إثبات أن البخاري ومسلمًا أخرجا للراوي الذي ليس له إلا راو واحد
وقد عارض أبو الفضل محمد بن طاهر المقدسي -الَّذي توفي (507هـ)- الحاكم في هذا، وقرَّر أن البخاري ومسلمًا لم يكن عندهما هذا الشَّرط، ولا نُقل عن واحدٍ منهما أنه قال بذلك، وأنَّ الحاكم لم يُقدِّر هذا التَّقدير عن استقراءٍ يصل به إلى نتيجة صحيحة أو إلى يقين، وإنما قاله على الظَّنِّ؛ لأنّ ما في الصَّحيحيْن على خلاف ذلك. ثم ساق الأمثلة التي تنقضُ ما ذهب إليه الحاكم.
وقد أخرج البخاري حديث قيس بن أبي حازم، عن مرداس الأسلميِّ قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ((يذهب الصَّالحون أسلافًا، ويُقبض الصَّالحون أسلافًا، الأوّلَ فالأوّل، حتى تبقى حُثالة كحثالة التَّمر والشَّعير، لا يبالي الله عز وجل بهم شيئًا))، (البخاري): (4156)، و(6434). وليس لمرداس راوٍ غيرُ قيس.
ومن هذه الأمثلة:
حديث قيس بن أبي حازم، عن مرداس الأسلميِّ قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ((يذهب الصَّالحون أسلافًا، ويُقبض الصَّالحون أسلافًا، الأوّلَ فالأوّل، حتَّى تبقى حثالةٌ كحُثالة التَّمر والشَّعير، لا يُبالي الله عز وجل بهم شيئًا)). قال: وليس لمرداسٍ راوٍ غيرُ قيس.
والحديث في “البخاري” في باب: ما جاء في الرِّقاق، وأن لا عيشَ إلَّا عيشُ الآخرة، أي: في كتاب: ما جاء في الرِّقاق، في باب: ذَهاب الصَّالحين، وهو رقم (4156، 6434).
وأخرج البخاريُّ ومسلم حديثَ المسيَّب بن حزم، في وفاة أبي طالب قال: ((إنَّ أبا طالب لمَّا حضرته الوفاة، دخل عليه النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم وعنده أبو جهل، فقال: أيْ عمِّ! قل: “لا إله إلا الله”! كلمة أُحاجُّ لك بها عند الله. فقال أبو جهل وعبدُ الله بن أميَّة: يا أبا طالب، ترغب عن ملةِ عبد المطلب؟ فما زالا يُكلِّمانِهِ حتَّى قال آخِرَ شيءٍ كلَّمهم به: على ملَّة عبد المطلب. فقال النبي صلى الله عليه وسلم: لأستغفرنَّ لك، ما لم أُنْهَ عنك. فنزلت: {مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُواْ أَن يَسْتَغْفِرُواْ لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كَانُواْ أُوْلِي قُرْبَى مِن بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُمْ أَصْحَابُ الْجَحِيم} [التوبة: 113]، ونزلت: {إِنَّكَ لاَ تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَن يَشَاء وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِين} [القصص: 56])).
ولم يروِ عن المسيَّب إلا ابنُه سعيدُ بن المسيَّب.
وهذا الحديث في باب: قصة أبي طالب، في باب: مناقب الأنصار عند (البخاري)، وفي كتاب: التفسير في تفسير سورة “براءة” وتفسير “القصص”، وفي كتاب: الأيمان، باب: إذا قال: “والله لا أتكلّم اليوم”.
وفي (صحيح مسلم)، في باب: الدَّليل على صحة إسلام من حضره الموت، من كتاب: الإيمان.
