أهمية كتابة الحديث، وآراء العلماء في هذا العصر حولها
وقد اعتمد حفظ الحديث أساسًا في العصور الثلاثة على السماع والمشاهدة وتسجيل ذلك في الذاكرة؛ كل صحابي بما تيسر له عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وكل تابعي بما تيسر له عمن روى عنه؛ فما فات واحدًا وعاه الآخر، وقد تشترك جماعة في تحمل حديث فيرويه واحد منهم فيكتفون بروايته، وقد يرويه أكثر من واحد فيتفقون في اللفظ أو في المعنى، أو يتفقون على جزء منه، وينفرد بعضهم بما لم يذكره الآخر من باقيه.
وأدى كل منهم ما رأى المصلحة في أدائه، وما تمكن منه وعيه وحفظه في عهده -صلى الله عليه وسلم- وفي عهد الصحابة والتابعين.
والسؤال الملح: هل عاونت الكتابةُ الذاكرةَ في هذه العهود المباركة على تسجيل الحديث وحفظه, أم لا؟
ظن بعضهم عدم اعتماد الكتابة كأساس لحفظ الحديث، واستدل ببعض ما روي في ذلك؛ فقد روى مسلم في صحيحه عن عطاء بن يسار عن أبي سعيد الخدري, أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: ((لا تكتبوا عني, ومن كتب عني غير القرآن فليمحه)).
وروى الخطيب في تقييده بسنده عن أبي سعيد الخدري -رضي الله عنه- أنه قال: “استأذنّا النبي -صلى الله عليه وسلم- في الكتاب -أي: الكتابة- فأبى أن يأذن لنا”. وعن زيد بن ثابت: أنه دخل على معاوية فسأله -أي: معاوية- عن حديث؛ فأمر إنسانًا أن يكتبه، فقال له زيد: “إن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أمرنا ألا نكتب شيئًا من حديث؛ فمحاه”، وقالوا لأبي سعيد الخدري: “لو كتبتم لنا؛ فإنا لا نحفظ -أي: بعض ما نسمع منكم، أو حفظًا مثل حفظكم- فقال: لا نُكتبكم -أي: لا نسمح لكم بالكتابة- ولا نجعلها مصاحف؛ كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يحدثنا, فاحفظوا عنا كما كنا نحفظ عن نبيكم”.
وقال أبو نضرة لأبي سعيد: إنك تحدثنا عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- حديثًا عجيبًا, وإنا نخاف أن نزيد فيه أو ننقص، قال: أردتم أن تجعلوه قرآنًا؟! لا؛ ولكن خذوا عنا كما أخذنا عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم-. وأُتي ابن مسعود بصحيفة فيها حديث -أي: أحاديث- فدعا بماء فمحاها، ثم غسلها ثم أمر بها فأحرقت، ثم قال: أذكر الله رجلًا يعلمها عند أحد إلا أعلمني به، والله لو أعلم أنها بدير هند لبلغتها، بهذا هلك أهل الكتاب قبلكم حين نبذوا كتاب الله وراء ظهورهم كأنهم لا يعلمون. ومحا أبو موسى أحاديث كتبت عنه، وقال: احفظوا عنا كما حفظنا.
وروي النهي عن الكتابة عن ابن عباس وابن عمر وأبي هريرة من الصحابة، وروي أيضًا عن عبيدة وابن عون ومحمد -أي: ابن سيرين- وأبي إدريس الخولاني وإبراهيم النخعي وأبي العالية ومنصور ومغيرة والأعمش والشعبي من التابعين، وفي (تاريخ الإسلام) عن عبد الله بن العلاء أنه قال: “سألت القاسم يملي علي أحاديث، فقال: إن الأحاديث كثرت على عهد عمر -رضي الله عنه-, فأنشد الناس أن يأتوه بها؛ فلما أتوه بها أمر بتحريقها، ثم قال: مثناة كمثناة أهل الكتاب، قال: فمنعني القاسم يومئذ أن أكتب الحديث”.
