنصُرُوا اللَّهَ يَنصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُم} [محمد: 7] هكذا ربط الحق تبارك وتعالى بين وعده بالنصر وبين قيام المؤمنين هم أولًا بأنفسهم بنصرة الله، ونصرة دينه ونصرة كتابه؛ فإذا ما حققوا هذه الشروط استحق المؤمنون ذلك النصر الذي وعدهم به رب العالمين.
- من السنن: الابتلاء للمؤمنين: وهذا أمر واضح؛ قال تعالى: {وَلِيُمَحِّصَ اللّهُ الَّذِينَ آمَنُواْ وَيَمْحَقَ الْكَافِرِين} [آل عمران: 141].
ما يحدث للمؤمنين هو صور من صور الابتلاء؛ ليُتَعرَّف على مدى صبرهم ومدى تحملهم ومدى توكلهم على رب العالمين.
- من السنن: التدافع أو الصراع بين الحق والباطل: وهذا الصراع دائمٌ ومستمر، ولا ينتهي من معركة واحدة ولا حتى من عشرات المعارك، قد يظن ظانٌّ أن هذا الصراع لا بد أن يتوقف وأن ينتهي عند معركة واحدة أو اثنتين أو ثلاث، وهذا فكر خاطئ؛ الصراع بين الحق والباطل دائم ومستمر ولن يتوقف؛ هذه هي سنة الله في أرضه؛ سنة التدافع أو الصراع بين الحق والباطل.
وأريد أن أذكر بالحركة الصليبية؛ من يدرس الحركة الصليبية يعتقد أنها توقفت عندما تم تحرير بلاد العالم الإسلامي؛ ولكننا نستطيع أن نقول: إننا رأينا صور أخرى لمثل هذه الحركات في عصورنا الحديثة؛ حتى وصل بنا الحال اليوم لعودة الاحتلال المسلح بالقوات العسكرية.
وشاهدنا أيضًا ونشاهد صورًا من صور الصراع الثقافي، محاولة الاستحواذ الثقافي والحضاري، كإحدى صور التدافع بين الحق والباطل؛ ولكن وصل الأمر بهؤلاء الذين ابتلينا بهم أنهم عادوا مرة أخرى لفكرة الاحتلال المسلح والعسكري، وهذا أيضًا من منطلق سنة التدافع والصراع بين الحق والباطل.
إن هذا الصراع يتخذ عدة أشكال ويمتد في مساحات طويلة ومتعددة في الزمان والمكان… هذه هي الحقيقة؛ يقول تعالى: {الَّذِينَ آمَنُواْ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللّهِ وَالَّذِينَ كَفَرُواْ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ الطَّاغُوتِ فَقَاتِلُواْ أَوْلِيَاء الشَّيْطَانِ إِنَّ كَيْدَ الشَّيْطَانِ كَانَ ضَعِيفًا} [النساء: 76].
النقطة الخامسة: التعرف على معالم تاريخ الإنسانية:
كيف يمكننا أن نتعرف على معالم تاريخ الإنسانية دون الدراسات التاريخية؟ كيف نتعرف على نشأة الدول وانهيار هذه الدول وقوتها وضعفها ومجدها… إلى آخر كل ذلك؟ كيف بدأت هذه الدول؟ كيف تطورت؟ ما أهم المعالم التي مرت بها؟ ما الصور الحضارية التي أسهمت فيها؟ كل هذه الأمور لا يمكن أن نتعلمها أو نعرفها إلا من خلال الدراسات التاريخية، ومن ثمَّ فللتاريخ فائدته في هذا المجال.
النقطة السادسة: القيمة النفعية بالتعرف على تجارب البشر والأمم، واستفادة الملوك وأولي الأمر بهذه السير
فهم يقرءون هذه السير ويتعرفون عليها؛ حتى يستطيعوا بعد ذلك أن يستفيدوا منها ويأخذوا ما فيها من عبر وتجارب وعظات وينفذوا شيئًا منها من خلال حياتهم، ومن خلال تجاربهم والمواقف التي يتعرضون لها.
وأذكر في هذا المجال أنَّ الخليفة معاوية بن أبي سفيان -وهو أول خلفاء بني أمية- كان يأتي بتلك الكتب ويقرؤها -الكتب التي فيها أشياء من روايات التاريخ، وإن لم يحصل على شيء منها أُتِيَ له بمن يروون أحداث التاريخ؛ حتى يسمعهم بنفسه ويسألهم ويتعرف منهم على هذه الأحداث: كيف وقعت؟ وكيف يستفيد منها؟ فيأخذ منها؛ ليستطيع أن يصرف أمور حياته وأمور حكمه… وهكذا.