وأخرج البخاري حديث الحسن البصري، عن عمرو بن تغلب: ((إنِّي لأُعطي الرَّجل، والذي أدعُ أحبُّ إليَّ من الَّذي أُعطي؛ ولكن أُعطي أقوامًا لِما أرى في قلوبهم من الجزع والهلع، وأكلُ قومًا إلى ما جعل الله في قلوبهم من الغِنى والخير، فيهم عمرو بن تَغلب)). قال عمرو بن تغلب: “فوالله ما أُحبُّ أنَّ لي بكلمة رسول الله صلى الله عليه وسلم حُمْرَ النَّعَم”. أخرجه البخاري في كتاب: التَّوحيد، في باب: قول الله تعالى: {إِنَّ الإِنسَانَ خُلِقَ هَلُوعًا} [المعارج: 19].
كما يقرر أبو الفضل المقدسي: أنَّ هناك أمثلةً في (البخاري) غير هذه، كما يُشير إلى أنَّ الحاكم ليس أولَ من ذهب إلى هذا. ولكنَّ أبا عبد الله محمد بن إسحاق بن منده (ت 395هـ) ذهب إلى ذلك؛ وهما متعاصران.
فقد قال: من حكم الصَّحابي أنَّه إذا روى عنه تابعيٌّ واحد -وإن كان مشهورًا مثل الشَّعبي وسعيد بن المسيَّب- يُنسب إلى الجهالة. فإذا روى عنه رجلان، صار مشهورًا واحتُجَّ به. وعلى هذا بَنى محمد بن إسماعيل البخاري ومسلم بن الحجَّاج كتابيْهما الصَّحيحيْن، إلا أحرفًا تبيَّن أمرُها، أي: إلا أحاديث قليلة لم يكن لراوي كلٍّ منها من الصحابة إلا راوٍ واحد.
فابن منده لم يرسل الأمر على إطلاقه، فيتورَّط فيه كما تورَّط الحاكم.
ورأى المقدسيُّ: أنَّ شرط البخاري ومسلم هو: أنَّهما يُخرجان الحديث المتَّفق على ثقة نقَلَتِه إلى الصَّحابيِّ المشهور من غير اختلاف بين الثِّقات والأثبات، ويكون إسنادُه متَّصلًا غيرَ منقطع. فإن كان للصَّحابيِّ راويان فصاعدًا فحَسن، وإن لم يكن له إلا راوٍ واحد، إذا صح الطريق إلى ذلك الراوي أخرجاه.
وهذا الكلام من المقدسي معناه: أنَّهما أخرجا الأربعة أقسام الأولى من الصحيح المتفق عليه.
وجاء بعد أبي الفضل المقدسي محمد بن طاهر المقدسي، الحافظ أبو بكر محمد بن موسى الحازمي، ففصّل القول في ردِّ دعوى الحاكم، وأتى بأمثلةٍ أكثرَ ممَّا أتى به المقدسي.
وإنصافًا للحق نقول:
إنَّ هناك احتمالًا كبيرًا -كما قلنا- في أنَّ الحاكم قد رجع عن رأيه الَّذي ردَّه المقدسيُّ والحازميُّ؛ فقد قال في (المستدرك): وقد قدّمت في أوّل هذا الكتاب: أنَّ الصَّحابيَّ المعروف، إذا لم نجد له راويًا غير تابعيٍّ واحدٍ معروف، احتججنا به وصحّحنا حديثه؛ إذ هو صحيح على شرطهما جميعًا. فإنَّ البخاري قد احتجَّ بحديث قيس بن أبي حازم، عن مرداس الأسلمي، عن النبي صلى الله عليه وسلم: ((يذهب الصَّالحون…)) يعني: ((أسلافًا أسلافًا)). كما ذكرنا هذا الحديث.
واحتج بحديث قيس بن عدي بن عميرة، عن النبي صلى الله عليه وسلم ((من استعملناه على عملٍ فكتمَنا مِخيطًا…)) إلى آخِره. وليس لهما راوٍ غير قيس بن أبي حازم.
وكذلك احتجَّ مسلم بأحاديث مالك الأشجعي عن أبيه، وقد رجَّح السَّخاويُّ أنَّ الحاكم رجع عن قوله، ذكر ذلك في كتابه: (فتح المغيث).