وظهر من كل ما ذكرناه أسباب النهي عن الكتابة, فيما يلي:
أولًا: النهي عن كتابة غير القرآن لمن يكتب القرآن؛ لئلا يختلط القرآن بغيره، ويستوي في ذلك كتّاب الوحي وغيرهم ممن يكتب لنفسه؛ لئلا يختلط شيء من القرآن بغيره، وقد ظهر أثر هذا النهي عند مراجعة جمع القرآن في عهد أبي بكر, ثم في عهد عثمان { حيث طابق المكتوب بين يدي الرسول -صلى الله عليه وسلم- المحفوظ في الصدور والمكتوب عند الصحابة؛ فلم ينقص من القرآن شيء ولم تتسرب زيادة إليه، وما خالف ذلك عند بعض الأفراد زيادة أو نقصًا أجمعت الأمة على أنه ليس بقرآن.
ثانيًا: أن النهي متوجه لمن تشتبه عليه السنة بالقرآن لشدة الرابطة بينهما؛ إذ السنة مبيِّنة للكتاب، مفصلة لأحكامه، مقيدة لمطلقه، مبينة لمجمله؛ ولذلك توجه النهي لصغار الصحابة كأبي سعيد الخدري ولمن لا يميز بين القرآن وغيره من النصوص الواردة عن الله حديثًا قدسيًّا أو عن رسوله حديثًا نبويًّا، وهو ما يدل على إباحة الكتابة لمثل عبد الله بن عمرو بن العاص؛ حيث قرأ من كتب أهل الكتاب, ولم يخلط بين النصوص الإسلامية والنصوص في الأديان التي قبل الإسلام.
ثالثًا: أن يشتبه الأمر على من يكتب عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم-؛ فيخلط أو يتصرف فيما يكتب بعقله، أو يندّ عن سمعه شيء؛ فينسب ما كتبه إلى الرسول -صلى الله عليه وسلم- بغير حق، ويقدم على ما يصل إلى الذهن ولا يسجل بالكتابة.
ولم ينقل أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- عقد مجالس إملاء لتسجيل ما يصدر عنه من السنة؛ وإنما اختص الإملاء والمراجعة والمتابعة والتأكد من صحة المكتوب بالقرآن الكريم، وببعض الأحكام المحددة كمقادير الزكاة، وفي كتبه إلى أمرائه أو إلى ملوك الأرض، أو ما ارتبط بنص معين كالتشهد وبعض الأدعية.
رابعًا: أن تعتمد السنة على الكتَّاب والمكاتيب؛ فتتحكم فئة خاصة أو هيئة عامة في النصوص المعتمدة، ويتيسر لتلك الفئة أو لهذه الهيئة إظهار ما تريد وكتم ما تريد, والإضافة أو الانتقاص كما حكى القرآن عن غير المسلمين، أما اشتراك الأمة ممثلة فيمن وعى وحفظ الحديث، وفيمن كتب من أهل العناية بالكتابة، كل ذلك يكفل منع ما ذكرناه من المحظورات؛ فما فات واحدًا يحفظه غيره، وما طرأ على حفظ متحمل يجبره ضبط غيره من الناس.
خامسًا: شحذ الأذهان والتنافس في تحامل السنة ونشرها، وقيام كل مسلم بالمساهمة في حفظ السنة وتبليغها، وحصر الكتابة في دائرة ضيقة ترتبط بالضرورة أو الحاجة الماسة لبعض الأفراد، دون الاعتماد عليها اعتمادًا كاملًا؛ فتشيع السنة بين الأمة ويسهل جمعها والوصول إلى المراد منها لمن تأهل لذلك بغير قيود، ويحصل تصحيح المكتوب بالمحفوظ، ومراجعة المحفوظ بالمكتوب، في تفاعل مثمر يحقق الغاية من حفظ السنة على أكمل الوجوه.
سادسًا: ألا تختلط السنة بالرأي -أي: الأحكام المنقولة عن غير المسلمين- أو بما عند أهل الكتاب وغيرهم من النصوص التي تعبر عن دينهم؛ مما سرى بين المسلمين بحكم الاختلاط والعلاقات بينهم وبين الآخرين؛ فهذه أمور موجودة بالكتابة؛ لكنها لا تدخل الأذهان إلا إذا سمح الإنسان بذلك.
