أهمية مادة “تدوين السنة”، ومعنى: “السُّنّة” في اللغة والاصطلاح عند الإطلاق
مقدّمة عن أهمِّيَّة مادّة: “تدوين السُّنّة”:
إن الحمد لله، نحمده، ونستعينه، ونستغفره. ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيِّئات أعمالنا. مَن يَهْدِه الله فلا مُضلّ له، ومَن يُضلل فلا هادي له. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له. وأشهد أنّ محمدًا عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه وأتباعه إلى يوم الدِّين وسلّم تسليمًا كثيرًا. أما بعد:
فإن هذا العلم يُبيِّن: كيف كانت كتابة الحديث في زمن النبي صلى الله عليه وسلم وكذلك في زمن الصحابة وكبار التابعين، وأنّ ما ورد من كراهة ذلك أو النهي عنه إمّا أنه لا يصحّ، وإمّا أنه محمول على أسباب ثم زالت تلك الأسباب؛ وهذا ما سيتجلّى فيما بعد -إن شاء الله تعالى.
كذلك يُبيِّن: أن القرآن والسُّنة في مرتبة واحدة من حيث الحُجية والاعتبار في إثبات الأحكام الشرعية.
كذلك يُبيِّن -وبجلاء-: أنّ كلّ ما تعلق به أصحاب الأهواء والفِرَق المخالفون لأهل السُّنة والجماعة من شكوك أو شُبُهات، لا يخرج عن أن يكون طعنًا منهم في رواة السُّنة بالهوى والبهتان، أو أنه معارضة للسُّنة بعقولهم القاصرة الناقصة المتناقضة، أو أنه كذب وافتراء على رسول الله صلى الله عليه وسلم وقوْل على الله وعلى رسوله بغير علْم.
ثم إنه من بعد ذلك كلّه يُبيِّن: جهود العلماء في خدمة السُّنة طوال القرون التسعة الأولى، التي بذل فيها أولئك العلماء جهودًا جبارة مِن أجْل خدمة السُّنة، ومن أجْل تدوينها، ومن أجْل تقريبها للناس.
معنى: “السُّنَّة”:
أول ما نتحدث عنه هو: ما مَعنى: “السُّنّة” في اللغة والاصطلاح؟ وسوف نتناول ذلك في عدة نقاط:
أوّلًا: معنى “السُّنّة” في اللغة:
بالرجوع إلى معاجم اللغة ودواوين العربيّة، نجِد أنّ لهذا اللفظ معانيَ عِدّة، أشهرها ثلاثة:
- السيرة: قاله الجوهري في (الصِّحاح: 5/2139)، وابن منظور في (اللسان: 13/225)، وابن فارس في (مجمل اللغة: 1/455)، والفيروز آبادي في (القاموس: 1558)، وغيرهم… كلّهم مادة: (س – ن – ن).
ب.الطريقة والعادة: ذكَره ابن منظور في (اللسان: 13/226)، والفيومي في (المصباح المنير: 292).
جـ. الطبيعة: ذكَره ابن منظور في (اللسان: 13/226)، وغيره…
– ثم إنّ منهم مَن أطلق السُّنّة على: مُطلق السيرة، سواء كانت حسَنة أو قبيحة، محمودة أم مذمومة. انظر: (مختار الصحاح: 317) و(التعريفات: 122) و(اللسان: 13/225) و(المصباح: 294) و(الكليات: 497).
– ومنهم: مَن خصّ ذلك بالطريقة المحمودة المستقيمة. قال الأزهري: “السُّنّة: الطريقة المحمودة المستقيمة؛ ولذلك قيل: فلان مِن أهل السُّنّة، معناه: مِن أهل الطريقة المستقيمة المحمودة”. وانظر: (اللسان: 13/226).
ومِن المعنى الأول: قول خالد بن عتبة -وقيل: خالد بن زهير الهذلي-:
فلا تَجْزعنْ مِن سيرةٍ أنت سِرْتَها | * | فأوّل راضٍ سنّة مَن يَسِيرُها |
كذا في (اللسان: 13/225)، وفي (الصحاح) وغيره:
فلاَ تَجْزَعَنْ مِن سُنَّةٍ … | * | … …. …. …. |
ومِن الثاني: قول الفرزدق:
فجاء بسنّة العُمَرَيْن فيها | * | شفاءً للصّدور مِن السّقامِ |
(النقائض 1013)
وهناك معنًى أخصّ مِن مُجرّد السِّيرة، وهو: أنّ كُلّ مَن ابتدأ أمْرًا عمِل به قومٌ بَعْده، قِيل: هو الذي سّنَّهُ. قال: نُصيب بن رباحٍ مولى عبد العزيز بن مروان:
كأنّي سننْتُ الحبّ أوّل عاشقٍ | * | مِن الناس إذْ أحببتُ مِن بيْنهم وحْدي |
(اللسان: 13/225). ومنه قول لبيد:
من معْشر سنَّت لهم آباؤهُمْ | * | ولِكلِّ قوم سُنّة وإمامُها |
ومنه قول حسان:
إنّ الذوائب مِن فهر وإخوتهم | * | قدْ بيّنوا سُنَّةً للنّاس تُتَّبَعُ |
ثانيًا: مأخذ اللّفظ:
إمّا أن يكون هذا اللّفظ مأخوذًا مِن قولهم: “جاءت الريح سنائن” أي: على طريقة واحدة.
أو من قولهم: “سَنَّ الرّجُل إبلَه”: إذا أحْسن رعايَتها والقيام عليها.
أو مِن السَّنَن، وهو: الطريق.
ثالثًا: معنى “السُّنَّة” في الاصطلاح عند الإطلاق:
إذا أُطلِقَت “السُّنّة” في لسان الشّرْع مِن غيْر تقييد لها باصطلاح طائفة مُعيَّنة مِن العلماء، فالمراد بها: كلّ ما جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم ممَّا لمْ يُذْكر في القرآن الكريم.
قال ابن الأثير: “تكرّر في الحديث ذِكْر السُّنّة وما تصرّف منها؛ والأصل فيها: الطّريقة والسِّيرة. وإذا أُطلقَت في الشّرع، فإنما يُراد بها: ما أمَر به النبي صلى الله عليه وسلم ونهَى عنه، وندَب إليه، قولًا وفعْلًا ممّا لم ينطق به الكتاب العزيز؛ ولهذا يقال في أدلّة الشّرع: الكتاب والسُّنّة، أي: القرآن والحديث”.
قال الشاطبيّ: “يُطلق لفظ: “السُّنّة” على ما جاء منقولًا عن النبي صلى الله عليه وسلم على الخصوص ممّا لم يُنصّ عليه في الكتاب العزيز، بل إنّ ما نصّ عليه مِن جهته صلى الله عليه وسلم كان بيانًا لِما في الكتاب أو لا، وإذا أُريد سُنّة غيْر النبي صلى الله عليه وسلم فإنها تُقيّد بذلك ولا تُطلق؛ فيقال: سُنّة الخلفاء، وسُنّة العُمَريْن…
وهكذا…”.