Top
Image Alt

أهمية فقه السياسة الشرعية، ومدى اهتمام علمائنا ومفكرينا بذلك

  /  أهمية فقه السياسة الشرعية، ومدى اهتمام علمائنا ومفكرينا بذلك

أهمية فقه السياسة الشرعية، ومدى اهتمام علمائنا ومفكرينا بذلك

إن فقه السياسة الشرعية هو أحد جوانب فقهنا الإسلامي الرّحب, إن لم يكن أهمها وأعظمها على الإطلاق، ولا نجافي الحقيقة أو الصواب إن قرَّرنا جواز تعميم فقه السياسة الشرعية في الإطلاق على الفقه الإسلامي كله، تأسيسًا على مسئولية الحاكم، أو ولي الأمر المسلم في حراسة الدين وسياسة الدنيا، كما قرَّر الماوردي وغيره بخصوص نظام الحكم في الإسلام.

لقد أطلق السلف في الصدر الأول اسم الفقه الأكبر على مباحث العقيدة والأخلاق والأحكام الشرعية العملية، بمعنى: أنه كان مرادفًا لمصطلح الشرعية، وإذا كان الفقه الإسلامي بعد ذلك اقتُصر على القسم الأخير في هذه المباحث، وهو المختصّ بالأحكام الشرعية العملية, المستفادة من أدلة التشريع الإسلامية نصًّا أو استنباطًا؛ فإنه يمكن القول بأن الفقه الإسلامي يستوعب الحياة الإنسانية كلها، ذلك أنه يشمل العبادات التي تنظّم علاقة الإنسان بربه، هذا بالمعنى الخاص؛ لأن العبادات بالمعنى العام تحوي وجود الإنسان كله، كما قال تعالى: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنّ وَالإِنسَ إِلاّ لِيَعْبُدُونِ} [الذاريات: 56]، ففي كل شئونه جانب تعبدّي على نحو ما.

ويشمل الفقه الإسلامي كذلك علاقة الإنسان بحياته الخاصة, فيما يضمه فقه الحلال والحرام، ويشمل علاقة الفرد بأسرته في معاملاته ومبادلاته المختلفة إيجابًا أو سلبًا، فيما تنظمه في عصرنا القوانين المدنية والتجارية والجنائية، كما أنه يشمل علاقة الفرد بالدولة، أو علاقة الحاكم بالمحكوم، أو الراعي بالرعية، أو السلطة بالشعب بأي اسم سميناه، وهو ما ينظمه في عصرنا الفقه الدستوري، والمالي، والإداري، والدولي, وهذا هو الذي يطلق عليه الفقه السياسي، أو السياسة الشرعية.

أيضًا بالقياس على إطلاق العبادات بالمعنى الخاص على الصلاة والصوم والزكاة والحج، مع أن الإنسان خُلق في نظر الإسلام لعبادة الله وحده لا شريك له، ومن ثَمَّ فإن ما يُكلَّف به من الإسلام هو عبادة، ولو من بعض الوجوه يُؤجر عليها في الدنيا والآخرة إن شاء الله الذي لا يظلم أحدًا، ولا يخلف وعده أبدًا، وهذا هو المعنى العام للعبادة في الإسلام وفي غيره. إلا أن السياسة الشرعية باستقلالية عن الفقه العام؛ وذلك لاعتبارين:

أحدهما: أن مضامين كلمة السياسة متعددة لدرجة الغموض أحيانًا، كما ذكر بعض الباحثين، بل إنها كثيرًا ما تستعمل لدى الناس دون أن يكون لها معنى محدد، وقد رأينا طرفًا من ذلك عند بيان المعنى اللغوي لها.