سابعًا: ألا يدعي أحدٌ على الصحابة أو غيرهم نسخًا مكتوبة عن طريق التزوير أو التحريف, ويعطي لهذه النسخ وضعًا خاصًّا بين ما ثبت من السنة؛ فالمقاييس محددة وقواعد القبول والرد في هذا العصر لا تعطي النسخ المكتوبة, أو الأحاديث المسجلة بالكتابة أي امتياز على ما تداوله الحفاظ المعتمدون في مجال القبول، وقد تحدث الخطيب البغدادي وابن عبد البر عن أسباب النهي عن الكتابة؛ بما يؤصل لما ذكرناه.
وكان غير واحد من السلف يستعين على حفظ الحديث بأن يكتبه ويدرسه من كتابه؛ فإذا أتقنه محا الكتاب خوفًا من أن يتَّكل العقل عليه؛ فيؤدي ذلك إلى نقصان الحفظ وترك العناية بالمحفوظ، قاله الخطيب البغدادي، ويضاف إلى ذلك ما ذكرناه من عدم الاعتماد على وجود نسخ مكتوبة؛ وإنما الاعتماد الأهم على الحفظ في الذهن.
وروى الخطيب بإسناده عن الأعمش, عن إبراهيم أنه قال: قال مسروق لعلقمة: اكتب لي النظائر, قال: أما علمت أن الكتاب -أي: الكتابة- يُكره؟! قال: إنما أنظر فيه ثم أمحوه, قال: فلا بأس.
وعن عكرمة أنه قال: كنا نأتي الأعرج ويأتيه ابن شهاب؛ فنكتب ولا يكتب ابن شهاب؛ فربما كان الحديث فيه طول؛ فيأخذ ابن شهاب ورقة من ورق الأعرج -وكان الأعرج يكتب المصاحف- فيكتب ابن شهاب ذلك الحديث في تلك القطعة، ثم يقرؤه ثم يمحوه مكانه، وربما قام بها معه فيقرؤها ثم يمحوها.
وقال شعبة: قال خالد الحذاء: ما كتبت شيئًا قط إلا حديثًا طويلًا؛ فإذا حفظته محوته. وعن عاصم بن ضمرة: أنه كان يسمع الحديث ويكتبه؛ فإذا حفظه دعا بمقراض فقرضه. وعن عروة بن الزبير أنه قال: كتبت الحديث ثم محوته؛ فوددت أني فديته بمالي وولدي، وأني لم أمحه، قال الخطيب: نرى أن عروة محا الحديث من كتابه للمعنى الذي ذكرناه من كراهة الاتكال عليه؛ فلما علت سنه وتغير حفظه ندم على محوه إياه، وتمنى أنه كان لم يمحه؛ ليرجع إلى كتابه عند تناقض أحواله واضطراب حفظه، قال: وقد كان منصور بن المعتمر يكره كتاب العلم، ثم جاء عنه أنه ندم على أنه لم يكتب، وقال الأوزاعي: كان هذا العلم شيئًا شريفًا؛ إذ كانوا يتلقونه ويتذاكرونه بينهم, فلما صار إلى الكتب ذهب نوره وصار إلى غير أهله.
والمهم في هذا المجال: أن الاعتماد كان على الحفظ ولم يكن على الكتابة، وبعضهم لجأ إلى الكتابة في حالة الضرورة فقط، وبعضهم ندم على ما محاه وتمنى أن لو كان معه؛ مع أن علمه قد بُثّ إلى غيره، ولو سأل عنه لوجده عند من نقله إليه، وعند غيره من الرواة.
قال الخطيب: إنما اتسع الناس في كَتْب العلم وعوّلوا على تدوينه في الصحف بعد الكراهة لذلك؛ لأن الروايات انتشرت، والأسانيد طالت، وأسماء الرجال وكناهم وأنسابهم كثرت، والعبارات بالألفاظ اختلفت؛ فعجزت القلوب عن حفظ ما ذكرنا، وصار علم الحديث في هذا الزمان أثبت من علم الحافظ -أي: علم من يكتب الحديث أثبت من علم من يحفظه في ذهنه- مع رخصة رسول الله -صلى الله عليه وسلم- لمن ضعف حفظه في الكتاب, وعمل السلف من الصحابة والتابعين ومن بعدهم من الخالفين بذلك.