النقطة السابعة: الحصانة الفكرية:
وهذه نقطة مهمة؛ وهي موضوع الحصانة الفكرية من واقع الدراسات التاريخية: إنَّ هذه الحصانة تفيدنا ضد الخرافات والبدع والأساطير والمنكرات، وذلك بما يعرفه دارس التاريخ من طبائع وحقائق الأمور؛ فلا تنطلي عليه الحيل.
ويذكر في هذا المجال: ما ذكره ابن تيمية حول المشاهد والآثار والقبور، وكيف أن الناس أحدثوا هذه الإحداثات، وكيف أوجدوا هذه القباب، وكيف بدءوا يتبركون بالموتى ويذهبون إليهم وينذرون لهم وينامون عندهم… إلى آخر كل ذلك؛ فقد استخدم ابن تيمية ذلك الفكر التاريخي.
وقال: هل ذكر التاريخ شيئًا من ذلك في أحداث رسول الله صلى الله عليه وسلم أو أحداث صحابته أو التابعين؟! لم نعرف في تاريخه صلى الله عليه وسلم وتاريخ صحابته المطهرين المبرئين شيئًا من مثل هذه المنكرات والبدع والأساطير.
فكيف حكمنا؟
التاريخ ذكر لنا صراحةً أنَّ شيئًا من ذلك لم يحدث، فلا توجد رواية واحدة تقول: إن فلانًا بنيت له قبة، أو بني عليه مسجد، أو كانت الناس تذهب إليه لتتبرك به أو تزوره أو تطلب منه… إلى آخر كل هذا…
كيف استشهدنا؟
من أحداث التاريخ ومن وقائع التاريخ؛ من ثمَّ تظهر فائدة التاريخ في إنكار البدع والمنكرات والأساطير والخرافات والخزعبلات، التي يمكن أن تنطلي على كثير من الناس.
النقطة الثامنة: الفضائل الأخلاقية:
وهي كثيرة تتمثل في حفظ الحقائق وإظهارها، ومن ثم فالتاريخ ينصف رجالًا ظُلِمُوا وشُوِّهُوا.
كما أنَّ التاريخ يكشف النقاب عن الخونة والمنحرفين: سواء كانوا سياسيين أو عقائديين أو غير ذلك… لطالما سمعنا ورأينا أناسًا كم فتحت لهم أماكن، وكم رفعت لهم رايات، وكم كانوا ملء السمع والبصر، وعندما أهيل عليهم التراب وخرجت وثائقهم إلى النور عرفنا حقائقهم.
وعرفنا كيف كانت تصرفاتهم وأنها ليست فوق مستوى الشبهات، هذا لم يكن إلا عن طريق التاريخ، وأحداث التاريخ، وسجلات التاريخ، وحقائق التاريخ.
وكذلك كم ظلم آخرون وكم شوهت سيرهم، وكم أهلنا عليهم التراب في حياتهم وجرحناهم بكل صور التجريح.
ولكن بعد وفاتهم بفترة، استطاع التاريخ أن ينصفهم وأن تخرج الوثائق والحقائق التي تتحدث عنهم، ويكتب تاريخهم بصورة جديدة حتى ينصفوا وحتى يرجع لهم الفضل.
وحتى يذكر لهم كل الفضل الذي أراد آخرون أن يزيلوه عنهم وأن يرفعوه عنهم.
النقطة التاسعة: المساعدة على فهم الحاضر؛ وذلك إذا تماثلت الظروف وتشابهت الوقائع:
إذا تماثلت الظروف وتشابهت الوقائع؛ فإنها في الغالب سوف تعطي نفس النتائج؛ لكن هنا أقول: إنَّ علم التاريخ ليس علمًا عمليًّا تجريبيًّا ففي علوم الكيمياء مثلًا إذا وضعنا مادة كذا فوق مادة كذا، سوف تخرج لنا مادة كذا، هذه طبائع الأشياء في العلوم التجريبية والعملية التطبيقية، لكن في التاريخ ليس بشرط أن نصل إلى نفس هذه الحقائق بنفس هذه الصورة؛ فالتاريخ ليس علمًا من العلوم التطبيقية التجريبية، ولكن أقول: إذا تماثلت الظروف وتشابهت الوقائع؛ فإننا في الغالب سوف نحصل على نفس النتائج.
والعرب لهم في ذلك مقولة معروفة وهي قولهم: “ما أشبه الليلة بالبارحة”. والإنجليز يقولون: “إن التاريخ يعيد نفسه”. وغيرهم يقول: “لا جديد تحت الشمس”. كلها مقولات تؤكد على هذا النوع.