قال المقدسي: إنَّ شرط الشَّيخيْن: إخراجُ الحديث عن عدليْن وهلمَّ جرًَّا، إلى أن يتَّصل الحديث، فليس كذلك أيضًا، لأنهَّما قد خرَّجا في كتابيْهما أحاديث جماعة من الصحابة، ليس لهم إلا راوٍ واحد، وأحاديثَ لا تُعرف إلا من جهة واحدة. وأنا أذكر من كلِّ نوعِ أحاديثَ تدُلُّ على نقيض ما ادَّعاه:
– فمن ذلك: حديث مرداس الأسلميِّ: ((يذهب الصَّالحون الأول فالأولَ…)) الحديث. وهذا حديثٌ تفرَّد البخاري بإخراجه، ولم يروِ عنه غير قيس بن أبي حازم. يعني: لم يرو عن مرداس إلا قيس بن أبي حازم. رواه البخاري عن يحيي بن حماد، عن أبي عوانة، عن بيان، عن قيس، عن مرداس الأسلمي، وليس لمرداس في كتاب البخاري سوى هذا الحديث. وقد ذكر الحاكم في القسم الثاني مرداس بن مالك الأسلمي، وعدَّه فيمن لا يُخرج عنه في (الصَّحاح) شيءٌ. وهذا الحديث يردُّ عليه قولَه ويبيِّن خطأه. (شروط الأئمة الخمسة صـ33).
– ومنها: حديث حزن بن أبي وهب المخزومي وهو: جدُّ سعيد بن المسيّب، خرَّج عنه البخاري حديثيْن:
أحدهما: في مناقب الأنصار قال: ((جاء سيلٌ في الجاهلية، فكسا ما بين الجبليْن)). (البخاري: كتاب: مناقب الأنصار، باب: أيام الجاهلية، رقم 3833).
والثاني: في مناقب الأنصار أيضًا: ((أنَّ النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم قال لحزن هذا: ما اسمك؟ قال له: اسمي: “حزن”. فقال: بل أنت سهل! فقال: لن أُغيِّر اسمًا سمَّاني به أبي)). (البخاري: كتاب: الأدب، باب: اسم “حزن”، رقم 6190).
قال سعيد بن المسيَّب: “فما زالت الحزونة فينا”، أي: الشِّدَّة فينا حتى الآن. انفرد بهذيْن الحديثيْن اللّذين رواهما حزن بن أبي وهب المخزومي، وهو من الصحابة رضي الله عنهم انفرد بهما عنه ابنه المسيب، وعن المسيب ابنه سعيد بن المسيب.
– ومنهم: زاهر بن الأسود الأسلمي، خرَّج عنه البخاري حديثًا واحدًا وهو: ((إنِّي لأوقد تحتَ القُدور بلحوم الحُمُر؛ إذ نادى منادي رسول الله صلى الله عليه وسلم: إنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم ينهاكم عن لحوم الحمُر)). وقد تفرَّد بالرواية عنه ابنُه مجزأة بن زاهر.
– ومنهم: عبد الله بن هشام بن زُهرة القرشي، أخرج البخاري عنه حديثيْن:
أحدهما: ((كُنَّا مع النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم وهو آخذٌ بيد عمر، فقال له عمر: يا رسولَ الله لأنتَ أحبُّ إليَّ من كلِّ شيءٍ…)) الحديث.
والثَّاني: قال: ((ذهبت به أمُّه زينبُ بنت حُميد إلى النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم فقالت: يا رسولَ الله بايعْه، فقال: هو صغيرٌ…)) الحديث. وقد تفرَّد بالرِّواية عن عبد الله بن هشام بن زهرة القرشي، وهو من الصَّحابة > تفرَّد عنه ابن ابنه زهرة بن معبد.
– ومنهم: عمرو بن تغلب من الصَّحابة، أخرج عنه البخاري حديثيْن:
أحدهما: ((إنِّي لأعطي الرَّجل… وأدع الرَّجل…)). هذا الحديث الذي ذكرناه قبلًا.
