أهمية علوم اللغة في معالجة القضايا الإنسانية
للغة -سواء كانت منطوقة، أو مكتوبة- أهمية كبرى في حياة الإنسان، وتعد الوعاء الخطير لحضارته وثقافته، تأمل فكر الإنسان وعلاقاته الاجتماعية؛ لترى فيها خير دليل على صحة ما نقول، فموضوع اللغة والفكر –مثلًا- تناوله كثير من العلماء في القديم، وخاصة المناطقة، والفلاسفة، كما تناوله الكثير من المحدثين، ولما يفرغ من الخوض فيه إلى الآن، وقد اتفق الجميع على أن اللغة ليست مجرد أصوات مجموعة، أو حروف مكتوبة، وإنما هي أداه لحمل الأفكار، وقالب لها، ووسيلة لنقلها إلى العقول والأذهان الأخرى عبر المسافات الزمانية والمكانية، فتنشأ بذلك جوانب المعرفة الإنسانية المختلفة، وتأخذ سبيلها في التقدم والرقي محققة للإنسان كل ما تصبو إليه نفسه من أمنيات وآمال، من هنا ترتبط اللغة بالفكر ويرتبط بها، فكل منهما يؤثر في الآخر، ويتأثر به، ولا نستطيع التكلم بما لا نقدر على التفكر فيه، ولا نستطيع أن نفكر بعيدًا عن قدرتنا اللغوية، وليس بعجيب أن يشبه العالم السويسري “دوسو سير”، الفكرة والصوت بصحيفة من الورق، الفكرة وجه الورقة، والصوت خلفيتها؛ لذا لا يستطيع المرء فصل الصوت عن الفكرة، ولا الفكرة عن الصوت، ولا تزال العلاقة بين اللغة والفكر هي شغل العلماء في المدارس اللغوية، والفلسفية، والنفسية، والاجتماعية.
وتأمل اللغة والاجتماع الإنساني، إذا كانت المشاركة الوجدانية والاستهواء، أو تقبل المرء أفكار غيره وتقليده لهم من أهم الغرائز، أو النزعات الفطرية التي لا تحقق الانسجام الكامل الشامل، إلا مع اللغة التي هي أقوى رباط بين أفراد المجتمع، فقد مكنت اللغة الإنسان من تكوين أسر، وكيانات بشرية، ومجتمعات إنسانية، وكانت، ولا تزال العامل الأساسي في ظهور الصِّلات الاجتماعية بين البشر؛ بل العامل الأساسي في المحافظة على المجتمع ذاته.
وانظر في أي جانب من جوانب الاجتماع في حياة الإنسان تجد أثر اللغة أوضح ما يكون، سواء كانت تلك الجوانب متصلة بالثقافة، أو بالدين، أو بالسياسة والقوميات، أو المعاملات التجارية والاقتصادية وغيرها، فالثقافة في أشهر تعريفاتها: هي ذلك المركب الكلي الذي يشتمل على المعرفة، والمعتقد، والفن، والأدب، والأخلاق، والقانون، والعرف، والقدرات، والعادات الأخرى التي يكتسبها الإنسان بوصف كونه عضوًا في المجتمع، أي: هي حصيلة النشاط البشري، وإذا كانت الثقافة بهذا المعنى، فإن اللغة تؤثر في ثقافة المجتمع، وثقافة المجتمع تؤثر في لغته، فهناك ارتباط ضروري بينهما، ويتوقف مدى التغير اللغوي على مدى التغير الثقافي، وبناءً على هذا، فإن اللغة تعكس مدى ثقافة المجتمع، وتعد بذلك أثرًا من آثار عقليته وتدل عليه، ولقد ذهب بعض العلماء إلى أبعد من هذا، فرأوا أن اللغة هي التي تحدد ثقافة الفرد وتشكل أفكاره، وتقيد تفكيره، وتحدد سلوكه، وتملي عليه أسلوب حياته، وتجعله يتصرف، ويفكر بطريقة خاصة، وقد آمن بهذا نفر من اللغويين، وعلماء الاجتماع، وعلى رأسهم العالم الأمريكي “إدوارد سابير”، وتلميذه “بنيامين وورث”،