وبعضهم كان يكتب الأطراف، قال الخطيب: لأن جماعة من السلف كانوا يكرهون كتابة العلم في الصحف, ويأمرون بحفظه عن العلماء؛ فرخّص إبراهيم في كتابة الأطراف للسؤال عن الأحاديث, ولم يرخص في كتابة غير ذلك.
وذكر الخطيب أيضًا من علل كراهة كتب الحديث: إقبال الناس على المكتوب والاشتغال عن القرآن، وأيضًا الكتب القديمة الموجودة التي قد تختلط على أنها أحاديث بالقرآن الكريم؛ لا يعرف حقها من باطلها وصحيحها من فاسدها, مع أن القرآن كفى منها وصار مهيمنًا عليها.
ثم أيضًا لقلة الفقهاء والمميزين بين الوحي وغيره؛ لأن أكثر الأعراب لم يكونوا فقهوا في الدين وجالسوا العلماء العارفين؛ فلم يؤمن أن يلحقوا ما يجدون من الصحف بالقرآن، ويعتقدوا أنه من كلام الرحمن.
وأما في عهد التابعين؛ فقد دخل في الإسلام أناس كثيرون لم يكونوا من أهل العلم والفقه, فلو كتبوا لأضافوا ذلك أيضًا إلى القرآن وإلى السنة الصحيحة, وحدث اختلاط كبير.
وكان غير واحد من المتقدمين إذا حضرته الوفاة أتلف كتبه أو أوصى بإتلافها؛ خوفًا من أن تصير إلى من ليس من أهل العلم, فلا يعرف أحكامها ويحمل جميع ما فيها على ظاهره، وربما زاد فيها ونقص؛ فيكون ذلك منسوبًا إلى صاحبها الأصلي.
قال أبو عمر بن عبد البر: من كره كتابة العلم؛ فذلك لوجهين:
الأول: ألا يتخذ مع القرآن كتاب يضاهى به.
الثاني: لئلا يتكل الكاتب على ما كتب فلا يحفظ؛ فيقل الحفظ.
وهذا أيضًا محمول على الحُفَّاظ الذين يستغنون عن الكتابة، قال: ومذهب العرب أنهم كانوا مطبوعين على الحفظ مخصوصين بذلك, والذين كرهوا الكتابة كابن عباس والشعبي وابن شهاب والنخعي وقتادة, ومن ذهب مذهبهم وجُبِل جِبِلَّتهم -كانوا قد طبعوا على الحفظ؛ فكان أحدهم يجتزئ بالسَّمْعة، وقد جاء عن ابن شهاب الزهري أنه كان يقول: إني لأمر بالبقيع؛ فأسد أذني مخافة أن يدخل فيها شيء من الخنا, فوالله ما دخل أذني شيء قط فنسيته. وجاء عن الشعبي نحوه، وكان أحد العرب يحفظ أشعار بعض في سمعة واحدة، وحفظ ابن عباس قصيدة عمر بن أبي ربيعة في سمعة واحدة، قال: وليس أحد اليوم -أي: في عصره- على هذا.
وقد ورد من النصوص ما يدل على جواز كتابة الحديث في هذه العصور الزاهرة، ورجّح أئمةٌ أدلةَ الجواز على أدلة المنع؛ فقد اقتصر البخاري -رحمه الله- في صحيحه على أدلة الجواز، وعلل حديث أبي سعيد في (صحيح مسلم) بما يمنع اعتباره مرفوعًا؛ فحمل النهي على اجتهاد الصحابة والتابعين, وليس على منع من الرسول -صلى الله عليه وسلم-. قال البخاري في صحيحه بسنده عن أبي جحيفة أنه قال: قلت لعلي بن أبي طالب: هل عندكم كتاب -أي: شيء مكتوب- عن الرسول -صلى الله عليه وسلم-؟ قال: لا؛ إلا كتاب الله أو فهم أعطيه رجل مسلم -أي: حفظ- أو ما في هذه الصحيفة. قال: قلت: وما في هذه الصحيفة؟ قال: العقل، وفكاك الأسير، ولا يقتل مسلم بكافر.