ثانيهما: الحفاظ على خصوصية مجالات السياسة الشرعية، وضبط موضوعاتها وأحكامها؛ سواء تعلق الأمر بالولاية العامة وما يتفرّع عنها من شئون الحكم، أو تعلق بالشئون المالية، أو القضائية، أو الجنائية والجزائية، أو كان مرتبطًا بالعلاقات الدولية في السلم والحرب، وما زلنا نلفت الانتباه إلى تدخّل السياسة الشرعية على نحو ما فيما لا يكون من تدبيرات أولي الأمر مباشرة، أو فيما لا يدخل في السياسة الشرعية من مدلولها الخاص مثل: مسائل العقيدة، والعبادات، والأخلاق، والآداب الشرعية، بل حتى الأحوال الشخصية وبعض صور المعاملات ونحو هذا؛ إذ ليس أمام أولي الأمر في هذا النوع سوى الحكم به كما ورد، واجتهاد أولي الأمر فيه يقتصر على صحة التطبيق، أو شروط التطبيق وضوابطه.

ولعل هذا يفسر اهتمام فقهائنا على اختلاف مذاهبهم واتجاهاتهم بالسياسة الشرعية، ويبدو هذا الاهتمام بالسياسة الشرعية من قبل فقهائنا بوضوح من خلال تناولهم لها ضمن أبواب الفقه العام تارة، وفي كتب متخصصة تارة أخرى.

إن اهتمام فقهائنا ببعض أبواب الفقه السياسي, أو السياسة الشرعية قد وصل حدًّا لافتًا لانتباه الباحث المدقق لأصول الدين وفروعه؛ حيث أدخل بعضهم موضوعات الإمامة، أو الخلافة، أو الحكم بما أنزل الله ضمن مباحث كتب العقيدة، أو التوحيد، أو علم الكلام، وحتى أولئك الذين تناولوا هذه الموضوعات في مباحث الفروع من جهة أنها عمل من الأعمال, لم يقصدوا التهوين من أمرها، أو التقليل من شأنها؛ لأن الإسلام عقيدة وعمل، والإيمان ما وقر في القلب وصدقه العمل، وهي: الصلاة أو الزكاة مثلًا من الفروع لا من الأصول؛ لأنها أعمال لا عقائد، ولكن هذا لا يخرجها عن كونها من أركان الإسلام ومبانيه العظام، حتى عدُّوا من أنكر فرديتها أو استخفَّ بها كافرًا مارقًا من الدين؛ لأنه أنكر معلومًا من الدين بالضرورة.

هؤلاء الفقهاء تحدَّثوا عمن يمتنع عن أداء الزكاة، أو عمن يترك الصلاة، وإن كانوا مختلفين في عقوبة تارك الصلاة ومانع الزكاة كما هو معروف في كتب الفقه، وشروح الحديث وغيرها. ويمكن مراجعة حكم أو عقوبة تارك الصلاة ومانع الزكاة في الفقه الإسلامي في أيٍّ من كتب الفقه المقارن، أو كتب الفقه المعتمدة, وفي أي مذهب من مذاهب الفقه الإسلامي المعروفة، والمتبعة عند أهل السنة والجماعة.

ومع هذا الاهتمام ببعض مباحث الفقه السياسي من قبل فقهاء أهل السنة والشيعة على السواء، إلا أن كثيرًا من العلماء والباحثين قد لاحظوا بحق أن هذا الجانب من الفقه الإسلامي -أي: الفقه السياسي أو السياسة الشرعية- لم يأخذ حظَّه في البحث والتعميق والاجتهاد، كما أخذ سائر أنواع الفقه الأخرى مثل: فقه العبادات والمعاملات, والنكاح وما يتعلق به، وغيرها.

وهذا لا يعني أن تراثنا فارغ من هذا الفقه، فهذا مستحيل على أمة قادت الحضارة في العالم لعدَّة قرون، وكانت شريعتها هي المرجع الأول لها في شئونها المختلفة, وإن انحرف من انحرف من الملوك والأمراء والقادة عن منهج النبوة الهادية، والخلافة الراشدة، فعندنا -ولا شكّ- كمّية لا بأس بها من البحوث في هذا الفقه.