وبالنسبة للغة والدين، هل ترى دينًا قائمًا دون لغة تنشر دعوته وتعاليمه بين أفراد المجتمع؟ لقد ألمح القرآن الكريم إلى أهمية ارتباط اللغة بالدين، في قوله تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِن رَّسُولٍ إِلاَّ بِلِسَانِ قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ} [إبراهيم: 4]، وفي قوله تعالى: {وَإِنَّهُ لَتَنزِيلُ رَبِّ الْعَالَمِين * نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الأَمِين * عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنذِرِين * بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُّبِين} [الشعراء: 192-195]، ولا يخفى عليك ارتباط العربية بالإسلام، وكتاب العربية الأكبر، وهو القرآن الكريم، هو دستور الإسلام الأول، ولا يمكن الوصول إلى حقائق الإسلام، والكشف عن أسرار البيان القرآني في التعبير النبوي، دون التمكن من لغة العروبة، وأحباب الإسلام وأعداؤه يدركون ذلك، من هنا أتت ولا تزال محاولات الأعداء في الشرق والغرب لإضعاف لغة العروبة، والقضاء عليها على نحو ما فعله الإنجليز في مصر، والفرنسيون في بلاد المغرب العربي، والروس في الأقاليم الإسلامية، ولعل إدراك أحباب الإسلام اليوم يثمر أثرًا معاكسًا في رد هذه المحاولات الظالمة المحطمة، وها نحن نرى “إسرائيل” المغتصبة، تحاول إحياء دينها اليهودي الزائف، عن طريق إحياء لغتها العبرية الميتة.
أما اللغة وارتباطها بالسياسة والقومية، فإننا نراها تؤدي أدوارًا هامة على مستوى الحكم والسياسة، وما يتصل بذلك من مبادئ القومية والوطنية، ولعلنا ندرك أهمية اللغة لساسة الدول وقادتها، وكيف يستغلونها في الدعاية وتجميع القوى نحو هدف واحد وميول واحدة؛ ولأجل هذا وغيره، كانت الإذاعات الموجهة في داخل الدول وخارجها، وما يتبع ذلك من تغيرات معنوية وحروب نفسية، وإذا كانت القومية في دلالاتها المجردة: هي تلك الرابطة الوثيقة التي تقوم بين جماعة من الناس، وتوحد بين أفكارهم وأحاسيسهم، وتميزهم عن غيرهم، فإن هذه الرابطة تتمثل في اللغة وما يدور بعقلهم، فاللغة هي القومية، والقومية هي اللغة، فلقد توحدت دول في القرن العشرين الميلادي بفضل وحدة اللغة، واستقلت أخرى للسبب نفسه، ولست في حاجة إلى تفصيل القول في توحد “ألمانيا”، بعد إن كانت مجزَّأة إلى دويلات كثيرة، وكذا الحال بالنسبة إلى “إيطاليا”، و”بولندا”، واستقلت “اليونان”، و”بلغاريا”، و”رومانيا”، و”ألبانيا”، و”يوغسلافيا”، و”المجَر”، و”تشيكوسلوفاكيا”.
وأهم المعوقات التي تحول بين وحدة كاملة بين بعض الدول، هو اختلاف اللغة، وهو السبب نفسه الذي يعوق الانسجام التام بين مجموعة الدول التي دخلت في وحدة سياسية، مثل: منظمة الوحدة الأفريقية، التي تأخذ بعض دولها باللغة الإنجليزية وثقافتها، وتأخذ أخرى بالفرنسية وثقافتها، والدول التي تأسست على تعدد القوميات لا تخلو من المشكلات، ويرجع الباحثون الصراع بين القوميات فيها إلى اختلاف اللغات، كما هو الحال بين القبارصة الأتراك، واليونانيين في جزيرة “قبرص”، وكذا بين “بريطانيا”، و”إيرلندا” الشمالية، التي تتحدث باللغة “الكلتية”، وتريد الانضمام إلى جمهورية “إيرلندا”، وتطالب بتوحيد الجزيرة كلها، من هنا أدرك الساسة والمفكرون الفرنسيون ومن يشايعونهم دور لغتهم الفرنسية، لا في دعم قوميتهم فقط؛ بل أيضًا في تجميع شعوب تلْهج بلسانهم، وتعيش في مواقع متباعدة، فأنشئوا ما سموه بالفرانكفونية، وهي تلك الحركة التي ترمي إلى الجمع بين البلاد التي تتكلم الفرنسية في ظل رابطة ثقافية سياسية غاياتها تدعيم الثقافة الفرنسية، ونشر إشعاعها في العالم.