النقطة العاشرة: نقل كل ألوان المعارف والعلوم السابقة:
إنَّ التاريخ وعاء كبير ينقل لنا كل ألوان المعارف والعلوم السابقة: من علوم دنيوية، وعلوم دينية: العلوم الدنيوية مثل: علوم الطبيعة، الكيمياء، الرياضيات، الطب، الصيدلة… إلى آخر كل هذا، كذلك العلوم الدينية من فقه، وحديث، وتفسير إلى آخر كل تلك العلوم، ولا يخفى أن هذه نقطة جوهرية.
أذكر بأنَّ الحضارة الغربية حاولت أن تطمس تاريخنا، وأن تضيع كل معالم التاريخ التي بذل فيها العلماء المسلمون الكثير من الجهد والوقت، حاولت الحضارة الغربية أن تنكر كل ما بذله علماء الإسلام في مجال العلوم التطبيقية والعملية، ولكننا من خلال التاريخ، ومن خلال حفظ ما كتبه هؤلاء العلماء الأعلام الأفذاذ، استطعنا أن نستخرج هذه العلوم، وأن نرد عليهم، وأن نعيد لحضارة الإسلام ولتاريخ الإسلام مجده بالحديث عن تلك المعطيات، وذلك الجهد الذي بذلوه هؤلاء العلماء في العلوم العملية والتطبيقية والتجريبية.
الغرب الأوربي تعرف على النتاج العلمي لعلماء المسلمين وترجمه وبني عليه بعد ذلك حضارته الغربية الأوربية العظيمة، التي نراها اليوم والتي نشير لها بالبنان؛ وما ذلك إلا بعد أن أطلع هؤلاء العلماء على تاريخ المسلمين وحضارتهم، فأخذوه وترجموه وأضافوا إليه وبنَوا هذه الحضارة.
ومن المهم أن أشير إلى أنَّ علماء الغرب الأوربي عندما أخذوا حضارة الإسلام، لم يشيروا إلى جهد المسلمين فيها إطلاقًا؛ بل نسبوه إلى أنفسهم، وهذا فارق كبير: ذلك أنَّ علماء الإسلام وعلماء المسلمين عندما بدءوا نهضتهم منذ النصف الثاني من القرن الأول الهجري على يد الأمير: خالد بن يزيد بن معاوية، نسبوا هذه العلوم والتجارب إلى أصحابها، وذكروا صراحة تلك الكتب التي ترجموها، وما الذي أخذوه عنها، وما الذي أضافوه إليها، ولم يتنكروا لجهد الآخرين إطلاقًا، سواء كان هذا الجهد لعلماء من اليونان، أو من الفرس، أو من الهنود، أو من المصريين القدماء… إلى آخر كل ذلك، وهذا فرق كبير في تلك الأخلاقيات العظيمة التي يجب أن يتحلى بها المسلم عندما يكتب كتاباته، وعندما يطلع على نتاج الآخرين.
النقطة الحادية عشرة: تخليد أسماء رواد هذه العلوم ومن أبدعوا في كل علم وفن:
فكان التاريخ بذلك حافزًا ودافعًا للكثيرين أن ينتهجوا المنهج نفسه، وتظهر بينهم المنافسة للحاق بركاب الأولين:
ولي في هذه النقطة إشارة مهمة جدًّا: من يطلع على حضارة الإسلام وتاريخ الإسلام سوف يتضح له أن المسلمين احتفظوا بتراث من كتبوا في حضارتهم؛ حتى وإن لم يكن على دينهم، وجدنا كتابات قوية لعلماء غير مسلمين، ولكن المسلمين لم يتنكروا لها؛ حافظوا عليها، واطلعوا عليها، وقرءوها، وهذه المؤلفات ما زالت موجودة: كتب لإسحاق بن حنين بن إسحاق، كتب لابن التنير، وكتب لكثيرين غيرهم ممن هم ليسوا مسلمين.
ولكن أسهموا بنتاج في الحضارة الإسلامية، حافظت تلك الحضارة، وحافظ علماء الحضارة على نتاج هؤلاء، ولم يتعصبوا ضده ولم يتخلصوا منه، أو يحرقوه أو يدفنوه؛ بل على العكس حافظوا عليه وأبقوه واطلعوا عليه، وما زال هذا النتاج إلى اليوم باقيًا. ونستطيع أن نقول: إنَّه لم يكن ليبقى لولا التاريخ.