وروى بسنده عن أبي هريرة -رضي الله عنه- أن خزاعة قتلوا رجلًا من بني ليث عام فتح مكة بقتيل منهم قتلوه؛ فأخبر بذلك النبي -صلى الله عليه وسلم- فركب راحلته فخطب فقال: ((إن الله حبس عن مكة القتل -أو الفيل- وسلط عليهم رسول الله -صلى الله عليه وسلم- والمؤمنين؛ ألا وإنها لم تحل لأحد قبلي ولن تحل لأحد بعدي…)) وذكر الحديث؛ فجاء رجل من أهل اليمن يقال له: أبو شاه, فقال: اكتب لي يا رسول الله -أي: هذا الحديث- فقال: ((اكتبوا لأبي شاه)) وهذا أمر بالكتابة، قيل لأبي عبد الله: أي شيء كتب له؟ قال: كتب له هذه الخطبة.
وروى بسنده عن وهب بن منبه عن أخيه أنه قال: سمعت أبا هريرة يقول: ما من أصحاب النبي -صلى الله عليه وسلم- أحد أكثر حديثًا عنه مني, إلا ما كان من عبد الله بن عمرو؛ فإنه كان يكتب ولا أكتب. وروى بسنده عن ابن عباس أنه قال: لما اشتدّ بالنبي -صلى الله عليه وسلم- وجعه قال: ((ايتوني بكتاب أكتب لكم كتابًا لا تضلوا بعده))، قال عمر: إن النبي -صلى الله عليه وسلم- غلبه الوجع وعندنا كتاب الله حسبنا؛ فاختلفوا وكثر اللغط، قال: ((قوموا عني, ولا ينبغي عندي التنازع)).
قال ابن حجر: قدم -أي: البخاري- حديث علي أنه كتب عن النبي -صلى الله عليه وسلم-, ويطرقه احتمال أن يكون إنما كتب ذلك بعد النبي -صلى الله عليه وسلم- ولم يبلغه النهي، وثنَّى بحديث أبي هريرة وفيه الأمر بالكتابة، وهو بعد النهي؛ فيكون ناسخًا -أي: لتأخر إسلام أبي هريرة- وثلَّث بحديث عبد الله بن عمرو، وقد بينت أن في بعض طرقه إذن النبي -صلى الله عليه وسلم- له في ذلك -عندما قال: ((اكتب؛ فوالذي نفسي بيده ما خرج من فيّ إلا الحق))- فهو أقوى في الاستدلال للجواز من الأمر أن يكتبوا لأبي شاه؛ لاحتمال اختصاص ذلك بمن يكون أميًّا أو أعمى، وختم بحديث ابن عباس الدالِّ على أنه -صلى الله عليه وسلم- همّ أن يكتب لأمته كتابًا يحصل معه الأمن من الخلاف، وهو لا يهم إلا بحق.
وأفاد ابن حجر أن النبي -صلى الله عليه وسلم- أذن في كتابة الحديث عنه، وهو يعارض حديث أبي سعيد الخدري: أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: ((لا تكتبوا عني شيئًا غير القرآن)) رواه مسلم، قال: والجمع بينهما: أن النهي خاص بوقت نزول القرآن؛ خشية التباسه بغيره والإذن في غير ذلك، أو أن النهي خاص بكتابة غير القرآن مع القرآن في شيء واحد والإذن في تفريقهما، أو أن النهي متقدم والإذن ناسخ له عند الأمن من الالتباس, وهو أقربها مع أنه لا ينافيها، وقيل: النهي خاص بمن خشي منه الاتكال على الكتابة دون الحفظ, والإذن لمن أمن منه ذلك. ومنهم من أعلّ حديث أبي سعيد, وقال: الصواب وقفُهُ على أبي سعيد. قاله البخاري وغيره.