أما حال لغتنا العربية، فهو أفضل بكثير من حال أي لغة أخرى في دعم القومية الإسلامية، فالإسلام يجمع بين المسلمين في شتى أنحاء المعمورة على اختلاف لغاتهم، ويربط بينهم برباط روحي قوي على اختلاف ألوانهم، ولسانهم الأول هو العربية الذي يتمنى أن يلهج به كل مسلم، ودعمنا لهذا اللسان، هو دعم للإسلام إذا أردنا قومية عربية بمفهومها الواسع؛ بحيث تتسع لكل من نطق بالشهادتين، فمن تكلم بالعربية فهو عربي، وهذا يقتضي علاج هذا اللسان في ديار العرب أنفسهم قبل ديار غيرهم من المسلمين، فقد تفرق إلى لهجات متباينة، وتفتَّتت بلاده، ولكن الأمل في توحده، وتوحدها ليس ببعيد، فقد أنشأ أبناؤه الجامعة العربية، وأسسوا المجامع اللغوية، ونشروا التراث، وأدركوا تحديات المحتلين، وندعو الله عز وجل منزل كتابه بهذا اللسان المبين، ألَّا يطول بنا الانتظار حتى يتوحد هذا اللسان كتابة، ونطقًا، وأداء، وتخاطبًا، فلا نرى بين العرب اختلافًا في مصطلحات الحكم والإدارة، أو في مصطلحات العلوم في: القانون، والطب، والهندسة، والزراعة، وسائر العلوم الحديثة، أو في الاستعمالات العامة التي نقرأها في الصحف، والمجلات، والكتب، ولا نسمع بين أبنائهم لحنًا فاحشًا ينم عن ضعف، وعدم مبالاة، وتزول الاختلافات التي نصطدم بها في أثناء التخاطب عندما يلتقي المصري بالشامي، أو العراقي، أو المغربي، أو الخليجي، سواء على مستوى الأصوات، أو الألفاظ، أو التراكيب، أو العبارات.
وما نتمناه ليس ببعيد المنال إن تضافرت الجهود، ووضعت الخطط، وسخرت وسائل الإعلام بكل صورها لهذا الغرض النبيل، وقبل هذا وبعده إن خلصت النوايا لإصلاح وخدمة هذا اللسان، لسان العرب والمسلمين، وما حال اليهود عنا ببعيد، فقد بعثت “إسرائيل” دينها المزعوم، ولغتها العبرية الميتة؛ لإدراك أهميه الوحدتين الدينية، واللغوية في ترسيخ وحدة اليهود الذين جاءوا من كل مكان، وقد اختلفت لغاتهم، وتعددت ألسنتهم.
وأظنك لا تتصور نشاطًا اقتصاديًّا وتجاريًّا دون النشاط اللغوي، يبدأ بالإعلان، وينتهي بالاتفاقيات وعقد الصفقات، ولا تتصور نشاطًا زراعيًّا دون توجيهات لغوية، وإرشادات على المستويين الشفوي والمكتوب.
لهذه الأهمية اللغوية، نرى الدراسة العلمية للغة تتشابك مع علوم الاجتماع، والإنسان، والنفس، والجغرافيا، والتاريخ، والرياضيات، ووظائف الأعضاء، وسوف يظهر ذلك جليًّا، حينما نتحدث عن علم اللغة النفسي، ومجالاته، وأهميته، والعلوم المتصلة به، وقضاياه، كما يظهر هذا الأمر جليًّا في علم اللغة الاجتماعي، حينما نتناول تعريفه، ومجالاته، وأهميته، والعلوم المتصلة به، وأهم قضاياه من صراع اللغات، والتعدد اللغوي، والثنائية اللغوية، والتخطيط اللغوي، واللهجات الاجتماعية، كما يظهر الأمر جليًّا في علم اللغة الجغرافي، وفي الترجمة، وفي تعليم اللغات، واكتساب اللغة الأم، وتعلم اللغة الأجنبية، كما يتضح الأمر أيضًا فيما يسمى: بعلم اللغة الحاسوبي، وكيف تكتسب اللغة، وتُعلم بواسطة الحاسوب.