النقطة الثانية عشرة: حفظ أحاديث النبي صلى الله عليه وسلم من التحريف:
عمل التاريخ على حفظ أحاديث النبي صلى الله عليه وسلم من التحريف؛ حيث عمد رجال مصطلح الحديث والمؤرخون إلى التأريخ للمحدثين بدقة متناهية فيما عرف بتراجم الرجال وكذلك النساء، ووضعهم تحت مجهر التجريح والتعديل، ومن وجدوا في تاريخه بعض الهنات يخشى منها على أحاديث رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يتم استبعاده فورًا وتجريحه، ولكن كيف تم هذا؟
لم يكن ليتم ذلك إلا عن طريق التاريخ وحقائق التاريخ وسجلات التاريخ، وهو ما عمد إليه من كتبوا حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم قديمًا؛ فقامت علوم الجرح والتعديل عن طريق التعرف على هذه الشخصيات والكتابة عنها بما يتضمن جرحًا أو تعديلًا.
النقطة الثالثة عشرة: حل كثير من المشكلات بين الدول:
بين تلك الفوائد التي يمكن أن تعود علينا من خلال دراسة التاريخ: حل كثير من المشكلات بين الدول؛ ولا سيما مشكلات العلاقات الدولية بما أبرمته هذه الدول في السابق من معاهدات واتفاقيات نقلها لنا التاريخ.
وعلى رأس هذه المشكلات التي يمكن أن تصادفنا: مشكلات الحدود التي تطرأ فجأة على العلاقات السياسية الدولية؛ فيلجأ الجميع إلى التاريخ بحثًا عن أدلة وبراهين تثبت تبعية هذه المنطقة أو تلك، لأيٍّ من الدول المتصارعة عليها، ولا وسيلة أمامهم سوى الدراسة والبحث في أضابير التاريخ عن وثيقة رسمية، أو معاهدة، أو اتفاقية، أو حتى خرائط كانت مرسومة في ذلك الوقت لتوضيح المسافات والمساحات بين الدول، ومناطق الحدود كيف تكون بالضبط.
ومن خلال الوثائق المتعلقة بسير القبائل وتحركاتها في مناطق الحدود، وكذلك تفرعاتها إلى آخر كل ذلك.
كل هذه الأشياء تكون معينة، ويعتد بها في دراسة هذه المشكلة، وفي حلها.
ونذكر أنه كانت توجد مشكلة بين مصر وإسرائيل، استطاع علماء التاريخ أن يوجدوا حلًّا لها عندما لجأت مصر للتحكيم الدولي في قضية “طابا”، فلم يكن هناك من حل سوى الوصول إلى الاتفاقيات والمعاهدات وصور الخرائط القديمة، واستطعنا أن نستخدم كل هذه الإمكانات في إثبات حقنا في تلك المنطقة العزيزة علينا.
وكان للتاريخ وعلماء التاريخ ووثائق التاريخ الفضل كل الفضل في أن يحكم لمصر في مثل هذه القضية، وما كان ذلك لولا فائدة علم التاريخ.
النقطة الرابعة عشرة: حفظ الممتلكات للأفراد والمجتمعات:
ولا سيما بعد مرور سنوات وربما قرون على الملكية، في هذه الحالة يدلي التاريخ بدلوه في عملية المساعدة في إثبات الملكية حين يكون التنازل عليها بين أطراف شتى، وكلنا اعتقد أنَّه يمكن أن نكون قد عدنا إلى تلك الوثائق المحفوظة في دور الوثائق أو في دور الأرشيف أو في محفوظات القلعة، أو غير ذلك لنثبت حقًّا لنا، عليه صورة من صور التنازع، ويحتاج القضاء والحكم فيه إلى مثل هذه الوثائق؛ للاستعانة بها والحكم بها في مثل هذه القضايا.
النقطة الخامسة عشرة: الحفاظ على الأنساب التي يترتب عليها صلة الأرحام:
المدارس التي نشأت سواء في المدينة أو في البصرة والكوفة، والتي عنيت بالدراسات التاريخية سوف نجد أنَّ بعض هذه المدارس كان جل اهتمامها يتركز على موضوع الأنساب، وحفظ هذه الأنساب والاعتداد بها.
فحفظ الأنساب ودراسة التاريخ من أعمال أو من فوائد التاريخ، وهنا أذكر بأنَّ هذه الدراسة يجب أن تكون في إطار شرعي، وأقول: إنَّه يترتب على هذه صلة الأرحام، وما يلحق بذلك من ميراث وحقوق تحفظ من التبديل والضياع.
وطبعًا لا يخفى أن موضوع صلة الأرحام من الأمور التي حث عليها الإسلام، ودعا إليها الإسلام؛ فهذا الأمر يكون في إطار شرعي.
كل هذه الصور التي تعرضنا لها تعد صورًا واضحةً في موضوع فوائد علم التاريخ، وما يعود علينا من دراسة التاريخ، نرجو أن توجه النيات لله سبحانه وتعالى في هذه الدراسات حتى نستفيد ونفيد، وتكون في إطار شرعي -بإذن الله وقوته.