والذي نرجحه أن النهي لمن يكتب القرآن من كتاب الوحي عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في النسخة المخصصة لذلك، والتي كان يملي فيها على كتاب الوحي؛ لئلا يدخل فيها ما ليس منها، وأن من كتب شيئًا خلاف ما يقرؤه عليه رسول الله -صلى الله عليه وسلم- عليه محوه؛ فإن لم يقم بذلك فإن الرسول -صلى الله عليه وسلم- يقوم بذلك، كما حدث من بعض من انحرف من كتاب الوحي وكتب خلاف ما يملي عليه؛ فكشف ذلك رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وخرج طريدًا؛ فمنهم من تاب، ومنهم من مات فلفظته الأرض.
ومما يدل على كتابة الحديث في عصر التابعين: ما ذكره الخطيب في كتاب (تقييد العلم) بسنده عن عبد الله بن دينار؛ أن عمر بن عبد العزيز كتب إلى أبي بكر بن محمد بن عمرو بن حزم يأمره قائلًا: “انظر ما كان من حديث رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أو سنة ماضية، أو حديث عمرة فاكتبه؛ فإني قد خفت دُرُوس العلم وذهاب أهله”, وهذا من عمر بن عبد العزيز باعتبار أنه والٍ؛ ليحفظ ما يستطيع من السنة حفظًا خاصًّا للدولة. وعن منصور أنه قال: قلت لإبراهيم: إن سالمًا إذا حدث أتم وإذا حدثت تخرم، قال: إن سالمًا يكتب وأنا لا أكتب. فاعترف إبراهيم النخعي بأن من يكتب ممن له عناية بالكتابة وحفظ الحديث يضبط أكثر مما يضبط قرينه في ذهنه؛ أما العمدة في ضبط الحديث مطلقًا فعلى حفظ الجميع, وليس حفظ واحد دون واحد أو كتابة واحد دون واحد.
وقال أيوب: يعيبون علينا الكتاب؟! ثم تلا: {ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ}طه: 52]، وقال معمر: حدثت يحيى بن أبي كثير بأحاديث، فقال لي: اكتب لي حديث كذا وكذا، فقلت: إنا نكره أن نكتب العلم، فقال: اكتب لي؛ فإن لم تكن كتبت فقد ضيعت أو عجزت. وقال يحيى بن سعيد الأنصاري: وددت أني كتبت كل ما كنت أسمع، وكان ذلك أحب إليّ من أن يكون لي مثل مالي. وهذا ظاهر من التابعين, واشتد ظهوره من أتباعهم عندما بدأ التصنيف والتأليف.
وورد عن عبد الله بن عمرو بن العاص أنه قال: كنت أكتب كل شيء أسمعه من رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أريد حفظه، فنهتني قريش وقالوا: أتكتب كل شيء تسمعه ورسول الله -صلى الله عليه وسلم- يتكلم في الرضا والغضب؟! قال: فأمسكت عن الكتاب -أي: الكتابة- فذكرت ذلك لرسول الله -صلى الله عليه وسلم- فأومأ بأصبعه إلى فيه وقال: ((اكتب؛ فوالذي نفسي بيده ما يخرج منه إلا حق)) ومن المعلوم أن الوحي كان ينزل على رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وأنه لو أخطأ في شيء فإن الله I لا يقره على خطأ, ولم يخطئ الرسول -صلى الله عليه وسلم- بتوفيق الله تعالى له؛ لكنه كان يجتهد في بعض الأمور فيرى رأيًا؛ فيوحى إليه برأي آخر أولى من هذا الرأي, فأما ما صححه الله تعالى لنبيه لا يزيد عما هو صحيح وعما هو أولى منه في الصحة.