وقد ظهرت في العصر الحديث كتابات شتَّى حول الفقه السياسي الإسلامي، ازدانت بها المكتبة الإسلامية في مصر، وفي سائر البلاد العربية والإسلامية؛ أمثال كتابات الشيخ محمد عبده في مجلتي (العروة الوثقى) و(المنار)، ثم تلميذه رشيد رضا في (تفسير المنار) أيضًا، وفي كتبه مثل: (الخلافة) أو (الإمامة العظمى)، وهناك كتب أخرى تحمل اسم (السياسة الشرعية) للشيخ عبد الوهاب خلاف، والشيخ علي خفيف، والشيخ محمد البنا، والشيخ عبد الرحمن تاج، إلى غير ذلك.

وتجدر الإشارة إلى أخطر الكتب الحديثة, التي ظهرت في أوائل القرن الماضي بعد إلغاء الخلافة الإسلامية من تركيا بعام واحد؛ إنه كتاب (الإسلام وأصول الحكم) للشيخ علي عبد الرازق الذي صدر في إبريل سنة 1925، فأحدث ضجَّة كبرى على المستويين السياسي والديني في مصر، بل والعالم الإسلامي؛ على الرغم من أنه كتاب صغير الحجم، لكنه حمل دعوة لم يقلْ أحدٌ بها من قبل على مدار التاريخ الإسلامي كله فيما نعلم.

والفكرة المركزية أو الرئيسة التي يدور حولها هذا الكتاب هي أن الخلافة دخيلة على الإسلام، فهي مصدر قهر واستبداد، وقد كانت منذ نشأتها حتى عهده نكبة على الإسلام والمسلمين، وينبوع شرٍّ وفساد على حدِّ قوله.

وقد اشتدَّ الجدل حول هذا الكتاب وما يحمله من فكر منذ ظهوره حتى اليوم، فهُوجم مؤلفه من كل ناحية، ووُضعت كتب ومقالات ورسائل في الرّدّ عليه، وشيخ الأزهر بعده الشيخ محمد الخضر حسين، ثم الشيخ محمد الطالب بن عاشور بتونس، وغيرهم.

ولم يقف الأمر عند حدِّ الرّدود النظرية، ولكن الرجل حُوكم هو وكتابه بوساطة هيئة من كبار علماء الأزهر، برئاسة شيخ الأزهر، وحضور أربعة وعشرين عضوًا في أغسطس سنة 1925؛ أي: بعد صدور الكتاب بنحو أربعة أشهر فقط، وأصدرت هذه الهيئة أو هذه اللجنة حكمًا إجماعيًّا بأن الكتاب قد حوى أمورًا مخالفة للدين، وقرَّرت إخراج مؤلفه من زُمرة العلماء ومحو اسمه من سجلات الجامع الأزهر والمعاهد الأخرى، وفصله من وظيفته، وعدم أهليته للقيام بأي وظيفة عمومية؛ دينية كانت أو غير دينية.

وكان سرّ الاهتمام بهذا الكتاب وخطورته في كونه صدرَ من عالم أزهري، وقاضٍ شرعي؛ ولهذا عُني به كل خصوم الشريعة وضخَّموه، وأشادوا به من مستشرقين ومستغربين، وما يزالون إلى اليوم يتحدَّثون عنه بإعجاب وإكبار، فالعجب أن تتوالى المؤلفات حوله إما نقدًا له، أو دفاعًا عنه.

ونود أن نؤكد هنا أربعة أمور:

أحدها: أنه بعد نحو ربع قرن من قضية الشيخ علي عبد الرازق، وكتابه (الإسلام وأصول الحكم), ظهر كتاب آخر يدور في الفلك نفسه ولعالم أزهري أيضًا، هو الأستاذ خالد محمد خالد, وهذا الكتاب بعنوان (من هنا نبدأ)، وقد تلقَّفه العلمانيون والمنحرفون عن الإسلام، والكارهون له، كما تلقفوا كتاب سلفه من قبلُ، أي: كتاب الشيخ علي عبد الرازق.