والثَّاني: ((إنَّ من أشراط السَّاعة: أن تُقاتلوا قومًا ينتعلون الشَّعر…)) الحديث.
وقد تفرَّد براوية هذين الحديثيْن عن عمرو بن تغلب: الحسن بن أبي الحسن، يعني: البصري، ولا يعرفُ له راوٍ غيره.
– ومنهم: عبد الله بن ثعلبة بن سعير، أخرج عنه البخاري حديثًا واحدًا موقوفًا، تفرَّد به الزُّهري عنه، ولا يُعرف له راوٍ غيرُ الزُّهري.
– ومنهم: سنين أبو جميلة السُّلَميُّ، من أنفُسهم، أخرج البخاري عنه طرفًا من حديث، ولم يروه عنه غيرُ الزُّهري من وجْه يصحُّ مثلُه.
– ومنهم: أبو سعيد بن المُعلَّى، أخرج عنه البخاري حديثًا واحدًا، قال: ((كنت أُصلِّي في المسجد، فدعاني رسول الله صلى الله عليه وسلم فلم أُجبْه. ثم أتيْته فقلت: يا رسول الله، إنِّي كنت أصلِّي…)) الحديث. وقد تفرَّد به عنه حفص بن عاصم بن عمر بن الخطاب، ولا رواه عنه غير خبيب بن عبد الرَّحمن بن خبيب بن يساف.
– ومنهم: أبو عقبة سويد بن النُّعمان بن مالك بن عامر الأنصاري، وكان من أصحاب الشَّجرة، أخرج عنه البخاري حديثًا واحدًا: ((خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم عامَ خبير، حتى إذا كنا بالمُهيَّا، وهي من أدنى خيبر…)) الحديث. وقد تفرَّد به عنه بشير بن يسار.
– ومنهم: خولة بنت ثامر، وقد أخرج البخاري منفردًا به حديثَ أبي الأسود، عن النُّعمان بن أبي عيَّاش، عن خولة بنت ثامر، عن النبيصلى الله عليه وسلم: ((إنَّ رجالًا يتخوَّضون في مالِ الله بغير حقٍّ)).
قال الدارقطني: ولا تُعرف خولة بنت ثامر إلا من هذا الحديث، ولم يروِ عنها غيرُ النعمان بن أبي عياش. وهذا اللفظ يشبه لفظ عبيد سنوطة، عن خولة بنت قيس بن قهد، امرأة حمزة عمِّ النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم فإن كانت هي التي روى عنها النُّعمان بن أبي عيَّاش ونسبها إلى ثامر، فالحديث مشهور. وإن كانتا امرأتيْن، فابنة ثامر لم يروِ عنها غيرُ النُّعمان بن أبي عياش.
هذا ممَّا رواه البخاريُّ، ويتناقض عما ذكره الحاكم عنه في القسم الثَّاني، وفيما ذكره في القسم الأول.
إثبات أنَّ مسلمًا أخرج للصَّحابي الذي ليس له إلا راوٍٍ واحد:
أ. فيما ذكره الحاكم في القسم الأول:
قال الحازميُّ:
– وممَّن تفرد مسلم بإخراج حديثه، على النَّحو المذكور: عديُّ بن عميرة الكندي: أخرج مسلم له حديثًا واحدًا، وهو: ((مَن استعملناه على عملٍ، فكتمَنا مِخيطًا فما فوقَه…)) الحديث. (مسلم: كتاب: الإمارة، باب: تحريم هدايا العمال، رقم 1833). ولم يروِ عنه غيرُ قيس بن أبي حازم.
ب. فيما ذكره الحاكم في القسم الثاني:
– المستورد بن شداد الفهري، في مفاريد قيس بن أبي حازم. وزعم أنَّه لم يُخرج البخاري ولا مسلم حديثه، ولا حديث من كان على هذا الوزان من المفاريد. وهذا مسلم بن الحجاج قد خرَّج للمستورد حديثيْن:
أحدهما: من رواية قيس بن أبي حازم قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((ما الدنيا في الآخرة، إلا مثل ما يجعل أحدكم أصبعه هذه -وأشار بالسَّبَّابة- في اليمِّ؛ فلينظرْ بمَ ترجع)). (مسلم: كتاب: الجنة وصفة نعيمها. باب: فناء الدنيا وبيان الحشر يوم القيامة، رقم 2858).