وبكلام الرسول -صلى الله عليه وسلم- لعبد الله بن عمرو, بان أن الخطأ إذا ظهر في رواية من الروايات لا يكون ذلك منه -صلى الله عليه وسلم- وإنما ممن يؤدي عنه؛ لعدم عصمته، وإذا أخطأ واحد في رواية فإن الجميع لا يخطئ في هذه الرواية؛ لتكفل الله تعالى بحفظ السنة كما تكفل بحفظ القرآن, حيث قال I: {ﰉ ﰊ ﰋ ﰌ}القيامة: 19] ومن هنا كان عبد الله بن عمرو بن العاص يقول: ما يرغبني في الحياة إلا خصلتان: الصادقة والوَهْط؛ فأما الصادقة فصحيفة كتبتها عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم-, وأما الوهط فأرض تصدق بها عمرو بن العاص كان يقوم عليها. مع أن غير عبد الله بن عمرو قال: ما يسرني أن تكون الصادقة عندي بدرهم -أي: لأنها بالنسبة إليه رواية عن صحابي كسائر الروايات عن الصحابة، ولا تعطي عصمة خاصة؛ لعدم عصمة عبد الله بن عمرو -رضي الله عنه- في كتابته, أو في أدائه عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم-.
ولما ذكر أبو هريرة كتابة عبد الله بن عمرو؛ أعطاه مزية في عدد الأحاديث التي يحفظها, ولم يعطِ لكتابته مزية على ما يحفظه في الذاكرة، ولم ينقل اعتماد خاص أو مزية خاصة لما رواه عبد الله بن عمرو بسبب كتابته بالنسبة إلى روايات غيره من الصحابة؛ بل جعلت كتابته موازية لما يحفظه بالذاكرة ولما يحفظه غيره، ثم ما قام الدليل على الضبط فيه حكم له؛ سواء أكان محفوظًا في الذهن أو كان محفوظًا على ورق.
وقد اتسع مجال الكتابة تباعًا بعد وفاة الرسول -صلى الله عليه وسلم- بحسب حاجة من يتحمل الحديث، وكشف العلماء عن أدلة الجواز -أي: جواز الكتابة- في القرآن والسنة؛ مما يدل على أن النهي كان مقيدًا بما ذكر من أسبابه، وأن عدم وجود سبب من هذه الأسباب يفتح المجال للجواز.
ونذكر أيضًا من أدلة جواز الكتابة: ما روي عن سعيد بن زياد مولى الزبيريين, أنه قال: سمعت ابن شهاب يحدث سعد بن إبراهيم قال: أمرنا عمر بن عبد العزيز بجمع السنن؛ فكتبناها دفترًا دفترًا, فبعث إلى كل أرض له عليها سلطان دفترًا. وهذا محمول على أحاديث يحتاج إليها العمل, وتطبيق الشريعة.
وعن معمر عن الزهري أنه قال: كنا نكره كتابة العلم حتى أكرهنا عليها هؤلاء الأمراء؛ فرأينا ألا نمنع الكتابة أحدًا من المسلمين. وعن الزهري أنه قال: استكتبني الملوك؛ فاكتتبتهم -أي: كتبت لهم- فاستحييت الله إذ كتبها الملوك ألا أكتبها لغيرهم. وعن يونس بن يزيد أنه قال: قلت للزهري: أخرج إليّ كتبك؛ فأخرج إلي كتبًا فيها شعر، وعن خالد بن نزار أنه قال: أقام هشام بن عبد الملك كاتبين يكتبان عن الزهري؛ فأقاما سنة يكتبان عنه.
وقال الذهبي في (تاريخ الإسلام): عبد الرحمن بن خالد بن مسافر الفهمي أميرُ الديار المصرية لهشام بن عبد الملك، له نسخة عن الزهري نحو مائتي حديث. وعن ابن أبي الزناد عن أبيه أنه قال: كنا نطوف مع الزهري ومعه الألواح والصحف, ويكتب كل ما سمع.
وحاول رأي ثالث تخصيص جواز الكتابة لتيسير الحفظ -كما ذكرنا- وهو رأي لا يعتمد عليه في إثبات الجواز الذي يعطي الكتابة مجالها في حفظ الحديث, موازيًا لحفظ الأذهان وقائمًا مقامه؛ وذلك لأنه إذا كتب لنفسه ليحفظ, فليس ذلك دليلًا على اعتبار الكتابة بالنسبة لغيره قائمة مقام الحفظ.