وبالمثل قيَّض الله عز وجل من يرُدّ عليه ويفنّد ما فيه من أباطيل ودعاوى مرفوضة، كما فعل الشيخ محمد الغزالي في كتابه (من هنا نعلم) وآخرون غيره، لكن الأستاذ خالد تراجع عن أفكاره عن الدولة الإسلامية في هذا الكتاب, متبرئًا صراحة مما كتبه فيه من قبل، ووضع مجموعة قيمة عن موقف الإسلام من الدولة والديمقراطية والحرية، وإنسانية محمد صلى الله عليه وسلم ورجاله حوله -رضي الله عنهم أجمعين.

وله ثمانية وعشرون مؤلفًا أو كتابًا؛ منها كتاب (لله والحرية) في ثلاثة أجزاء: (كما تحدث القرآن) و(كما تحدث الرسول) و(جاء أبو بكر), و(الوصايا العشر), إلى غير ذلك من مؤلفاته، وكلها ذات صبغة إسلامية.

ويقال أيضًا: إن الشيخ علي عبد الرازق صدر عنه ما يدل على اعتذاره عما قاله في كتابه من أن الإسلام دين لا دولة فيه، وأنها كلمة ألقاها الشيطان على لسانه, فليغفر الله للجميع.

الأمر الثاني: أنه من المسلَّمات في الفكر الإسلامي أن الإسلام نظام شامل للحياة، وليس من المتصوَّر في مثل هذا النظام الشامل أن يترك السياسة على أهميتها، دون أن يرسم لها خطوطًا محددة أو يضع لها مبادئ موجهة، ثم يترك التفاصيل والجزئيات للناس يلتمسونها وفق ظروف الزمان والمكان والأحوال، ودون أن يخرجوا عن إطار تلك الخطوط المحددة والمبادئ الموجهة، وإن شئنا فلنقل: دون أن يخرجوا عن جوهر الإسلام وروحه. وهذا مما يوفر لهذا النظام عنصر المرونة، وإمكانية تطبيقه في البيئات والأزمنة المختلفة، ولو أن الإسلام قدَّم التفصيلات الدقيقة لكل شيء؛ لما كان دينًا صالحًا لكل زمان ومكان، فضلًا عن أن هذا ضدّ طبيعة الأشياء في هذه الحياة المتغيرة والمتطورة باستمرار.

الأمر الثالث: أن موضوعات أو مباحث السياسة الشرعية كبيرة، وفروعها ومسائلها كثيرة، فضلًا عن المناقشات أو الخلافات حول الصلاحيات والشروط والضوابط مثلًا؛ فنرى أن الخلاف قد يكون على مشروعية بعض القضايا والنوازل التي يصدر بشأنها حكم اجتهادي من ولي الأمر، أو من ينوب عنه كالضرائب والمكوس في النظام المالي، وكيفية تطبيق الحدود والتعزير، ومقدارها في النظام العقابي… إلى آخره. هذا بالإضافة إلى أهمية مضامين مصطلحات السياسة والشرعية، أو الشريعة وخصائصها، ومصادرها، وحجيتها، ومجالاتها، وعناية الفقهاء بها، ثم الدخول بعد ذلك في تفصيلات النظام السياسي الإسلامي بكل مقوماته وأشكاله؛ الإدارية، والمالية، والقضائية، والجنائية… إلى آخره.

الأمر الرابع: أن كثيرًا من العلماء والباحثين قد لاحظ أن الفقه السياسي لم يأخذ حقه في البحث والاجتهاد، كما أخذ سائر أنواع الفقه الأخرى؛ لكن حقيقة هذا لا يعني أن تراثنا قد خلا من هذا الفقه، فهذا من المستحيل على أمة لها باعٌ طويل في المؤلفات الفقهية؛ سواء كانت سياسية أو غير سياسية، وأن شريعتها هي المرجع الأول لها في شئونها المختلفة، حتى وإن لاحظنا شيئًا من الانحراف في بعض عصور التاريخ الإسلامي؛ لكن على أيَّة حال, الذي لا شكَّ فيه أننا بصدد عدد كبير جدًّا من الكتابات القديمة والحديثة.

error: النص محمي !!