والثَّاني: أخرجه من حديث موسى بن عُلَيٍّ، عن أبيه عُلَيٍّ بن أبي رباح، قال: قال المستورد القرشي عند عمرو بن العاص، سمعتُ رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ((تقوم السَّاعةُ والرُّوم أكثرُ النَّاس…)) الحديث. (مسلم: كتاب: الفتن وأشراط الساعة، باب: تقوم الساعة والروم أكثر الناس، رقم 2898).
وقد روى عنه غير واحد من المِصريِّين والشَّاميِّين.
– ومنهم: قضبة بن مالك: أخرج عنه مسلم حديثًا واحدًا، قال: ((صلَّيتُ وصلَّى بنا رسولُ الله صلى الله عليه وسلم فقرأ: {ق وَالْقُرْآنِ الْمَجِيد} [ق: 1]…)) الحديث. ولم يروِِ عنه غير زياد بن علاقة، وقد زعم الحاكم أن قضبة هذا لم يخرج حديثه في “الكتابيْن” لِما توهَّمه.
– ومنهم: أبو عبد الله طارق بن أشيم: والد أبي مالك، أخرج عنه مسلم حديثيْن:
أحدهما: سمعتُ رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ((مَن قال: “لا إله إلا الله”، وكفَر بما يُعبد من دون الله، حرُم مالُه ودمُه؛ وحسابُه على الله)).
والثَّاني: ((كان الرجلُ إذا أسلم، علَّمه النبي صلى الله عليه وسلم الصَّلاة…)) الحديث. وقد تفرَّد بالرواية عن أبي عبد الله: طارق بن أشيم ابنُه أبو مالك سعد بن طارق.
– ومنهم: نبيشة الخير بن عبد الله بن عتاب: أخرج عنه مسلم حديثًا واحدًا في أيام التَّشريق: ((إنَّا كنَّا نهيْناكم عن لحومها أن تأكلوها فوقَ ثلاث…)). وقد أخرجه له البرقاني في كتابه المخرج عن الصَّحيحيْن حديثًا أخر في العتيرة، ولم يوجد في أكثر نسخ مسلم سوى الحديث الأول. وليس له راوٍ سوى أبي المليح عامر بن أسامة.
هذا، وقد أكثرنا من هذه الأمثلة ليتبيَّن لنا أنَّ الحاكم عندما زعم أنَّ الصَّحيحيْن لم يخرجا مثل هذه الأحاديث لم يكن على حقٍّ في ذلك، ولم يستقرئ استقراءً. ولعلَّه رجع عن ذلك كما نقلنا من نصَّه، وكما نقله عنه السَّخاوي.
ومواضع هذه الأحاديث -إن شاء الله تعالى- سنثبتها، سواء أكانت من البخاري أو من مسلم، سنثبتها في التَّلخيص.
بيان الحازمي أنَّ في “الكتابيْن” حديث: ((إنَّما الأعمالُ بالنِّيَّات))، وهو مُفردٌ غريب:
وقد نقد الحازميُّ أيضًا الحاكم في القسم الرَّابع من الصَّحيح وهو: “الغرائب”، فقال: ومن مفاريد التَّراجم في “الكتابيْن”: حديث الأعمال بالنيات: ((إنَّما الأعمالُ بالنِّيَّات، وإنَّما لكلِّ امرئٍ ما نوى. فمَن كانت هجرتُه إلى دنيا يُصيبُها أو إلى امرأةٍ ينكحُها، فهجرتُه إلى ما هاجر إليه)). فإنَّ البخاريَّ استفتح كتابه به، رواه عن الحُميدي، عن سفيان، عن يحيي بن سعيد الأنصاري، عن محمد بن إبراهيم التَّيمي، عن علقمة بن وقَّاص اللَّيثي، عن عمر بن الخطاب, عن النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم: ((إنَّما الأعمالُ بالنِّيَّات)).
