أوَّل سفراء الرسول صلى الله عليه وسلم إلى المدينة، وقصَّة إسلام سعد بن معاذ، وأسَيْد بن حضَيْر
لمَّا انصرف القوم مِن الأوس والخزرج، كتبوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم أنِ ابعثْ إلينا مَنْ يُقرئنا القرآن؛ فأرسل إليهم الصَّحابيَّ الجليل: مُصعب بن عمَير.
فمن هو مُصعب؟
هو: مُصعب بن عُمير بن هاشم بن عبد مناف، القرشي العبدري، أبو عبد الله، هاجر إلى الحبشة، شهد بدرًا واستشهد بأُحُد، كان فتى قريش، وقد وصفه صلى الله عليه وسلم بقوله: ((ما رأيتُ بمكة أحسن لمَّة، ولا أرقَّ حُلَّة، ولا أنعَم نعمة، مِن مُصعب بن عُمَير)). أسلم ورسول الله صلى الله عليه وسلم فِي دار الأرقم بن أبي الأرقم، وكان يكتمإسلامه، فرآه عثمان بن طلحة يصلِّي فأخبر قومه فحبسوه؛ فلم يزل محبوسًا إلى أنْ خرج إلى أرض الحبشة. وقد كان رضي الله عنه حامِل راية رسول الله صلى الله عليه وسلم فِي بدْر وأُحُد، ولما استشهد أخذَها عليُّ بن أبي طالب. لم يتْرك دينارًا ولا درهمًا، وعند وفاته لم تكنْ له إلَّا نمِرة كان إذا غُطِّيَ بها رأسُه خرجت رِجلاه، وإذا غُطِّيت رجلاه خرج رأسه، فقال صلى الله عليه وسلم: ((غطُّوا بها رأسَه، واجعلوا على رجْلَيْه مِن الإذْخِر)).
مُهمَّة مُصعب:
كانت مُهمَّته أنْ يُفَقِّه مَنْ أسلم فِي دِين الله، ويُقرئهم القرآن الكريم، ويدعو إلى الإسلام؛ وقد عُرف فِي المدينة بالمُقرئ والقارئ.
وقد نزل على سيّد الخزرج ونقيب بني النجار: أسعد بن زرارة بن عدس بن أبي أمامة.
نجاح مُصعب فِي مُهمَّتِهِ:
لقد نجح داعية الإسلام فِي مُهمَّته، وقد أسلم على يديْه الكثير مِن أهل المدينة. وكان مِن أجلِّ مَنْ أسْلم على يديْه: سعد بن معاذ، وأُسيد بن حضيْر؛ وبإسلامهما أسلم الكثيرون مِن بني عبد الأشهل.
قصّة إسلام سعد بن معاذ، وأسَيْد بن حضَيْر:
روى ابن إسحاق: أنَّ أسعد بن زرارة خرج بمُصعب بن عمير يريد به دار ابن عبد الأشهل ودار ابن ظفر، وكان سعد بن معاذ ابن خالة أسعد بن زرارة، فدخل به حائطًا مِن حوائط بني ظفر، فجلسا فيه، واجتمع إليهما رجال مِن أسلم، وسعد بن معاذ وأسيد بن حضير يومئذ سيِّدَا قومهما مِن بني عبد الأشهل، وكلاهما مشرك على دِين قومه، فلمَّا سمعا به، قال سعد بن معاذ لأسيد بن حضير: لا أبا لَك! انطلق إلى هذيْن الرجليْن اللَّذيْن قد أتيا دارنا ليُسفِّها ضعفاءَنا، فازجُرْهما وانهَهُما عن أنْ يأتِيا دارنا! فإنه لولا أنَّ أسعد منِّي حيث علمْتَ، كفيْتُك ذلك، فأخذ أسيد بن حضير حَرْبته، ثم أقبل إليهما، فلمَّا رآه أسعد بن زارة، قال لمصعب بن عميْر: هذا سيِّد قومِه، فأصْدِق الله فيه! قال مُصعب: إنْ يجلِسْ أُكلِّمْه!