هذا حديثٌ غريب وقد أخرجه البخاريُّ، على عكس ما يقولُ الحاكم أنَّه لا يُخرج مثلَ هذا. فهذا الحديث لم يروه أو لم يصحَّ عن أحد من الصَّحابة إلا من حديث عمر بن الخطاب, وعنه لم يروه إلا علقمة بن وقَّاص اللَّيثي. وعن علقمة لم يروه إلا محمَّد بن إبراهيم التَّيمي. وعن محمد بن إبراهيم التَّيمي لم يروه إلا يحيي بن سعيد الأنصاريّ. ثم رواه الكثيرون عن يحيي بن سعيد الأنصاري،. فهو في كل حلقة من حلقاته إلى أن وصل إلى يحيي بن سعيد الأنصاري هو فردٌ غريب، وإن كان صحيحًا وفي أعلى درجات الصِّحَّة؛ لأنَّه متَّفق عليه، وهو عند البخاري ومسلم.
قال الحازمي: وقد أُخرج هذا الحديث في “الكتابيْن”، في عدّة مواضع. وهو من غرائب الصحيح، مدنيُّ المخرج. ولم يُرو عن النبي صلى الله عليه وسلم من وجْه يصح مثله إلا من حديث عمر. فهو في الحقيقة من مفاريده. ولا يثبت عن عمر إلا من رواية علقمة. ولا رواه عن علقمةَ إلا التَّيمي، تفرَّد به يحيي بن سعيد الأنصاري. وقد رواه عن يحيي خلقٌ كثير.
وهذا الحديث أصلٌ من أصول الدين، ولا يُشَكُّ في صحَّته، لِما بسطه البدر العيني وغيرُه، وإن لم تخرجه المتابعات الضعيفة عن الفرديَّة.
قال الحازمي: وهذا بابٌ لو استقصيتُه لأفضى إلى الإكثار، وتجاوز حد الاختصار. ومَن طالع تراجم حديث الشَّاميِّين والمصريِّين، وجد لِما ذكرناه نظائر كثيرة؛ فإنَّ حديث الحمصيِّين ومن يدانيهم ضيِّقُ المخرج جدًَّا، ولهذا قلَّما يوجد في الشَّاميِّين والمصريِّين حديث يُعتنى بجمع طُرقه، ويُذاكر به في السِّيَر من حديث الشَّاميِّين الدِّمشقيِّين، وذلك لضيق مخرج حديثهم.
قال: ومن أمعن النظر في هذه الأمثلة المذكورة، بان له فسادُ وضع الأقسام الَّتي ذكرها الحاكم.
ثم قال: وإذ قد فرغنا من إبطال هذه الدَّعوى؛ فلنذكر التَّحقيق في قبول الأخبار من الثِّقات الموصوفين بالشَّرائط التي يأتي ذكْرها، وهي: العدالة، والضَّبط، والاتِّصال، وغير ذلك ممَّا هو معروف في تعريف الحديث الصحيح. فمهما كانت تلك الشروط موجودةً في حق راوٍ، كان على شرطهم وغرضهم، وله منهم قبول خبره تفرَّد بالحديث أو شاذَّه غيرُه فيه.
نعم، يفيد هذا في باب التَّرجيحات -وهذا هو فائدة تقسيم الحاكم كما قلنا- عند تعارض الأخبار، حالةَ المذاكرة بين المتناظرين، وذلك من وظيفة الفقهاء؛ لأنّ قصدهم إثباتُ الأحكام، ومجالُ نظرهم في ذلك متَّسعٌ. وقد أورد بعضُ أئمَّتنا في باب التَّرجيحات نيِّفًا وأربعين وجهًا في ترجيح أحد الحديثيْن على الآخَر.