قال: فوقف علينا متشتِّمًا، قال: ما جاء بكم إلينا تسفِّهان ضعفاءنا؟ اعتزلانا إنْ كانت لكما بأنْفسكما حاجة! فقال له مصعب: أوَ تجلس فتسمع، فإنْ رضيتَ أمرًا قبلْتَه، وإن كرِهْتَه كُفَّ عنك ما تَكْره! فقال: أنصفْت، ثم ركَز حرْبَته وجلس إليهما، فكلَّمه مُصعب بالإسلام، وقرأ عليه القرآن، فقالا: والله لَعَرفْنا فِي وجهه الإسلام قبل أنْ يتكلَّم به فِي إشراقه وتسهله، ثم قال: ما أحسن هذا الكلام وأجمله! كيف تصنعون إذا أردتم أن تدخلوا فِي هذا الدِّين؟ قالا له: تغتسل فتطهر، وتطهَّر ثوبيْك، ثم تشهد شهادة الحق، ثم تصلِّي، فقام واغتسل وطهَّر ثوبيْه، وتشهَّد بشهادة الحق، ثم قام فصلَّى ركعتيْن، ثم قال لهما: إنَّ ورائي رجلًا إنِ اتَّبعكما لم يتخلَّف عنه أحد مِن قومه، وسأرسله إليكم الآن: سعد بن معاذ، ثم أخذ حربته وانصرف إلى سعد وقومه، وهم جلوس فِي ناديهم، فلمّا نظر إليه سعد بن معاذ مقبلًا قال: أحلِف بالله لقد جاءكم أسيْد بغيْر الوجه الذي ذهب به مِن عنْدكم! فلمَّا وقف على النادي، قال له سعْد: ما فعلت؟
قال: كلَّمتُ الرَّجليْن، فوالله ما رأيت بهما بأسًا، وقد نهيْتُهما فقالا: نفعل ما أحببت، وقد سمعتُ أنَّ بني حارثة خرجوا إلى سعد بن زرارة ليقتلوه؛ وذلك أنَّهم عرفوا أنه ابن خالتك ليُحقِّروك.
فقام سعد مغضبًا مبادرًا مخوفًا للَّذي ذُكر له مِن أمْر بني حارثة، وأخذ الحربة فِي يده، ثم قال: والله ما أراك أغنيت شيئًا، ثم خرج إليهما سعد بن معاذ، فوجدهما مطمئنِّيْن، فعرف أنَّ أسيدًا إنَّما أراد أنْ يسمع منهما، فوقف متشتمًّا، ثم قال لأسعد بن زرارة: والله يا أبا أمامة، لولا ما بيْني وبيْنك مِن القرابة ما رُمتَ هذا مني! أتغْشانا بدارنا بما نَكْره؟! وكان سعد قال لمصعب: لقد جاءك سيِّد مَنْ وراءه مِن قومه إنْ يتَّبعْك لا يختلف منهم اثنان، فقال له مصعب: أو تقْعد فتسمع! فإن رضِيت أمرًا ورغبت فيه قَبِلْتَه، وإنْ كرِهْتَه عزلنا عنك ما تَكْره. فقال سعد: أنصفْت، ثم ركز الحَربة وجلس، فعرض عليه الإسلام، وقرأ القرآن، وقِيلَ: قرأ عليه بِداية سورة (الزخرف). قالا: فعرفْنا والله فِي وجهه الإسلام قبل أنْ يتكلَّم فِي إشراقه وتسهِّله، ثم قال لهما: كيف تصنعون إذا أنتم أسلمْتم ودخلتم فِي هذا الدين؟ فقالا: تغتسل فتطهر، وتطهِّر ثوبيْك، ثم تشهد شهادة الحق، ثم تصلِّي ركعتيْن، ثم أخذ حربته فأقبل عائدًا إلى نادي قومه ومعه أُسيْد بن حضير، فلما رآه توجَّه مقبلًا، قال: أحلف بالله لقد رجع إليكم بغيْر الوجه الذي ذهب به مِن عندكم! فلما وقف عليهم، قال: يا بني عبد الأشهل، كيف تعلمون أمري فيكم؟ قالوا: سيِّدنا وأفضلنا رأيًا، وأيمننا نقيبة، قال: فإنَّ كلام رجالكم ونسائكم عليَّ حرام، حتى تؤمنوا بالله ورسوله، قال: فوالله ما أمسى فِي دار بني عبد الأشهل رجل ولا امرأة إلا مسلمًا، ولم يبق منهم إلَّا أصيرم عمرو بن ثابت، فإنه تأخَّر إسلامه إلى يوم أُحُد، وأسلم حيئنذٍ وقاتل فقُتل قبْل أن يسجد لله سجدة واحدة، فأخبر عنه النبيُّ صلى الله عليه وسلم فقال: ((عمِل قليلًا وأُجِر كثيرًا)).
ورجع مصعب إلى منزل أسعد بن زرارة، فأقام عنده يدعو الناس إلى الإسلام، حتى لمْ تبْق دار مِن دور الأنصار إلَّا وفيها رجال مسلمون ونساء مسلمات.
وقبل حلول الموسم التالي -أي: حجّ السنة الثالثة عشرة- عاد مصعب بن عمير إلى مكة ليُبشِّر الرسول صلى الله عليه وسلم بنجاح مُهمَّته بتوفيق الله تعالى.